تحقيقات وتقارير

في ظل دولة المشروع الحضاري القضارف.. الضائقة الاقتصادية تسقي المواطنين من حياض الربا


لم نجد صعوبة بالغة في الحصول على فرصة اقتراض مال عبر الكتفلي أو الكسر، وكلاهما اسم “الدلع” للربا، ففي جولة لم تستمر عشر دقائق بسوق القضارف تمكنا من كافيه للجلوس إلى سمسار ــ هكذا عرف نفسه ــ فكشفنا له عن رغبتنا في شراء سكر وسألناه عن الأسعار فقال “الأسعار تتوقف على مدة سداد الشيك، فإذا كنتم تريدان السداد بعد شهر، فإن سعر الجوال سيكون سبعمائة جنيه، وإذا بعد ثلاثة أشهر فإن سعره يبلغ ألف جنيه”، والغريب في الأمر أن السمسار طلب منا بخلاف تحرير الشيك تقديم ضمان آخر يتمثل في مستندات منزل أو سيارة أو مشروع زراعي للتصرف فيه بيعاً في حالة عدم سداد المبلغ.
إذن نحن في القضارف التي تُلقب بـ”مطمورة السودان”، ولعل ذلك ما جعلنا نخشى من أن يُلقِّبها كثيرون – قياساً على ما وقفنا عليه من عمليات ربا – بـ”المدينة المرابية”. وذلك بعدما تصاعدت تجارة الكتفلي وهي حيلة يلجأ إليها المزارعون لتمويل الموسم الزراعي بأن يبيعوا بعض محصولهم لأحد التجار قبل زراعته وحصاده بنصف سعر السوق.
تفاصيل ودفوعات
كثير من القصص سمعناها عن ضحايا تجارة الكتفلي الذين دفع الكثير منهم ثمن التعامل في تجارة تدور حولها الشبهات، منهم من هرب تاركاً صغاره يكابدون ضنك العيش ويواجهون مخاطر التشرد وترك مقاعد التعليم، ومنهم من فقدوا ممتلكاتهم، وآخرون تحولوا من خانة مستوري الحال إلى فقراء، ووجدنا أن المزارعين هم الأكثر تضرراً، ولأن أصابع الاتهام تم توجيهها نحو التجار بصفتهم ضالعين في هذه القضية ــ بحسب البعض ــ سألنا الأمين العام للغرفة التجارية بولاية القضارف، عوض عبد الرحمن، عن هذا الاتهام الذي يوجه ناحيتهم، فنفى نفياً قاطعًا أن يكون الذين يمارسون الكتفلي تجار معروفون في سوق القضارف، مؤكداً على أن كل تجار الإجمالي والقطاعي لا يمكن أن يقدموا على هكذا ممارسة لعلمهم التام بمخالفتها للشرع، مبيناً أن الذين يمارسونها لا علاقة لهم بالتجارة وبعضهم قادم من خارج الولاية وأنهم غير معروفين وخارج المظلة التجارية، معتقدًا أن تأخُّر التمويل من الأسباب المباشرة للجوء المزارعين إلى تجارة الكسر ، وقال إن غرفتهم وحينما تفاقمت هذه الظاهرة وطالت حتى بعض الموظفين والمواطنين العاديين والتجار استعانت بهيئة علماء السودان لمحاصرة الظاهرة عبر الدروس الدينية والمحاضرات.
ثغرات
غير أن عوض يؤكد أن الثغرات الموجودة في قانون الثراء الحرام من الأسباب المباشرة التي وقفت بين القانون والذين يمارسون الربا، لافتاً إلى أن سلع السكر والأرز والزيت والذرة هي الأكثر رواجاً في تجارة الكسر، مشبهاً ما يحدث بالقضارف بفاجعة سوق المواسير في القضارف، معتبرًا عدم وجود قانون ولائي لحماية المزارع من الأسباب المباشرة لوقوعه ضحية للكتفلي الذي أفقد الكثير من المزارعين ممتلكاتهم وأصولهم بل عرف بعض منهم السجون لأول مرة في حياتهم بسبب التعامل به، مبيناً أن عهد الوالي السابق كرم الله عباس الشيخ شهد انحسار هذه الظاهرة بعد إصدار قانون عمل على التشديد في إصدار الشيكات وفتح بلاغات على إثرها، وقال إن المادة 179 تحتاج لتعديل عاجل، وذلك حتى لا يكون المواطن ضحية لتجار الكتفلي.
ويرى عوض أن ديوان الزكاة يبذل مجهودات مقدرة لمحاصرة آثار الظاهرة إلا أن هذا بحسب الأمين العام للغرفة التجارية لا يعتبر حلاً نهائياً للأزمة، وقال: إن إثيوبيا الدولة المسيحية نجحت في محاربة ظاهرة التولد وهي تشابه الكتفلي بقوانين رادعة أدناها السجن لعشر سنوات، فهل يعقل أن تعجز الدولة السودانية في محاربة الربا الذي استشرى بالقضارف.
تشريعات ولكن
السؤال الملح هنا، ماذا فعل المجلس التشريعي للقضاء على العمليات الربوية التي تشهدها القضارف، الإجابة تأتي على لسان رئيس اللجنة الزراعية ببرلمان الولاية “الصافي عوض” الذي اعترف بأن المعاملات الربوية المتمثلة في الكتفلي ليست جديدة علي ولاية القضارف، إلا أنه يقر بتفشيها خلال الفترة الأخيرة، مؤكداً أن هذه المعاملة التجارية غير شرعية، وذلك استناداً على فتاوى من علماء الدين، معتبرها أسوأ نموذج لاستغلال حاجة من تمر به ظروف مستعصية، كاشفاً أن الضحايا لا يتمثلون في المزارعين وحسب، بل تشمل مواطنين وموظفين ومعظم شرائح المجتمع، ويؤكد أن الكتفلي من ناحية شرعية ما هو إلا ربا حرمه رب السموات والأرض، ويقول إن المجلس السابق سعى لإصدار تشريع ضد هذه المعاملة التجارية، إلا أن عوائق قانونية حالت دون إجازته، ويقطع بأهمية إصدار قرارات رادعة لإيقاف هذه الظاهرة التي يصفها بالمدمرة للاقتصاد والمجتمع.
التمويل والبنك الزراعي
سألنا رئيس اتحاد الزراعة الآلية المحلول والرئيس السابق لأمانة الزراع بالمؤتمر الوطني بالقضارف، “عمر حسن فاضل” عن أسباب لجوء المزارعين إلى الكتفلي الذي يعتبر نوعاً من الربا، فأجاب سريعًا وهو يحمل السياسية التمويلية للعملية الزراعية المسؤولية كاملة، ويلفت إلى أن البنوك تفرض شروطاً قاسية ومتشددة وفي ذات الوقت فإن سعر التركيز بحسب البنك الزراعي يعتبر متواضعاً، مشبهًا الأمر بالكتفلي، وقال إنه ليس من المنطق أن يظل سعر تركيز الذرة ثابتًا منذ خمسة أعوام ولا يتغير سعر تركيز السمسم منذ العام 2014، ويرى أن إجحافاً يُمارس على المزارع الذي لجأ كما يقول إلى الكتفلي بعد أن أجبرته الدولة على فعل هذا، وأردف: ليس من المنطق في شيء أن تفوق تكلفة الإنتاج الأسعار السائدة في السوق، فمن أين يغطي المزارع الفارق وكيف يردم هذه الهوة في ظل عدم تفاعل البنك الزراعي والدولة بقضاياه، لافتاً إلى أن المزارع يدفع 50% من قيمة التمويل الذي يأخذه من البنك الزراعي قبل استلامه وذلك عبر الرسوم التي تفرض عليه والمتمثلة في الرهن وتوثيقه بالإضافة إلى التأمين الزراعي و15% من قيمة التمويل تذهب في إجراءات المرابحة والرسوم والضريبة و15% من قيمة المرابحة إلى رسوم تجديد إيجار المشروع، وقال إن هذه الرسوم التي يفرضها البنك الزراعي ضاعفت من كلفة الإنتاج رغم أن التمويل ــ وبحسب عمر فاضل ــ لا يغطي أكثر من 20% من التكلفة الكلية للإنتاج، ويرى أن هذا من الأسباب المباشرة التي تدفع المزارعين للتعامل عبر الكتفلي.
ديوان الزكاة والاعتراف
توجهنا بعد ذلك صوب ديوان الزكاة بالولاية الذي علمنا أنه ظل يوجه أموالاً مقدرة لمصرف الغارمين، وطرحنا القضية على مدير الموارد البشرية والمالية الزاكي أبكر علي”، الذي بدأ ممتعضًا من تفشي ظاهرة الكتفلي، مؤكدا استشراء ظاهرة الكتفلي بالقضارف، قاطعاً بتأثيراتها السالبة على المجتمع والمؤسسات الحكومية، كاشفاً عن أن ديوان الزكاة أيضاً انعكست عليه الظاهرة سلباً لجهة ازدياد الغارمين والمعسرين من المزارعين وأصحاب عروض التجارة، وقال إنهم دعموا الجهود التي يبذلها الأئمة والدعاة والهيئات الدعوية بعقد المؤتمرات والمحاضرات لتبيين خطورة المعاملات المالية على أساس الكتفلي، إلا أنه يقر بأن الظاهرة ورغم تكثيف الحملات الدعوية والدينية ضدها إلا أنها ما تزال تسيطر على المعاملات المالية بالولاية، معتبراً ارتفاع أعداد الضحايا بين المزارعين والتجار دليلاً على أنها لم تنته، وقال إن تأثيرها على مصارف الزكاة يبدو واضحاً وغير خافٍ، وأضاف: مصرف الغارمين ارتفع اعتماده المالي وخلال تسعة أشهر فقط تم توجيه مبلغ ثمانية ملايين وثمانمائة ألف للمتأثرين، وقد بلغ الصرف الفعلي خلال هذا العام تسعة ملايين وأربعمائة ألف جنيه بنسبة أداء 106% والذين استفادوا من بند الغارمين معظمهم ضحايا الكتفلي، وقد بلغ عددهم خلال الفترة الماضية 1330 مواطناً، وتوقع الزاكي أبكر ارتفاع أعداد الغارمين والمتأثرين من الكتفلي في الفترة القادمة رغم جودة الموسم الزراعي وذلك بداعي رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، وقال إن هذا الأمر سينعكس سلباً أيضاً على الزكاة لارتفاع عدد الغارمين المتوقع، مشددًا على ضرورة بذل المجتمع والهيئات الدينية والأئمة والدعاة مزيدًا من الجهود لمحاربة هذه الظاهرة التي اعتبرها مدمرة وخطيرة ومخالفة للشرع، كما طالب السلطات الحكومية بسن قوانين رادعة تسهم في انخفاض هذه الممارسة السالبة.
ناقوس الخطر
إذن كيف ينظر القانونيون إلى هذه الظاهرة التي يقبع على أثرها الكثيرون وراء القضبان فيما ينتظر ذات المصير آخرون، الإجابة تأتي على لسان المحامي المعروف بالقضارف “رمزي يحيى” الذي لفت إلى أن ما يحدث حاليًا في الولاية من معاملات مالية يعتبر أخطر من الكتفلي الذي قال رمزي إنه معروف بأن تعامله يعتمد على تسليف جنيه مقابل جنيهين، مبيناً أن هذا كان مرتبطاً بالحصاد بحيث يبيع المزارع محصوله – وغالباً يكون السمسم – قبل حصاده نظير تحرير شيك بمبلغ يفوق سعره الحقيقي، وذلك لأن المزارع بحسب القانوني رمزي مجبر على هذا لتمويل العملية الأخيرة من الزراعة، إلا أن رمزي يلفت إلى أن ظاهرة الكتفلي تطورت ووصلت مرحلة سداد “دين بدين” ، وفسر قوله هذه بالإشارة الى أن من يتم اقتراضه استناداً على الكتفلي يطلب منه تقديم ضمان، وأضاف: غالباً ما يكون الضمان عقاراً أو مشروعاً زراعياً ومنقولات وتجري عملية مبايعة صورية يتنازل خلاله صاحب الحاجة أو المدين عن ممتلكاته نظير المبلغ الذي يقترضه، وحينما يحين وقت السداد ويفشل تتحول ملكية الرهن إلى الدائن ، وأكد رمزي أن في هذا مخالفة قانونية واضحة، ويعترف بأن بعضاً من المحامين يعلمون بأن هذه المعاملة خطأ ولكنهم لا يكشفون الحقيقة، مبيناً وجود نوع آخر من الكسر ويتمثل في أن يتم قرض المحتاج سلعة وفقاً لسعر مضاعف وحينما يحين أوان السداد ويعجز يتم تسليفه سلعة أخرى بسعر أعلى حتى يتمكن من سداد دينه الأول ليضاعف حجم الدين، وهذا مصيره في الغالب مصادرة ممتلكاته أو وضعه في السجن.
ويرى القانوني رمزي أن قانون المعاملات المالية للعام 1984 لم يعد مواكباً ولا يستوعب التطورات الكبيرة التي حدثت في المعاملات المالية، ويرى ضرورة إخضاعه للتعديل، مؤكداً على أن ظاهرة الكتفلي ألقت بظلالها السالبة على اقتصاد ومجتمع القضارف وتسببت في فقدان مزارعين لأصولهم وممتلكاتهم، كاشفاً عن ارتفاع أعداد الضحايا لأرقام غير مسبوقة، وقال إن هذا يتكشف لهم من خلال مرافعتهم في المحاكم، معتقداً أن الذين يستغلون حاجة الناس يجب أن يتم توقيفهم، وذلك لأنه لا يعقل أن يتركوا أحراراً دون أن يطالهم القانون، مؤكداً على تفشي الظاهرة في كل محليات الولاية، محملاً البنك الزراعي المسؤولية كاملة لجهة أنه بحسب المحامي رمزي لا يفي بالتزامه في تمويل العمليات الزراعية في مواقيتها المعروفة، وقال إن البنك بعيد عن المزارعين ولا يقف بجانبهم، وقال إن هذا جعل المزارعين يلجأون إلى تجارة الكتفلي لتمويل العملية الزراعية، وقال إن البنك الزراعي يضع المزارع عقب الحصاد في ذات الموقف وهو يتأخر في تحديد سعر التركيز ولا يتدخل للشراء في الوقت المناسب.
رأي الدين
وأفتى مجمع الفقه الإسلامي السوداني بحرمة مثل هذه الممارسات وذكر نماذج لها مثل بيع الإيصالات فقط دون وجود المبيع، وهو أن يقوم البائع ببيع بضاعةٍ لشخص آخر بثمن مؤجل، وهو لا يملكها؛ فيقوم بتسليم المشتري إيصالات بكميات البضاعة، على أن يقوم سماسرة تابعون للبائع بشراء الإيصالات من المشتري بثمن نقدي أقل من قيمة البضاعة التي اشتراها بها (أي يتسلم القيمة من مال البائع الأول)، وتعاد الإيصالات للبائع الأول فيبيعه لغيره كل مرة بالطريقة ذاتها. على أن يسدد المشتري قيمة البضاعة كاملة عندما يحين أجلها.
ومن الممارسات المحرمة بيع المبيع أكثر من مرة مثل أن تكون للتاجر سلعة معينة (سكر مثلاً)، يطلبها منه شخص آخر بثمن مؤجل، فيبيعها له، ثم يقوم سمسار متفق ومتواطئ مع البائع بشرائها من المشتري بأقل من قيمتها ومن أموال بائعها الأول، أو من مال السمسار الخاص به بثمن حال، وفي كلا الحالتين يقوم السمسار بإعادتها لبائعها الأول، ليبيعها لشخص آخر بأجل، ثم يستعيدها منه بالمنوال ذاته. على أن يسدد المشترون للبضاعة ثمنها كاملاً عندما يحل الأجل. وفي الختام تكون البضاعة بحوزة البائع الأول والديون على المشترين المتعددين لها.

الصيحة