تحقيقات وتقارير

تشرف عليهم شبكات منظمة الأطفال المتسولون.. البراء تتبعثر في الشوارع


عندما أوقفت سيارتي في استوب البلدية مع القيادة رغم محاولاتي المستميتة للمرور قبل إغلاقه حاصر السيارة مجموعة من الصبية كل يحمل “فوطة” في يده وبدأوا في مسح زجاجها رغم أنه نظيف، على غير العادة، صرفت الصبية عني بعد الاعتذار لهم بإشارة من يدي فانصرفوا إلا واحداً أصر على مسح الزجاج فقلت له: بدل البتعمل فيهو ده ما تشحد عدييل) فقال: (ما بشحد) فقلت له: (يعني كدة إنت شغال؟) فأجابني بأنِفة: (أيوا شغال) ومن ثم لم أحاول تغيير قناعاته بعمله.

وفي الأستوب بالقرب من مستشفى شرق النيل وقفت بجانبي تمد يدها أن (كرامة لله) وباليد الأخرى تحمل وليداً صغيراً وتبدو ملامحها من أنها أصغر من أن تكون أمَّاً فسألتها: (ده ولدك؟) فأجابت بـ(آآآي)، فقلت لها: (لكن انتي صغيرة وما ممكن تكوني أم) فانصرفت عني بسرعة واتجهت نحو سيارة أخرى علَّها تظفر من صاحبها بمبلغ من المال لم تجده عندي.

أحياناً يشعر المرء بالضيق من التفاف المتسولين حوله أطفالاً وكباراً بصورة فوق العادة ويكاد ينتهرهم لولا أن يتذكر الآية الكريمة: (وأما السائل فلا تنهر). وإذا لم أعطهم فكيف أطلب من المولى عز وجل أن يعطيني؟ ولكن كيف أستطيع أن أعطي كل هذا العدد من المتسولين الذين ينتهجون أساليب مختلفة للتسول؟

سؤال مهم يلح على الأذهان هل كل ذلك العدد من الأطفال المتسولين يمارسون التسول كحالات فردية تُمليها ظروفهم الأسرية أم أنهم ضحايا لسماسرة (الإتجار بالأطفال)؟ وما يرجح الإجابة الثانية أنهم يتبعون أسلوباً واحداً لـ(الشحدة) سواء (أطفال الفوطة) أو النساء (المبلمات) اللاتي يحملن أطفالاً- بعضهم حديثو الولادة- تحت حر هجير الصيف وزمهرير الشتاء وربما تحت زخات المطر ولا يمكن أن تسلك أم بطفلها ذلك السلوك إلا إذا كانت منزوعة القلب وإلا فهل تساوي كنوز الدنيا ابتسامة طفلها المعافى؟ وهل تمسح كنوز الدنيا دمعة ألم تذرفها عيناه الصغيرتان البريئتان؟.

* مع أطفال الفوطة

وعوداً على أطفال الفوطة فإنهم، كما ذكرت، لديهم إحساس بأنهم يمارسون مهنة شريفة ويأكلون من عرق جبينهم طالما أنهم يقفون يومهم كله تحت هجير الشمس وربما أوحى لهم بذلك، مستغلاً براءتهم، بعض ضعاف النفوس ممن يمكننا أن نسميهم (جوكية التسول) ومعروف أن الجوكية لا يظهرون للعيان ولكنهم بالتأكيد يحصدون النتائج.

لا أدري لماذا أوحى لي قلبي أن أصدق ذلك الطفل الذي وجدته في استوب البلدية مع القيادة حين سألته عن سبب امتهانه التسول فقال لي إنه يصرف على أسرته لأن والده مريض وعندما سألته: (أهلك عارفين إنك بتشحد)؟ قال: (لا). فقلت: (وبتقول ليهم جبت القروش من وين؟). فأجاب: (قلت ليهم بغسل عربات في شارع النيل)!

بلا شك فإن أولئك الأطفال ليسوا من فاقدي الرعاية الأسرية (مشردين) بدليل علاقاتهم القوية ببعضهم وكأنهم أبناء حيٍّ واحد أو بيت واحد يتقاسمون حصيلة العمل في نهاية اليوم.
وبالاستطلاع فإن معظم من يستخدمون الفوطة في الأستوب يعتقدون أنهم يمارسون عملاً وليسوا شحاذين بل إن البعض يتعاطف معهم كأن يقول السائق: (مش أخير مما يشحدوا). وهذا جعل المجتمع يحول التسول إلى مهنة ويدعمها. أما البعض الآخر فينظر إليهم على أساس أنهم لصوص ويحذرك عندما تتوقف في الإشارة بـ(أقفل القزاز ديل واحد يعمل فيها بمسح القزاز والتاني يجيك يشيل شنطتك ويجري).

*لماذا تركوا المدارس؟

معظم الذين شملهم الاستطلاع اشتكوا من الرسوم الدراسية. رغم ما تتشدق به وزارة التربية والتعليم حول مجانية التعليم والذي تدحضه إدارة المدارس بأن الرسوم أقرتها مجالس الآباء لزوم تسيير المدارس الذي رفعت الوزارة يدها عنه (شي كهرباء وشي موية وشي صيانة وشي طباشير… إلخ إلخ) فمنهم من يعمل ليجمع تلك المصاريف ومنهم من اختصر على نفسه رهق المدارس ومصاريفها فترك شريحة (أولاد المدارس) لينضم إلى (أولاد الشوارع) يدفعه إلى ذلك عبارة ظل والده يوبخه بها دائماً: (يا ولد ما تمشي تشتغل ليك شغلة تنفعك وتجيب ليك قرش وتفعنا). تلك العبارة التي يرددها في وجه ابنه كلما طلب منه (قروش الفطور).

وكأنما يجد الأب والطفل الملاذ في ذلك السمسار الذي يغري الوالد بقوله: (يا حاج أدينا ولدك ده ينزل معانا الشارع آخر اليوم يجيب ليك حاجة كويسة إنت تستفيد ونحن نستفيد)!
*مهتمون

طرحت تساؤلاتي حول تسول الأطفال والتسول بالأطفال على وزيرة التنمية الاجتماعية الولائية دكتورة/ أمل البيلي التي أكدت اهتمام الوزارة بقضية تسول الأطفال كإحدى القضايا التي يتأذى منها كل الناس في شوارع الخرطوم بجانب قضية المتشردين ولفتت إلى أن القضية تستهدف شريحة الأطفال وهي شريحة في موقع الصدارة بالنسبة للوزارة وبالتالي اهتمامها نابع من القيم ومن تعاليم الدين سواء كانوا سودانيين أو غير سودانيين.

و-حسب البيلي- فقد أُجيز في 2010 قانون الطفل القومي، وهو قانون إطاري ملزم لكل الولايات واتفاقيات الطفل الموقعة من حكومة السودان وهي الاتفاقية الوحيدة الموقعة من رئيس الجمهورية بدون تحفظ، لذلك فقد كان للأمر اهتمام خاص من الوزارة التي أنشأت وحدات ميدانية في أزقة وشوارع الخرطوم لتكون قريبة من الشارع وتقوم بالرصد الميداني اليومي لكل الظواهر السالبة بالتنسيق مع الأجهزة الشرطية وأمن المجتمع ومنظمات المجتمع المدني. وقالت إن الحصر الذي تم في العام 2014 أوضح أن 80% من المتسولين أجانب من دول معروفة إفريقية مجاورة، أما حصر العام 2016 فأوضح أن النسبة انخفضت لـ 60%.

*حقوق الأطفال في الإعلان العالمي

الناظر إلى عدد المتسولين الذين تضيق بهم الشوارع يكاد لا يصدق حديث الوزيرة بل يجزم بأن الوزارة لا تقوم بأي واجب تجاه أولئك الأطفال الذين أفرد لهم “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” في نوفمبر سنة1959 مساحة من الحقوق تقع على عاتق اسرهم والدولة، وإن كانت الأسر ربما لم تسمع بذلك الإعلان بل ربما كانت هي من يدفعهم للتسول وكأنها تظن أنها لم تقصر حين أخرجتهم إلى الدنيا ثم تركتهم يقتاتون من خشاش الأرض أو من أفواه وأيدي الناس فإن الدولة بلا شك تعلم مسؤوليتها تجاههم حيث ينص الإعلان على أن يتمتع الطفل حسب المبدأ السابع بفوائد الضمان الاجتماعي وأن يكونوا مؤهلين للنمو الصحي السليم وعلى هذا يجب أن يحاطوا هم وأمهاتهم بالعناية والحماية اللازمتين وللطفل الحق في قدر كافٍ من الغذاء والمأوى واللهو والخدمات الطبية، أما المبدأ السابع فينص على حق الطفل في التعليم مجانياً والزامياً كما ينص المبدأ التاسع على أن يتمتع الطفل بالحماية من جميع صور الإهمال والقسوة والإستغلال ويحظر الإتجار به على أي صورة ولا يجوز استخدام الطفل قبل بلوغه السن الأدنى الملائم ويحظر في جميع الأحوال حمله على العمل أو تركه يعمل في أي مهن أو صنعة تؤذي صحته أو تعليمه أو تعرقل نموه الجسمي أو العقلي أو الخُلُقي.

*مشكلات

إذن هل وعت وزارة التنمية الإجتماعية هذه الحقوق؟ وماذا قدمت للشريحة المعنية؟

حسب أمل البيلي فإن للوزارة مجهودات مبذولة لمعالجة قضية تسول الأطفال رغم العقبات التي اعترضت سبل المعالجة وتضيف: (وجدنا أن إحدى المشكلات الأساسية في معالجة التسول والتشرد هو ما يسمى بـ”التسول المنظم” الذي تديره شبكات وآخر فردي لظروف حقيقية وبعضهم يدعي الحاجة ويستخدم هذا الأمر كوسيلة لجمع المال، ونحن في معالجتنا لهذا الأمر لابد أن نكون موضوعيين حيث نقوم بجمع المشردين ثم نقدم لهم الرعاية الصحية والاجتماعية داخل الدُّور الإيوائية ولم شملهم مع أسرهم حتى في الولايات لأن معظمهم من الولايات المتأثرة بالحرب ثم نقوم بتدريبهم وتأهيلهم في الورش الموجودة بالدُّور ثم نتابع تلقيهم للتعليم ونقلهم بسيارات إلى المدارس المختلفة وبعض التعليم يتلقونه داخل الدور نفسها”. وقالت أمل: “بالبحث وجدنا أن سبب انفصالهم عن أسرهم الفقر ولذلك نقوم بتأهيل ودعم الأسر من خلال محفظة متخصصة للتشرد وأخرى للتسول وديوان، الزكاة أيضاً يتدخل بدعم مباشر سميناه (الحق المعلوم) يؤمِّن للأسرة قوتها لأكثر من شهر ويستمر في التواصل معه تلك الأسر.

*التسول بالأطفال

أما تلك التي مدت يدها لي في شارع المك نمر قرب مستشفى الشعب وهي تحمل طفلاً في طقس حار جداً لا أظن أن أمَّاً تخرج بطفلها فيه، فسألتها أيضاً: (ده ولدك؟) فأجابت بإيماءة من رأسها أن (نعم) وعندما سألتها عن والده قالت: (سافر البلد) فقلت لها: (وانتي عايشة مع منو؟) فقالت لي: (مع أمي) فقلت لها: (وهي وين هسة؟) فأجابت (سافرت نيجيريا). فقلت لها: (إنتي نيجيرية ولا سودانية؟) فأجابت وقد ضاقت بأسئلتي: (سودانية). ثم انصرفت.

منذ عهد الوزيرة أميرة الفاضل نسمع بعمليات (تسفير المتسولين الأجانب إلى بلدانهم ولو استمرت تلك المجهودات حتى الآن لما بقي في الخرطوم متسول أجنبي، ولكن دكتورة/ أمل البيلي قالت إن الوزارة ظلت تقوم بذلك العمل على نفقتها بمبالغ تفوق المليار، سنوياً، دون دعم من أي جهة رغم أن قضية تسول الأجانب لا تعني وزارة الرعاية الاجتماعية وحدها بل تعني أيضاً الوزارات المختصة بالحدود، كما أن وزارة الخارجية لها دور في عقد اتفاقيات ثنائية مع الدول التي يأتي منها الأجانب، ولكن الوزارة اصطدمت- حسب حديثها- بأن معظم تلك الدول لا تُجرِّم التسوُّل بل إن أحد سفراء تلك الدول قال لهم: (زول يقول كرامة لله ده حرام؟)! لذلك ساقية الوزارة مستمرة في إبعاد المتسولين الأجانب بمبالغ ضخمة ولكنهم يعودون مرة أخرى.

وتقول أمل: (لذلك وضعنا أول قانون متخصص في مكافحة ومعالجة التسول المنظم واصطدم بعقبات من المجلس التشريعي فاستصدرنا فتوى من مجمع الفقه وعقدنا ورشاً حتى خرج القانون وقد خرج مشوَّهاً لأنهم خففوا البند الخاص بالعقوبات وهذا بند رئيس في ردع المتعاملين في التسول وبعد مرور عام رفعنا مذكرة للمجلس التشريعي لتعديل المواد الخاصة بالردع واللجنة التي أنتجت القانون الخاص بالإتجار بالبشر، نحن كنا ضمنها، وقد اقترحت قانوناً خاصاً بالإتجار بالبشر وتمت إجازته على مستوى المجلس الوطني. وقالت: إن من أكبر التحديات أيضاً سعة الدُّور الإيوائية ولكن الآن نستعد لافتتاح المدينة الإيوائية ثم طرحنا الأمر في آخر اجتماع لوزراء الرعاية الاجتماعية حتى تتحمل الولايات مسؤوليتها تجاه المتسولين وهناك وعد من الرعاية الاجتماعية لتقديم دعم ولاية الخرطوم.

*من المحرر

الشكوى التي جرت على لسان وزارة التنمية الاجتماعية، مقروناً معها نعي الوزيرة لجهود جهات أخرى حكومية معنية بأمر أطفال التسول أو المتسول، يجعلنا نسأل عن دور اليونيسف ومنظمات المجتمع المدني الأخرى التي يُملي عليها دورها تهيئة مناخ مناسب للتعليم وإيصال التعليم لكل طفل حسب البيئة التي تناسبه؟!.

تحقيق : هويدا حمزة
صحيفة الصيحة


‫3 تعليقات

  1. ستين سنة .. من ما استقلينا من الانجليز.. ونحنا بنكسر بلدنا .. بالعون الذاتي.. بالتحطيم الذاتي
    ناقصين علم ؟؟ لا
    ناقصين موارد؟؟ لا
    ناقصين ايدي عاملة ؟؟ لا
    ناقصين وطنية ؟؟ …
    ناقصين وازع ديني ؟؟ …
    ناقصين همة واخلاق؟؟ …
    ناقصين ايمان برب العباد؟؟ …

  2. لو كان حقا هناك قوانين ومتابعه لتك الظواهر السالبة والمحسوبه على المجتمع السودانى لما وصل الامر هكذا ؟ واين هم المسئوليين اليس منواجباتهم دراسة تلك الظواهر والتعامل معهاى ووضع الحلول ولا اى شىء عندهم عاوز ميزانية ؟ والله المستعان الشماعه جاهزة وطيب السؤال لماذا تمتوطن السيارات الفارهه بدا من الوزير والى النائب والشعب فى الشوارع يشتحت وهل هه هى الاوليات عند الانقاذ ولا تسيب فى حقوق المواطن؟ واين حقوق واموال المواطن ومن شرع لكم تلك الامتيزات المواطن ام الدستور والشعب جيعان والخ وعاوزين اجابه يا البرلمان الموقر؟؟

  3. هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه أين انتم أيها الكيزان قاتلكم الله اضعتم السودان.