عالمية

لهذا السبب لا يفكر الاسد بالرحيل!


يروي الصحافي والمحلل السياسي سام هيلير كواليس مؤتمر إعلامي سوري، استضافه النظام السوري الشهر الماضي، في مقال له بمجلة “فورين بوليسي” الأميركية، ما دار في المؤتمر.

المؤتمر استضاف صحافيين من اكبر شبكات الأخبار ووكالاتها الأميركية والبريطانية، فضلاً عن محللين سياسيين، والهدف “تقديم واجهة أخرى للحرب، وفتح قناة حوار جديدة مع الغرب”، وفقاً لكاتب المقال.

وفي خضم التحولات الميدانية التي حدثت بالأشهر الأخيرة في سوريا، والتي تصبُّ في مصلحة النظام، خاصة إحكام حصاره على المعارضة شرقي حلب، والسيطرة شبه الكلية على غربي البلاد ذي الأهمية الاستراتيجية، يرى هيلير أن فرصة الحوار بين سوريا والغرب دبَّت فيها الحياة فجأة.

وبعد أن سلَّط الكاتب الضوءَ على محطات زيارته غادر العاصمة السورية وهو يقول: “إن النظام السوري غير قادر على التغيُّر. لكن إن كان كل من حوله يتغيرون، فلعله لن يضطر إلى التغيير من نفسه”.

وهذا نص المقال كاملاً كما نقله موقع “هافنغتون بوست”:

“لنا أن نخمن كم أن الحكومة السورية منتشية بسعادة عارمة حالياً، فقد أحكمت الحكومة وحلفاؤها حصار المعارضة شرقي حلب، أكبر المدن السورية ومركزها الاقتصادي قبل الحرب. كذلك أحكمت سيطرتها شبه الكلية على غربي البلاد، ذي الأهمية الاستراتيجية، خصوصاً المنطقة المحيطة بالعاصمة دمشق. وتتمتع الحكومة بدعم وثيق من إيران وروسيا، كما أنه منذ تاريخ 8 تشرين الثاني غدا للولايات المتحدة رئيس منتخب، أعلن بكل وضوح أنه لا يهمه أمر تغيير نظام دمشق.

إذاً يبدو أن فرصة الحوار بين سوريا والغرب دبَّت فيها الحياة فجأة، ولكن ترى هل تثمر هذه الفرصة للحوار بنتائج ما؟ هذه مسألة أخرى تماماً.

في شهر تشرين الأول الماضي، وعندما كان رئيس العالم الحر يضمر ويداري سراً عدم اهتمامه بالإطاحة ببشار الأسد، قمت بزيارة إلى دمشق لأحضر مؤتمراً سورياً تدعمه الحكومة. وقتها احتفى المنظمون بهذا المؤتمر ووصفوه بأنه فرصة السوريين لتقديم واجهة أخرى للحرب وفتح قناة حوار جديدة مع الغرب، فدعوا صحفيين من كبريات شبكات الأخبار ووكالاتها الأميركية والبريطانية، فضلاً عن محللين سياسيين من أمثالي.

ولكن اتضح أن ثمة هوة كبيرة في أجواء المؤتمر نفسه، بين كبار المسؤولين السوريين وبين الحضور، الذين اغتنموا فرصة المجيء لنقل الوقائع والأخبار من الداخل السوري؛ فالحكومة بدعوتها أعطت الانطباع بأنها تحاول تقريب وجهات النظر مع الغرب وإظهار انفتاحها، بيد أن واقع المؤتمر كان غير ذلك، إذ إن متحدثي المؤتمر الرسميين تحدثوا إلى كبار وفود الحضور بلهجة كلها تحدٍّ وإصرار وثبات على الموقف الحربي، كما أن أجواء الحدث كانت احتفالية اجتماعية جداً، ما أعطى انطباعاً بأن النظام حتى بعد 5 سنوات من الحرب ما زال ثابتاً على تحديه.

إذ بدلاً من تبني موقف أكثر عقلانية وتعاطفاً مع الآخر، بدا كأنما قامت الحكومة بدعوتنا لتقول لنا “بالعكس، نحن تماماً من يظنوننا”.

بين مواضيع حلقات الحوار التي ناقشت قضايا مثل “حرب الإعلام أثناء الأزمة السورية” و “آثار العقوبات على حياة المواطنين السوريين العاديين” أتاح المؤتمر لحضوره فرصة التحدث إلى كبار المسؤولين السوريين ورجال الأعمال وممثلي المجتمع المدني السوري، المصادق عليهم من الحكومة. كذلك أفرد منظمو المؤتمر جلسةً مستقلةً مطولةً لطرح الأسئلة على وزير الخارجية وليد المعلم، فضلاً عن جلسة مع الرئيس السوري بشار الأسد نفسه، اقتصرت على قلة قليلة من الحضور.

لكن رغم كل دعوات الحوار إلا أن نبرة متحدثي المؤتمر فاحت تشبثاً بموقفها واعتداداً به. فمنذ أول حلقة نقاشية بعنوان “خلفية الحرب في سوريا” مضى المتحدثون من مثل مستشارة الرئيس د. بثينة شعبان، والضابط الرفيع في المخابرات العقيد سامر بريدي، في وصف كيف وقعت سوريا ضحية مؤامرة دولية قوامها المتطرفون الإرهابيون “الإسلاميون”، وأعداء الدولة وأتباعهم وأذنابهم الإعلاميون. وقد نفوا تورط الحكومة السورية بأي ذنب أو جريرة خطأ منذ بداية الحرب السورية عام 2011، فمن كلامهم وروايتهم فإن الحكومة السورية نفسها بريئة ويساء فهمها.

واشتكت شعبان من أنها في آخر مرة تحدثت فيها إلى قناة Channel 4 البريطانية -التي كان صحفيوها ومراسلوها من بين الحضور- لم تطرح عليها سوى أسئلة اتهامية مثل: “سألوني “كيف لك أن تناصري نظاماً كهذا؟” ولم تكن هناك أي محاولة للفهم”.

(وقد عقد المؤتمر حسب قواعد معهد تشاتام هاوس الملكي للشؤون الدولية التي تقضي بحرية المشاركين في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها من المؤتمر أو المناظرة، شريطة التستر على هوية المتحدثين، بيد أن أحد المنظمين أكد لي أن بوسعي التصريح بأسماء المسؤولين السوريين المتحدثين واقتباس كلامهم).

ثم كان أنه في جلسة الأسئلة والأجوبة التي تلت أول حلقة نقاش، طرحت إحدى أفراد الحضور سؤالاً طلباً لإجابة صادقة عنه، ألا وهو عن رواية الدولة لأحداث مدينة درعا جنوبي البلاد، التي جرت في آذار 2011، حيث تعد تلك شرارة بداية حرب البلاد عندما احتجزت قوى أمن البلاد 15 طفلاً وعذبتهم، لقيامهم برسم وكتابة عبارات وشعارات مناوئة للحكومة على الحوائط، فاستعر غضب الأهالي من المعاملة القاسية لهؤلاء الفتيان، وخرجوا في احتجاجات قوبلت بعنف الأمن، ثم ما لبثت الحركة أن عمت البلاد.

قالت السائلة صاحبة السؤال: “نريد القصة الحقيقية لأطفال درعا. نريد أن نعرف القصة الحقيقية كي ننقلها لإعلامنا المحلي على الأقل كي ينشروها ويخبروا بها الشعب”.

تصدى العقيد سامر بريدي لهذا السؤال بقوله إن الحكومة بادرت آنذاك لتكوين لجنة تقصي واقعة احتجاز هؤلاء الأطفال وتعذيبهم “وتبيَّن في المحصلة أن القضية كلها لم توجد من الأساس”.

ثم في حلقة النقاش التالية التي بعنوان “العلاقات السورية الخارجية أثناء الأزمة”، تحدث نائب وزير الخارجية فيصل المقداد كيف أنه شهد ثورات أوروبا الشرقية ضد الشيوعية عام 1989، وقال إنه بصفته آنذاك ممثلاً عن اتحاد الطلبة الأجانب فقد شهد بأم عينه كيف أن التقارير الكاذبة حول مقتل طالب في الاحتجاجات قد تسببت في إشعال فتيل المظاهرات في عموم تشيكوسلوفاكيا، وقال: “رأيت كيف لبضعة أكاذيب أن تطيح بحكومات وتغير حياة الملايين من الناس”.

فطبقاً لما تقوله الحكومة السورية فإن سوريا مستهدفة لأنها ترفض الانصياع لأجندة الغرب المحابية لإسرائيل الداعمة لها؛ فأعداء سوريا الإرهابيون هم في أكثرهم متطرفون أجانب، أدخلتهم حكومة العثمانيين الجدد التركية بدعم من السعودية التي تتبنى نظاماً “وهابياً”. الولايات المتحدة غير جادة أبداً في موضوع محاربة تنظيم الدولة الإسلامية داعش المزعوم، بل إنها في الواقع تعتمد وتعول على وكلائها الإرهابيين لمهاجمة الحكومة السورية.

قامت الحكومة السورية بمحاولات لحل الأزمة حلاً سياسياً حسبما قاله ممثلون عن الدولة في المؤتمر، فقد طرح الرئيس الأسد خارطة طريق إصلاحية في كانون الثاني 2013 (فخطة عام 2013 طرحت تشكيل حكومة وحدة وطنية وصياغة دستور جديد يتم الاستفتاء عليه، ومن ثم تعقد انتخابات برلمانية جديدة).

الحكومة عازمة على تحرير كافة سوريا والسيطرة على كل أراضيها، كما أنها تحاول في الوقت الحالي إظهار صمودها وشرعيتها من خلال استمرارية عمل مؤسساتها الرسمية بشكل طبيعي، فالحكومة لا تفتأ تشدد التركيز على أن الحياة في دمشق وغيرها تسير سيراً طبيعياً نسبياً، وأنها حافظت على دوام واستمرار العمل في مرافق الدولة، وكيف ثابرت على صرف رواتب موظفي القطاع العام، حتى لسكان المناطق التي سقطت بأيدي قوات المعارضة.

ومع أن الحكومة تزعم أنها تريد تعاوناً أمنياً عالمياً وتطبيعاً اقتصادياً، إلا أن من الواضح أن التغيير واجبٌ على الجميع، لا على الدولة السورية، وخصوصاً إن كان هذا التغيير بناء على أوامر أجنبية.

من بين الشباب السوريين الذين حضروا المؤتمر -وهم ليسوا من الحكومة بيد أنهم دائرون في فلكها- كان هناك البعض ممن عبر عن مخاوف الحكومة بشكل أكثر تفهماً وعمقاً، أما حينما نأتي إلى طبقة كبار المسؤولين -بمن فيهم الأسد نفسه- فلم يظهر أن هناك أي جهد لصياغة آرائهم ومواقفهم بما يتناسب مع الحضور الغربي.

من الصعب معرفة سبب تعنت الحكومة وتشبثها الشديد بموقفها؛ لعل السبب هو إظهار قوتها أمام النخبة الغربية لإثبات أن محاولاتهم لإركاع أو كسر شوكة سوريا قد باءت بالفشل الذريع، كما أنه من المحتمل أن الحكومة كان يهمها إقناع الوفد الغربي بحضور المؤتمر أكثر، مما يهمها إقناع هذه الوفود بوجهة نظرها، فهذا يثبت شرعيتها الدولية أمام مناصريها المحليين السوريين (فقد استثنيت قنوات الإعلام السورية من الحدث، بيد أن هذا لا يعني أن الحدث كان سر دولة يتم في الخفاء).

أو لعل بعض المسؤولين لم يكترثوا للأمر، ومنهم وزير الخارجية وليد المعلم مثلاً. لقد كان منظمو المؤتمر قد أكدوا من قبل على أن الحدث ليس تظاهرة دعائية للحكومة، ولكن عندما سأل ديكستر فيلكنز من صحيفة New Yorker ، المعلم، كيف تشرح سوريا موقفها للحكومات التي قطعت كل علاقاتها الدبلوماسية، أجاب المعلم إجابة كشفت فهماً مغايراً فقال: “لسنا بحاجة لإقناع الحكومات، بل ما يهمنا إقناع الرأي العام. ولهذا السبب أنتم هنا. أنتم هنا لتنقلوا الحقيقة. دوركم هو القيام بحصتكم من العمل كي تساعدونا”.

ومضى المعلم يتصدى لأسئلة الصحفيين برباطة جأش وثبات لا يبالي، مثل الأسئلة التي تتهم النظام بالقسوة على مناطق المعارضة. الصحفية آن بيرنارد من النيويورك تايمز سألته عن صرامة وشدة استراتيجيات الحكومة وتكتيكها في حلب، فأجابها بجمود خالٍ من التعبير: “أنا لست عيسى المسيح. أنت وجهتم لي صفعة على…”، وأشار إلى خده “وأنا بدوري…” ولم يكلف خاطره حتى لإكمال الجملة.

ولكن ما شعرت به من أجواء المؤتمر هو أن الحكومة السورية فعلاً كانت صادقة في محاولة كسبنا إلى صفها، فقد عاملتنا معاملة احتفائية كأنما فرشت لنا السجادة الحمراء، بدءاً من استقبالنا في قاعة التشريفات وكبار الزوار على الحدود اللبنانية، حينما ختمت جوازات سفرنا بكل يسر وسهولة وعلى مهل، إلى حفل العشاء الفاخر بصحبة نخبة المسؤولين في دمشق بفندق الشيراتون. ولهذا عندما بدأ المسؤولون يتخذون نبرة تصادمية في موقفهم ورأيهم، بدا في بعض الأحيان أن كل الأمر أنهم لا يعرفون كيف يتحدثون للأجانب.

وعندما زار حضور المؤتمر الأجانب الرئيس بشار الأسد في منزله، كان مضيافاً مرحباً وظلَّ محافظاً على حضور لطيف حسن المعشر، حتى عندما يتعرض لأسئلة قاسية. مع ذلك لم يكن محتوى إجاباته وما أدلى به للصحفيين والمحللين السياسيين الحاضرين جديداً أبداً، بل كان في معظمه تكراراً متمسكاً بمواقف الحكومة الرسمية لكن بشكل ونبرة أكثر وداً وفصاحة.

ثم أنهى الأسد لقاء المجموعة ختاماً خِلته كشف شيئاً دونما قصد، حيث مضى الأسد يناقش لعبة الإعلام “الخطرة” التي تحاك ضد سوريا، وذكر مثالاً عليها – من تلقاء نفسه ودون أن يوجه له أحدٌ طلباً أو سؤالاً- التغطية الإعلامية لـ”الدفاع المدني السوري”، أو ما يعرف بـ”الخوذات البيض”، فقال: “إنهم من تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، كل ما في الأمر أنهم غيروا لون جلدهم”.

وكان الأسد قد قال أمام صحفيين من بلدان حليفة إن الخوذات البيض هم ذراع الغوث لتنظيم القاعدة، فقد قال الشيء ذاته قبل عدة أسابيع للصحيفة الروسية Komsomolskaya Pravda، وانتشرت أقواله في تلك المقابلة لتعتمدها قنوات الإعلام الموالية للنظام.

الآن لدي ما أصارحكم به: كنت قبل عدة سنوات قد اضطلعت بوظيفة باحث مع جهة تقوم بتدريب فرق الدفاع المدني، ولذلك كنت أعلم أن عمليات الدفاع المدني في مناطق المعارضة السورية تضطر أحياناً للتعامل مع الجهات العسكرية هناك، ولكن طبيعة عملها في الاستجابة الإسعافية هي مستقلة عن المجموعات المحلية المسلحة، ونابعة تماماً من منطلق الخير الإنساني الخالص. لعل حفنة من الفرق المحلية قد تورطت بأعمال مشبوهة، لكن الاتهام الموجه للدفاع المدني يقتصر على كونهم سوريين معارضين، يجتثون المدنيين من تحت الأنقاض المقصوفة في مناطق المعارضة التي يقطنها الجهاديون.

أعتقد أنه من منظور الحضور الغربي الذين شاهدوا صور فرق الدفاع المدني تنقذ الأطفال من تحت أنقاض القصف السوري، فإن وجهة نظر الأسد هذه بدت لا رأفة فيها ولا شفقة. إن قيام الأسد بإثارة هذه النقطة النقاشية من دون طلب أحد هو أمر يطرح تساؤلات مهمة حول مدى فهمه للجدل حول سوريا، من خارج إطار الأصداء الإعلامية المحلية الموالية للنظام.

إن لهجة خطاب المسؤولين السوريين المتشبثة والخالية من التنازلات، وإن أجواء المؤتمر من داخله ومن حوله، سواء في استراحات احتساء القهوة التي عجّت بكبار المسؤولين من القطاعين الخاص والعام في دمشق، أو من خلال مداخلات بعض الحضور السوريين التي لم تبد كأسئلة، قدر ما بدت تعبيرات جياشة عن الولاء للحزب. كل هذه دللت على أن النظام لم يتعلم أو يتأقلم خلال السنوات الخمس الأخيرة.

لكن هذا التصلب في الموقف ليس بالضرورة خداعاً للنفس أو توهماً، بل في الواقع ثمة ما يدعونا للاعتقاد أن استمرار الثبات على هذا الموقف هو في حد ذاته الموضوع برمّته، فهو جزء من استراتيجية سياسية محلية متعمدة. ففي شوارع دمشق يبدو أن الحكومة نجحت في الحفاظ على سلطة نظامها من أيام ما قبل الحرب. أما الفرق الوحيد فهو أن الدمشقيين الآن أضنتهم سنوات الحرب وأرهقهم حرمانها.

ثقافة التحلق حول شخص الرئيس الأسد وشخصيته ما زالت طاغية، حتى إنها أحياناً تبدو أكثر قوة ومضاء مما كانت عليه قبل الحرب، وليس أقل الأسباب وراء ذلك وجود صورته معلقة على كل نقطة تفتيشية وحاجز أمني من الحواجز التي تغطي المدينة.

في لقائه معي ومع زملائي، أكد الأسد شخصياً أن لسلطته حدوداً دستورية ومؤسساتية، تاركاً بذلك للآخرين مهمة تفسير مركزية شخصه في الدولة السورية. فالمقداد مثلاً قال لحضور المؤتمر إنه “لا سوريا بلا أسد”، كما أن اللوحات الإعلانية الطرقية طول المدينة وعرضها ترفع صورة الأسد مع شعارات مثل “أمةٌ في رجل واحد”، أو أحياناً “من أجلك أيها الأسد”، و”سوريا الأسد”. حتى إن رجلاً يعمل في إصلاح البرادات والثلاجات في جرمانا، إحدى ضواحي دمشق، قال لي إن والد الرئيس بشار، الراحل حافظ الأسد “كان أبانا ونحن أبناؤه”.

فيما كنت أُجري لقاءات مع أفراد الشعب في طرقات دمشق وحاراتها، كنت أرقب وجوهَ المواطنين المحليين البشوشة والمرحبة تنكمش، وينفر الدم منها عندما أخبرهم أني صحفي، تذكرة لي بأن قيود حرية التعبير القديمة ما زالت قوية لم تضعف، وأن الخوف من الدولة ما زال حياً لم يستكِن.

شعرت بغصة عندما حاولت إقناع مواطنين دمشقيين مهذبين، لكن غير مرتاحين للحديث، بأن يصارحوني بوضع الاقتصاد وأوضاع مناطقهم، وشاهدت كيف امتعضوا حينما أظهر لهم مرافقي من وزارة الإعلام رسالة رسمية، وأكد لهم أن من المسموح لهم الكلام.

لم يرفض الكل الكلام قطعاً، ورغم أن وجود مرافقي معي بشكل متقطع وجو الكبت العام السائد يجعلان من المستحيل تصديق كل ما يقوله الناس ظاهرياً، إلا أنني لا أرى أن كل ما يقال كذب، فقد عبَّر هؤلاء السوريون العاديون في الطرقات عن نقاط ومواقف الحكومة بشكل أكثر إقناعاً من أي حلقة نقاش أو ندوة حوارية.

أما ندوة المؤتمر حول الاقتصاد السوري، التي كانت بعنوان “آثار العقوبات على حياة السوريين العاديين”، فقد أمّها من الحضور بشكل خاص أفراد من الطبقة التجارية المتغلغلين في النظام. بيد أنه خارج مدرج المؤتمر تمكنت من التحدث إلى أناس عاديين يحاولون الكفاح لنيل لقمة العيش في اقتصاد منهار مقطوع عن العالم الخارجي، فهم يسردون لك كيف بات عليهم العمل بوظيفتين أو ثلاث لإطعام أطفالهم، أو يخبرونك كيف أن انهيار وتردي الليرة السورية أفقر الجميع، وأنزل بهم العوز.

يقول رجل يعمل في محل لصناعة الملابس الرجالية في حي ساروجة الدمشقي “إنهم يحسبون كل شيء بالدولار”، وعدد أمامي كيف أن كل حاجياته الشرائية باتت أغلى ثمناً من قماش القمصان، وحتى ورق الكرتون المقوى الذي يوضع داخل القمصان، ويختم قائلاً “المواطنون العاديون هم من يتلقون كل هذا في النهاية”.

فاتورة العنف وضريبته الموجعة بادية ظاهرة في كل مكان داخل المناطق الموالية للنظام، ترى مدرسة رممت على عجل بعد ما دمرتها قنبلة مزروعة في سيارة مفخخة، كما ترى مواطنين محليين يروون لك كيف توفي أصدقاؤهم وأقرباؤهم، إما في الحرب ضد المعارضة، وإما بالقصف العشوائي.

حتى إن صبياً مراهقاً يعمل في مكتب ترجمة في حي جرمانا، أخبرني أنه قضى عام 2014 كله تقريباً داخل بيته لا يغادره، والسبب هو القذائف المتساقطة المنطلقة من ضواحي الغوطة الشرقية. يقول زميله في العمل “في كل يوم تتساقط القذائف تباعاً الواحدة تلو الأخرى”.

حتى إن عامل كهرباء كان منهمكاً في العمل على الجهة الأخرى من القاعة قال لي كيف أن الأطفال تعودوا على الحرب فقال “يسمعون ضجة ما فيخبرونك ما هي وعن مصدرها”. يقولون مثلاً “هذا صاروخ ضرب الجيش، أو هذه نيران مدفع دوشكا. من أين لكم كل هذه المعارف؟ ألستم في الصف الثالث الابتدائي؟”

كذلك يلاحظ أنه رغم نظام الحكومة السياسي شديد الصرامة والقمعي، فإنه يستحيل أن تسير في دمشق من دون أن تلحظ المشاركة الفاعلة للمرأة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن التنوع الديني والطائفي في دمشق.

إن هذه الجوانب في حياة دمشق اليومية ليست كل شيء، لكنها قَطْعاً لا تغفل كذلك ولا يمكن تجاهلها، وهي تشع ضوءاً يتضاد مع قتامة مشهد المعارضة السورية، ويضفي عليها ظلاً منفراً قاسياً، لأن المعارضة اعتنقت التعصب الديني الطائفي بشكل سافر.

إن إنجازات نظام الأسد في حكم البلاد وإدارتها أثناء الحرب “الأهلية” كانت في جملتها دفاعية، بيد أنه لا ينبغي أبداً التقليل من شأنها أو الاستخفاف بها. لقد حافظت الحكومة على التحكم والهيمنة في مؤسسات الدولة التي ما زالت قائمة، كما أنه تمكن من الاحتفاظ لنفسه بهوية وطنية سورية شاملة تتسامى فوق الطوائف والأعراق. للنظام مؤيدوه النشطون في صميم داخله، لكنه أيضاً كسب الدعم النشط أو حتى السلبي من طرف العديد من السوريين الذين يودون الحفاظ على ما تبقى من الدولة، والذين أنهكتهم الحرب أو يخشون مما يرونه معارضةً، ركبها التعصب والتطرف والفوضوية الحربية التجارية.

إيليا سمان، رجل أعمال وعضو في مجموعة معارضة داخلية تتقبلها الحكومة السورية، اسمها الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقد أسهم في تنظيم “مجالس مصالحة محلية” في البلدات والقرى القريبة من دمشق، نتج عنها تسليم المعارضين لأنفسهم وإعادة الحكم والسلطة إلى يد الحكومة.

أخبرني سمان أنه قد حُبِس وعُذِّب قبل الحرب، لعضويته في حزب سياسي غير قانوني، واعترف أنه بعمله الحالي يخدم مصالح حكومة الأسد، ولكنه قال “فكرنا أنه لا بأس إن كانوا يريدون استخدامنا أداة، طالما أن ذلك يفيد في حل الأزمة”. وقال لي إن عمله قد يكمّل حملة الحكومة العسكرية الوحشية، لكن عمله في الوقت نفسه يسمح للمدنيين بالعودة إلى منازلهم، ويحمي حياة الناس “وبالنسبة لي هذا أمرٌ يستحق”.

أما شعب العاصمة المضنى، فيبدو أنهم غير مهتمين بمحاسبة حكومتهم، فقد عرض النظام السوري -الواضح أنه لم ينصلح- إعادة وإرجاع حكم النظام السياسي القديم والمعروف حتى ولو في ظل ضيق ذات اليد من الناحية المادية. ويبدو أن العديد من السوريين مستعدون لقبول هذه الصفقة.

ولعل بقية العالم سيحذون حذوهم أيضاً، فطيلة المؤتمر استعرض المتحدثون إمكانية تجديد العلاقات مع أوروبا، أما عن تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية فيبدو هذا جسراً بعيد الشقة.

لكنني عندما سألت وزير الخارجية المعلم قبل أكثر من أسبوع على الانتخابات الأميركية، إن كان يسمح بفرصة تعاون مع الرئيس دونالد ترامب ضد تنظيم داعش، أجابني وقتها بنعم قطعية، لا مراء فيها، وقال: “لا يمكنك إنزال الهزيمة بداعش بالقصف الجوي فقط، بل أنت بحاجة لقوات برية. إن هدفنا الأساسي هزيمة داعش،وليس هزيمة الولايات المتحدة”.

منذ انتخاب ترامب عبَّر المسؤولون السوريون عن تفاؤل حذر بإمكانية ذوبان في جليد العلاقات مع الولايات المتحدة. أما ترامب من جهته فقد أوضح أنه مهتم بمحاربة داعش، لا محاربة الحكومة السورية، فإن سعى ترامب جدياً إلى تعاون مع روسيا، فليس من المستبعد أن تبدأ الولايات المتحدة التنسيق مع حلفاء موسكو في دمشق.

وبهذا غادرتُ العاصمةَ السوريةَ وأنا أُحدِّث نفسي وأقول، إن النظام السوري غير قادر على التغيُّر. لكن إن كان كل من حوله يتغيرون، فلعله لن يضطر إلى التغيير من نفسه.

الجديد