تحقيقات وتقارير

الموانئ البحرية بين (غول) الإيجار.. وشبح الخصخصة


هل هي قاصمة الظهر أو الضربة القاتلة حينما تتجه الدولة إلى بيع أو إيجار أو خصخصة هيئة الموانئ البحرية لإحدى الشركات بميناء دبي والتي قدمت عرضاً مغرياً للحصول عليى خدمات الميناء الوطني الذي تهرول إليه الوفود الأجنبية وبالقدر الذي يجرد الدولة من سيادتها على هذا المنفذ البحري . والأخبار التي رشحت في غضون الأيام الفائتة أن الحكومة وجهت لجنة خاصة لدراسة هذا العرض وطلبت منها إسراع الخطى لرفع تقريرها بشأن هذه القضية في الأثناء استنكر البعض في حديثهم لـ(الإنتباهة) هذه الفكرة وصاغوا عدة مبررات تسند هذا الاستنكار أبرزها ان هذا الميناء يدر عائدات مقدرة لخزينة الدولة ولا يحمل الحكومة أية خسائر, فيما تفاءل آخرون بأن الميناء ربما يتطور أكثر ويصبح عالميا . تلك هي ملامح قضية يبدو أنها ذات تعقيدات وأبعاد أخرى. (الإنتباهة) تحاول هنا عبر هذه الوجبة الصحفية تفكيك بعض هذه التعقيدات وتوجيه الأضواء عليها, فطرحت تساؤلاتها الحائرة على الجهات المعنية والخبراء علها تجد ما يشفي غليلها. فذلكة تاريخية
تحتل هيئة الموانئ البحرية السودانية اهمية كبرى على ساحل البحر الأحمر, حيث يبلغ طول ساحل السودان قبل تقسيمه أكثر من (800 ) كيلو متر وتقوم الموانئ بعمليات تصدير واستيراد ضخمة يأتي على رأسها ميناء بورتسودان وما يحويه من موانئ داخلية اخرى أكبرها الميناء الجنوبي المتخصص في استقبال الحاويات وكذا الميناء الأخضر لاستقبال البواخر المحملة بالبضائع المتجهة الى جدة .
هل اكتملت الصفقة؟
وأصل الحكاية أن بعض مصادر الصحيفة تحدثت عن اكتمال صفقة بيع الموانئ البحرية, وأن العقد الذي تم توقيعه يقضي بأيلولة الميناء لهيئة موانئ دبي الإماراتية الممولة من بنك دبي الإسلامي منذ عشر سنوات من الإيجار. وقال المصدر أن عملية البيع هذه تمت بالاتفاق مع والي البحر الأحمر باعتبار أن المنطقة استثمارية تدعم فكرة المنطقة التجارية الحرة بالبحر الأحمر , خصوصا أن ميناء بورتسودان أشبه بميناء دبي التجاري. وأضاف المصدر أن حركة الصادر والوارد تراجعت بسبب تشريد الكوادر وعدم الصيانة اضافة الى الضغوط الكبيرة التي تفرضها قوانين الضرائب والجمارك الباهظة على الميناء.
شبح الخصخصة
ويعتقد المصدر – الذي فضل حجب اسمه- أن هناك ظواهر أدت الى إفلاس الميناء مما أدى الى فتح الأبواب لدخول استثمارات فاشلة بسبب الاهتمام بالعمولات في الصفقات الاستثمارية الخاصة ، وحمل المصدر المسؤولية كاملة للحكومة في بيع ممتلكات الدولة الى مستثمرين, وشملت تلك السياسة (الخصخصة ) عدداً من المؤسسات المهمة منها الخطوط الجوية السودانية (سودانير).
قرار قيد الدراسة
وكان مجلس الوزراء قد أصدر قرارًا لاحقا بتشكيل لجنة خاصة لبحث عدة عروض مقدمة لشراء الموانئ البحرية وتشغيلها طبقا للقرار ( 32 / 2016 وحدد القرار رئاسة اللجنة للمهندس محمد عمر وإشراف وزير النقل مكاوي محمد عوض ,فيما تؤكد وثيقة الاتفاق ان هيئة موانئ دبي العالمية تتولى مهمة تشغيل الميناء من النواحي القانونية والإدارية والفنية والمالية كافة مع تعهد مجلس الوزراء بإجراء التعديلات اللازمة بالتنسيق مع وزارة النقل. وكشفت الوثيقة بان اللجنة الوزارية سترفع تقريرها الى وزارة النقل ومجلس الوزراء خلال شهر من تاريخ إصدار القرار.
إسقاطات اقتصادية سالبة
وفي السياق أبلغ عضو اللجنة المركزية لحزب مؤتمر البجا عبد الله موسى (الإنتباهة) انه سيقف ضد السياسات الرامية لخصخصة الموانئ البحرية وبيعها. وأضاف: هنالك مخازن ضخمة مؤجرة لشركات كثيرة ويعمل بها عدد كبير من العمال وهؤلاء سيتم تشريدهم وستطولهم الخصخصة ايضا. وكشف أنه تم بيع السفن السودانية في سودان لاين وخصخصتها مما أدى الى ضرر كبير في الاقتصاد السوداني. ووصف بيع الموانئ البحرية بالكارثة. وحذر من اتساع قاعدة العطالة خاصة وسط الخريجين بسبب الخصخصة.
إدارة مستوردة
وفي ذات الاتجاه يرى محافظ البحر الأحمر الأسبق والخبير الأمني عثمان احمد فقراي في إفادات لـ(الإنتباهة) انهم يرفضون العرض المقدم لإدارة الموانئ البحرية , وان الموانئ ليست في حاجة الى خصخصة فهي جهة سيادية وتختلف تماما عن المؤسسات الأخرى. موضحا ان السودان يحتاج للموانئ البحرية لدعم السكة الحديد والبترول وجميع الصادر. وتساءل فقراي ..كيف تفكر الدولة في مثل هذا القرار خصوصا أن (90 % ) من مواطني الشرق يعتمدون في معاشهم على الميناء فأين يذهب هؤلاء؟ علما بان الشركة الأجنبية التي قدمت عرضها لإدارة الميناء وضعت شرطاً لاستجلاب عمال من الخارج وإدارة أجنبية. وقال فقراي: ان السياسة ان جاءت بهذا القرار كانت خاطئة . ولكنه تساءل .. هل هنالك ضمانات لعدم التشريد ؟ أم هي عدم شفافية في العمل ؟ أم عليهم قروض مليارية ؟ لكن يبدو وبحسب اعتقادات فقراي ان هناك أسباباً غير واضحة بالرغم من ان اللجنة أكدت ان الميناء به أرباح كثيرة وليس لديه مشاكل تستدعي تدخل الدولة في الإدارة. وكشف فقراي ان خيار الخصخصة خلفه أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية لذلك فإن القرار مرفوض تماماً وعلى اللجنة ايضاً رفض هذا العرض لصالح الشعب السوداني لأن هذه الشركة التي قدمت العرض يهمها الربح فقط ولا تهمها مصلحة الدولة.
اتفاقيات سياسية
وعلى الجانب الآخر من هذه القضية يقف اهل الشأن والخبراء بمبرراتهم ومرافعاتهم . فالكابتن والخبير في مجال البحرية مصطفى مختار يرى ان الموانئ البحرية الآن تعمل بطريقة جيدة جدا وبأفضل مما كانت عليه, ولكن دخول شركات عالمية لتشغيل الموانئ سيكون اضافة ونقل خبرة للسودان باعتبار أن الشركات العالمية تعمل بنظام (الترانسيت ) عبر بواخر كبيرة تسمى الأم وبعد ذلك يتم التوزيع عبر بواخر صغيرة بعد التفريغ, فيما تأخذ الباخرة الكبيرة خط الرجعة الفورية وهذا يشكل سرعة ودقة وإنجازاً لنقل البضائع, وبالتالي زيادة العائدات والأرباح . إلا ان الكابتن مصطفى تحدث عن إشكالية تشريد العاملين خاصة أن الموانئ البحرية تعتمد في تشغيلها على اقتصاد الدولة في الصادر والوارد, كما أن رسوم الميناء غير متفق عليها مع دول الجوار لعدم وجود اتفاقيات سياسية . مؤكدا أنه لابد من تطوير العمل داخل الميناء ومعالجة مشكلة الكرينات والآليات وتفريغ البضائع وتنسيقها بدلا من وجودها لفترة تتجاوز الأسبوع داخل الميناء مما يؤدي إلى خسائر كبيرة . وأضاف الخبير مصطفى : لابد من إدارة فاعلة تراقب التعرفة في التسعيرة والإجراءات حتى تتجنب عرض الشركات الأجنبية ومن المفترض أن نحدث وليس أن نبيع أو يتم التأجير .
إيجار أم خصخصة ؟!
وحرصت (الإنتباهة) على معرفة رؤية مدير الإدارة المعنية بالخطة الأمنية والتفتيش بالموانئ البحرية سابقاً في هذه القضية المهمة والحساسة جدا المهندس سيد أحمد الذي نفى بشدة فكرة خصخصة الموانئ البحرية. وقال للصحيفة انه لا يوجد قانون ولا عرف لذلك, وما نحن فيه الآن هو إيجار لشركات تعمل لمدة عشر سنوات. وقال ان الحكومة هي المشغل الحقيقي للموانئ البحرية ,وبالتالي هي التي تحدد المصلحة في التشغيل , ولكن المهندس سيد أحمد كشف عن عراقيل ربما تؤدي الى تعطيل سير العمل ووقوف الباخرة لوقت طويل, وهذا ما يدعوهم الى مطالب الحكومة برفض العرض لتستمر الموانئ البحرية كناقل وطني، ومن المفترض ان تكون هذه الموانئ مشرفة وتعمل لصالح الشعب. واضاف الآن اللجنة المختصة بدراسة عرض الإيجار في اجتماعات مستمرة ولا نعرف الى اي شيء توصلت, مشيرًا الى أن هناك معوقات إدارية كبيرة أدت الى تدهور العمل عبر الوساطات في العمل اضافة إلى البطء في التنفيذ والتشغيل.
مع التطوير .. ضد الشراكة
أما نقابة الموانئ البحرية جاهرت برفضها لخيار الخصخصة , كما تحدث بلسانها الأستاذ فتحي محجوب لـ(الإنتباهة ) وقال نحن ظللنا منذ زمن طويل رافضين لنظام الخصخصة وتشريد العمال , ويكفينا فقط ما شاهدناه في سودانير والخطوط البحرية وغيرها. وأضاف : نحن لسنا ضد التطوير ولكن ضد المشاركة الأجنبية التي تأخذ جزءاً كبيراً من ممتلكاتنا وتفرض علينا تخفيض العمالة وهذا الشيء المتوقع من الأجانب والمستثمرين, لذلك شكلنا لجنة خاصة وجلسنا مع السيد وزير النقل وأبلغناه رفضنا للخصخصة. وكان رده أن الموضوع قيد الدراسة ونحن منتظرين توصياتها.
حقيقة ما يجري هناك !
ولمعرفة حقيقة ما يجري داخل الموانئ البحرية الآن حاولت الصحيفة الاتصال بمديرها جلال الدين محمد شلية, لكن المحاولة فشلت , ولكننا هنا نسترجع بعضاً من إفاداته السابقة في الخصوص والذي اكد فيه أن الموانئ البحرية تحتاج إلى استجلاب عمالة أجنبية ودون اية خصخصة. وأشار الى أنهم أقنعوا الحكومة بالعدول عن خيار خصخصة هيئة الموانئ البحرية, أما سياسة إيجار الموانئ لشركات أجنبية مثل الميناء الجنوبي لشركة فلبينية فهي لا تعني الخصخصة. فالخصخصة تعني بيع المرفق , أما التأجير يكون بغرض التأهيل والتطوير والمواكبة والمنافسة في سوق النقل البحري .
وذكر أنه كان هناك اتجاه بأن تؤجر شركة موانئ دبي العالمية الميناء الجنوبي لأن في تلك الفترة مرت موانئ دبي العالمية بظروف مالية حالت دون مواصلتها للحوار معنا, فيما ظلت الحكومة أكثر تمسكاً بالموانئ ورافضة في ذات الوقت لفكرة بيع الميناء كمرفق لا يمكن المساس به لكن موانئ دبي استعادت عافيتها فتمت مخاطبتها بالمشاركة في إدارة الميناء الجنوبي، لكنها اعتذرت ويبدو أنها كانت تريد الشراء وليس الإيجار.

الانتباهة