منوعات

فريق صيانة آلي يذهب إلى أماكن لا يستطيع البشر الوصول إليها


كيف يمكننا أن نجري إصلاحات داخل مفاعل نووي؟ ربما تكمن الإجابة في طائرات صغيرة من دون طيار يمكنها التحليق والسير على الأرض أيضا.

تمتد الأيادي الآلية التي يُتحكم بها عند بعد لتصل إلى طائرة مسيرة في حجم كرة القدم تحلّق من دون طيار داخل قاعة ذات جدران معدنية منحنية لم تكتمل بعد.

وتغطي بعض جدران القاعة ألواح سوداء وبيضاء، بينها مساحات معدنية تركت مكشوفة، لم يأت دورها بعد.

هذه القاعة هي نموذج يحاكي أكبر مفاعل اندماج نووي في العالم بدأ تشغيله بالفعل، وإن كان في طور التجربة، والذي يبدو وكأنه مستوحى من مسلسل “دكتور هو” الشهير.

لقد أصبح من الممكن بالفعل أن تعمل الطائرات من دون طيار جنبًا إلى جنب مع أجهزة الروبوت التقليدية داخل مفاعل نووي، وهذا يعني أنها قد تتمكن في المستقبل من صيانه المفاعلات من هذا النوع بالتحكم الذاتي.

ولا عجب إن كان هذا الاكتشاف يلقى استحسانًا واحتفاء من جانب الباحثين، لأنه قد يمثل خطوة تاريخية في عالم التصنيع.

وقد كانت هذه التجربة ثمرة تعاون بين فريق من مركز “ريس” – (أو مركز تطبيقات التحكم عن بعد في البيئات الصعبة)- التابع لهيئة الطاقة الذرية البريطانية، وفريق من جامعة إمبريال كوليدج لاختبار مدى جدوى استخدام طائرات من دون طيار في صيانة الجيل القادم من مفاعلات الطاقة النووية.

فيجب أن تدار مفاعلات الاندماج النووي التجارية في المستقبل من دون الاستعانة بعدد كبير من الناس لتشغيل المفاعل كما هو الحال في المفاعلات النووية في يومنا هذا.

وبهذا لن نعرّض حياة الكثير من البشر للخطر، لأن المفاعلات بجميع أنواعها تمثل خطرًا على الحياة بسبب ما تنتجه من إشعاعات كثيفة.

وتجرى هذه التجارب على بعد 10 أميال جنوبي مدينة أكسفورد في مبنى هائل الحجم بلا نوافذ، في قاعدة عسكرية سابقة، ويسمى الآن مركز كولهام للطاقة الإندماجية، وهو معمل قومي بريطاني لأبحاث الإندماج النووي.

وتحتضن كولهام منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي محطة الطاقة الاندماجية التجريبية المعروفة باسم مفاعل توروس الأوروبي المشترك (جيت). وهذه المحطة ذاتها هي نموذج أولي، كان الغرض منها تمهيد الطريق لإقامة مفاعلات أكبر حجمًا قد تتصل بشبكة توزيع الكهرباء.

صممت هذه الطائرات من دون طيار لتعمل في الأماكن والمساحات الضيقة

ويجري في الوقت الحالي تشييد مفاعل الاندماج التجريبي (إيتر) الأكبر حجمًا، وهو مفاعل نووي حراري دولي في فرنسا. وما زالت أول محطة طاقة بحجم تجاري في طور التخطيط، وهي محطة “ديمونستريشن” للطاقة المعروفة اختصارا باسم ديمو، والتي من المفترض أن تنبني على النتائج المستقاة من مفاعل إيتر وتطورها.

لقد اشتهرت الطاقة النووية بخطورتها، ولكن هذه السمعة مصدرها مفاعلات الانشطار النووي في الوقت الحالي. إلا أن الاندماج النووي، في المقابل، يسخّر الطاقة التي تمدّ النجوم بالضوء، إذ يولد تفاعل الاندماج النووي الطاقة من خلال دمج نواتي ذرتين معًا بدلًا من انشطار الذرات عن بعضها.

ثم يُدخل هذا التفاعل في المعتاد داخل مجال مغناطيسي قوي في المفاعل. ولأن هذا التفاعل يتطلب قدرًا كبيرًا من الطاقة، فإن التحدي يكمن في إنتاج طاقة من التفاعل أكثر من الطاقة المبذولة لحدوث التفاعل.

إن الاندماج النووي لديه المقومات اللازمة لتوفير طاقة لا حدود لها، ورخيصة الثمن أيضا في المستقبل، فضلًا عن أنه لا ينتج نفايات نووية خطيرة كشأن المفاعلات النووية الحالية، ويعزى ذلك إلى حد ما إلى الكميات الضئيلة نسبيًا من المواد المشعة اللازمة لإكمال التفاعل.

ولكن إلى جانب التحدي المهني لاستكمال مفاعل الاندماج النووي التجريبي، فإن المفاعلات من هذا النوع المبنية حتى وقتنا هذا، تتطلب الكثير من الوقت والأيدي العاملة لكيلا تتوقف عن العمل. ومع بناء مفاعلات إندماج نووي أكبر حجمًا وأكثر تطورًا، بات من الضروري تطوير الوسائل التكنولوجية المطلوبة لصيانة هذه المفاعلات لكي تصبح مجدية تجاريًا.

لازلنا نقف على رافعة أقيمت خارج وعاء كبير، تبقى بعد إنتهاء أعمال بناء المفاعل، ومع مرور السنوات، أدخل عليه المهندسون تعديلات ليتمكنوا من تنفيذ كل الأعمال المطلوبة تقريبًا في مفاعل حقيقي.

وتستخدم إحدى الذراعين الأليتين كبيرتي الحجم عادة من أجل التأكد من أن المفاعل متصل بأحد جوانب الوعاء.

ويسمح هذا النظام المتطور المكون من ذراعين لمشغلي المفاعل بتنفيذ مهام الصيانة والتطوير من دون الدخول إلى المفاعل، وقد ساعدهم بالفعل في تغيير سبعة آلاف بلاطة في جدار المفاعل.

كما يتضمن نظام مراقبة يُمكّن مشغلي المفاعل من رؤية جميع زوايا المفاعل والتجول ببصرهم في جميع الاتجاهات من خلال تقنية الواقع الافتراضي بزاوية 360 درجة، من دون أن يدخلوا إلى المفاعل ويتعرضوا لجرعة من الإشعاع قد تفضي إلى الموت.

وعندما كنا نشاهد العرض التوضيحي، كان مشغل الطائرة المسيرة التي تسمى “آس تيك هامنغبيرد”، يجد صعوبة في التحكم في طائرته ذات الأربع مراوح، بسبب الاضطرابات الهوائية الناتجة عن دوران مراوحها الأربعة في تلك المساحة الضيقة.

يعتقد ميركو كوفاك، مدير معمل أبحاث تصنيع أجهزة الروبوت الطائرة، أن تلك الأجهزة قادرة على إنجاز المهام المتوقعة منها

ولم يتزامن رد فعل مشغل الطائرة مع التغيرات الدقيقة في ضغط الهواء واتجاه الرياح، ومن ثم سقطت الطائرة رباعية المراوح وارتطمت بالجدار في طريقها إلى الأرض.

أما طائرة “آس تيك بليكان” المسيرة كبيرة الحجم، فقد أثبتت قدرة الطائرات من دون طيار على مسح جدران المفاعل للكشف عن أي خلل.

وآخيرًا جاء دور المركبة الهوائية “نانو”، وهي طائرة مسيرة رباعية المراوح، في حجم راحة اليد، ومصنوعة من بلاستيك شفاف ولوحة الدائرة الإلكترونية المطبوعة.

وقد قام بتصنيع هذه الطائرة فريق من معمل أبحاث تصميم أجهزة الروبوت الطائرة وتصنيعها التابع لجامعة إمبريال كولدج لندن، للبرهنة على قدرات التكنولوجيا المستوحاة من علم الأحياء، أي التكنولوجيا التي تستخدم المبادئ الهندسية الأساسية المستمدة من عملية التطور.

وقد جاء الفريق خصيصًا من لندن للتعاون مع مركز “ريس”، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُطلق فيها الطائرات المسيرة داخل مفاعل الاندماج “جيت”.

وترفرف الطائرة “نانو” في الهواء مثل البعوضة، ومن أجل توفير طاقة البطارية، تلتصق بمغناطيس على الجانب السفلي من لوح معدني يحمله الروبوت. ثم تجذب الطائرة سلكًا يلف حول بكرة ليعينها على النزول إلى الأرض مثل العنكبوت.

يقول ميركو كوفاك، مدير معمل أبحاث تصنيع أجهزة الروبوت الطائرة: “قد تكون الإشعاعات النووية خطيرة للغاية، ولذا فمن المهم أن نطور أجهزة روبوت تدخل إلى الأماكن التي لا يستطيع البشر الوصول إليها مثل هذا المفاعل النووي”.

وقد أوجز كوفاك فكرته عن استخدام التكنولوجيا المستوحاة من علم الأحياء في ورقة بحثية صدرت مؤخرًا في مجال العلوم بعنوان: “تعلم من الطبيعة كيفية التحكم في هبوط روبوت طائر”.

يقول كوفاك: “لقد أثبتنا اليوم أن الطائرات دون طيار وأذرع الروبوت يمكن أن يعملا معًا للتحقق من سلامة البنى، ولمساعدة بعضهما بعضًا. كما أوضحنا كيف تلتصق الطائرات المسيرة بالسطح المغناطيسي لتوفير الطاقة، ثم تنزل إلى الأماكن التي يصعب الوصول إليها، أو تزحف على السطح”.

وأردف كوفاك قائلًا: “إلا أن هذه هي المرة الأولى التي نطلق فيها هذه الطائرات دون طيارفي مكان كهذا، وهي بيئة شديدة الصعوبة. إذ كانت تحلق في مساحة صغيرة للغاية ومحددة وذات تصميم هندسي معقد”.

تعد المفاعلات النووية من أكثر الأماكن خطورة لعمل البشر

وتابع كوفاك: “إن تحليق الطائرة المسيرة في هذه البيئة قد يحدث كمية مذهلة من الاهتزازات التي قد يختل على إثرها توازن الطائرة عندما يُتحكم فيها عن بعد”.

يقول روب باكنغهام، مدير هيئة الطاقة الذرية البريطانية ورئيس مركز تطبيقات التحكم عن بعد في البيئات الصعبة (ريس): “إن الهدف الرئيسي يتمثل في إطلاق طائرة دون طيار داخل المفاعل. وقد تبين لنا أن هذه التكنولوجيا ليست جاهزة لذلك بعد.”

وتابع باكنغهام: “فمن أجل تحقيق ذلك، يجب أن تحلق الطائرة بالتحكم الذاتي، بحيث تكون استجابتها للاهتزازات أسرع من استجابة مشغل الطائرة لها. وإذا ما ارتطمت الطائرة بالمفاعل، قد تتلف الجدار، فضلًا عما ستخلفه من حطام. ولكن ذلك قد يتغير إذا استخدمنا وسائل صغيرة وخفيفة الوزن”.

أما في الوقت الحالي، فقد تستخدم الطائرات دون طيار لتحلق فوق المفاعل وتعد خرائط ثلاثية الأبعاد في الوقت الفعلي لأماكن الإشعاعات في مكان محدد، لمعرفة الأماكن الآمنة التي يستطيع البشر الذهاب إليها. ولكن من الواضح أن السماح للطائرات دون طيار بالقيام بهذه المهام سيكون أصعب من التحليق في نموذج لمفاعل.

يقول روب سكيلتون، رئيس قسم البرمجيات وأنظمة التحكم في مركز ريس: “لقد بدأنا ندرس بالفعل استخدام أجهزة روبوت تقوم بمهام التنظيف والكشف عن الخلل ونقل المواد من تلقاء نفسها في المصدر الأوروبي للجسيمات. إلا إن أجهزة الروبوت من هذا النوع تسير على الأرض، وهي أكثر ثباتًا ورسوخًا. ولم نفكر أبدًا في استخدام مركبات طائرة”.

وفي النهاية، يرى كوفاك أن المجال النووي برمته في مأزق، ويقول: “إذ أن هذا المجال لا يقبل التغيير، لأن تبعات وقوع الخطأ قد تكون مروعة. إلا أن أجهزة الروبوت الطائرة قد تساعد في نجاح الجيل القادم من مفاعلات الطاقة النووية من خلال الحد من المخاطر والتكاليف المصاحبة لعمليات الصيانة إذا ما قورنت بعمليات الصيانة التي يؤديها البشر”.

ولعل الجيل القادم من الطائرات دون طيار التي يصممها كوفاك بالفعل لكي تطير وتتسلق وتزحف، سيسهم في إيجاد مخرج من هذا المأزق.

BBC