عالمية

ترامب والنظام الاقتصادي الجديد


منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان التسلسل الهرمي للأولويات الاقتصادية واضحاً نسبياً. فعلى القمة كانت أولوية خلق اقتصاد عالمي مفتوح ومبدع وديناميكي ومدفوع بالسوق، حيث يكون بوسع كل الدول (من حيث المبدأ) تحقيق الازدهار والنمو. وفي المرتبة الثانية من الأهمية ــ وربما بعد مسافة بعيدة عن الأولى ــ كانت أولوية توليد أنماط نمو وطنية قوية ومستدامة وشاملة، لا أكثر.

فقد أصبحت الأولوية الآن لتحقيق النمو القوي الشامل على المستوى الوطني لإحياء الطبقة المتوسطة المنحدرة، ودفع عجلة الدخول الراكدة، والحد من البطالة بين الشباب. أما الترتيبات الدولية التي تحقق المنفعة المتبادلة والتي تحكم تدفقات السلع ورؤوس الأموال والتكنولوجيا والبشر (أشكال التدفقات الأربعة في الاقتصاد العالمي) فلا تصبح مناسبة إلا عندما تعمل على تعزيز ــ أو على الأقل لا تعمل على تقويض ــ التقدم على مسار تلبية الأولوية القصوى.

وتغيرت المعطيات ، عندما صوت البريطانيون ــ بما في ذلك أولئك الذين استفادوا بشكل كبير من النظام الاقتصادي والمالي المنفتح الحالي ــ لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، استنادا إلى ما قد يسمى مبدأ السيادة. فكان الناس ينظرون إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي باعتبارها سببا لتقويض قدرة بريطانيا على تعزيز اقتصادها، وتنظيم الهجرة إليها، والتحكم في مصيرها.

الواقع أن إحباط الناخبين في الدول المتقدمة إزاء البنية الاقتصادية العالمية القائمة على السوق ليس بلا أساس. فقد سمح هذا النظام لقوى عاتية، وفي بعض الأحيان خارجة عن سيطرة المسؤولين المنتخبين وصناع السياسات، بتشكيل الاقتصادات الوطنية.

وقد يكون صحيحاً أن بعض نُخَب هذا النظام اختارت تجاهل العواقب التوزيعية السلبية وتلك المرتبطة بتشغيل العمالة والمترتبة على النظام القديم، في حين لم تتردد في جني الفوائد. ولكن من الصحيح أيضا أن النظام القديم، الذي اعتُبِر مقدسا، أعاق قدرة النخب على معالجة هذه المشاكل، حتى ولو حاولت.

لم تكن هذه هي الحال دائما. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ساعدت الولايات المتحدة، مدفوعة بالحرب الباردة جزئيا، في إنشاء النظام القديم عن طريق تسهيل التعافي الاقتصادي في الغرب، وبمرور الوقت خلق فرص النمو للدول النامية.

وعلى مدار ثلاثين عاما أو نحو ذلك، كانت الجوانب التوزيعية في أنماط النمو العالمية التي أسست لها هذه الجهود إيجابية، سواء للدول فرادى أو العالَم ككل. ومقارنة بكل ما جاء من قبل، كان نظام ما بعد الحرب نعمة للشمولية.

ولكن دوام الحال من المحال. فمع انحسار فجوة التفاوت بين الدول، اتسعت فجوة التفاوت داخل كل دولة ــ إلى الحد الذي يشير إلى أن انقلاب الأولويات على هذا النحو ربما كان حتميا. والآن بعد حدوث الانقلاب بالفعل، بدأت العواقب أيضا تصبح ملموسة. ورغم صعوبة الجزم بهذه العواقب على وجه التحديد، فإن بعضها يبدو واضحا إلى حد كبير.

فبادئ ذي بدء، ستكون الولايات المتحدة أكثر عزوفا عن استيعاب حصة غير متناسبة من تكلفة توفير المنافع العامة العالمية. وفي حين قد تتمكن دول أخرى من اللحاق بالركب في نهاية المطاف، فسوف تظل هناك فترة انتقالية لمدة غير معلومة، وربما تتراجع الإمدادات من هذه المنافع العامة العالمية خلال هذه الفترة، ومن المحتمل أن يعمل هذا على تقويض الاستقرار. على سبيل المثال، ربما يُعاد التفاوض على شروط المشاركة في منظمة حلف شمال الأطلسي.

وسوف تفقد التعددية أيضا زخمها ــ برغم تمكينها لفترة طويلة بفضل نفس النوع من المساهمة غير المتماثلة، وبرغم كونها متناسبة عادة مع دخول وثروات الدول ــ مع تسارع الاتجاه نحو اتفاقيات التجارة والاستثمار الثنائية والإقليمية.

ومن المرجح أن يكون ترامب نصيرا رائدا لهذا الاتجاه، والواقع أن حتى اتفاقيات التجارة الإقليمية ربما تصبح مستبعدة، كما تشير معارضته للتصديق على اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تشترك فيها 12 دولة.

ويساعد هذا في خلق الفرص للصين لقيادة إنشاء اتفاقية تجارية لآسيا ــ وهي الفرصة التي يستعد قادة الصين بالفعل لاغتنامها. وبالتزامن مع استراتيجيتها «حزام واحد وطريق واحد» وتأسيسها للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، سوف يتمدد نفوذ الصين في المنطقة بشكل كبير نتيجة لهذا.

من ناحية أخرى، قد يكون هذا الاتجاه بعيدا عن التعددية سببا في إلحاق الضرر بالدول النامية التي تفتقر إلى قوة الصين الاقتصادية. وفي حين وجدت الدول الفقيرة والأقل نموا الفرص للنمو والازدهار في ظل النظام القديم، فمن الواضح أنها سوف تناضل للتفاوض بفعالية على أساس ثنائي. والأمل هنا هو أن يدرك العالم مصلحته الجماعية في الحفاظ على مسارات التنمية مفتوحة للدول الأكثر فقرا، تحقيقا لمصلحة هذه الدول ومن أجل السلام والأمن الدوليين.

بعيدا عن التجارة، تُعَد التكنولوجيا قوة عالمية أخرى عاتية من المرجح أن تلقى معاملة مختلفة في ظل النظام الجديد، فتصبح خاضعة للمزيد من التنظيمات على المستوى الوطني. وسوف تتطلب التهديدات السيبرانية بعض التنظيمات فضلاً عن تدخلات سياسية متطورة.

ولكن تهديدات أخرى ــ على سبيل المثال، الأخبار الزائفة التي انتشرت في الغرب (وبخاصة في الولايات المتحدة أثناء الحملة الانتخابية) ــ ربما تدعو أيضا إلى نهج أكثر ميلاً إلى التدخل. وربما يحتاج تبني التكنولوجيات الرقمية التي تعمل على إزاحة العمالة إلى التنظيم حتى يتسنى للتعديلات البنيوية للاقتصاد أن تجاريها.

من الواضح أن التأكيد الجديد على المصالح الوطنية لا يخلو من تكاليف ومخاطر. ولكنه ربما يجلب أيضا فوائد مهمة. ذلك أن الاقتصاد العالمي الجالس على قمة أساس متهالك ــ من حيث الدعم الديمقراطي والتماسك السياسي والاجتماعي الوطني ــ لا يمكن اعتباره مستقراً.

وما دامت هويات الناس مرتبة في الأساس حول المواطنة في دول قومية كما هي حالها الآن، فإن نهج الدولة أولاً ربما يكون الأكثر فعالية. وسواء شئنا أو أبينا، فنحن على وشك اكتشاف مدى صدق أو كذب هذه الرؤية.

* مايكل سبنس حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، وكبير زملاء مؤسسة هوفر