منى ابوزيد

السُّلطة الخَامسة ..!


«الجمال طغيان قصير العمر» .. برنارد شو ..!
معظم الأضابير التي ناقشت خضوع النساء المطلق لمقاييس الجمال التي فرضتها عليهن ـــ ولم تزل ــ أهواء الرجال عبر العصور أكدت على أن محاكاة الصورة النمطية لجمال الأنثى في ذهن رجل العصر كانت ولم تزل مهمة المرأة التاريخية ..!
كانت المرأة العربية – التي تحاكي اليوم فزاعات الطيور كي تحظى بإعجاب الرجل – تستميت كي يزداد وزنها، لأن الرجل العربي كان يعجبه ذلك .. وكانت المرأة البورمية – وما تزال – تحارب نواميس الطبيعة من أجل امتلاك رقبة زرافة، تلف عنقها بالجنازير والسلاسل، وتقاوم آلام فقرات العنق، وكلما كان العنق طويلاً جداً ومشوهاً جداً كلما أعجب سيدها أكثر ..!

بينما كانت أختها الصينية تخنق قدميها منذ ولادتها وحتى مماتها بالأربطة الغليظة حتى يختلط اللحم بالعظم، وتفوح روائح القروح، وكله في سبيل الحصول على أقدام معوقة، ومشية متعثرة تؤهلها لحمل لقب ذات «الزنابق الذهبية» الذي ينعم به عليها خطيب المستقبل .. وكانت بعض الإفريقيات يثقبن شفاههن ويجتهدن في توسيع تلك الثقوب، وكلما اتسعت الشقوق وتهدلت الشفاه، كلما ازدادت فرص الحصول على عريس لقطة ..!
ولئن سألت عن حفيدات هؤلاء وأولئك، فإن أخطر مشكلاتهن الوراثية هي أن معظمهن يهزمن أنفسهن بأنفسهن بسلاح التناقض .. فهن من جهة يحاربن الأفكار التي تختزل قيمة الأنثى الإنسانة في صورة امرأة جميلة .. لكنهن جهة أخرى يجارين ـــ طائعات مختارات ــــ مؤامرات «التشييء» و»التسليع» التي يتهمن الرجال عادة بالوقوف خلفها، فيدخلن إلى ساحات المعارك الجندرية بأظافر مطلية، ووجوه مصبوغة، وأجساد مذعنة تماماً لمقاييس الجمال التي يفرضها ــ دوماً ـــ زوغان عيون الرجال ..!

هذا التنازع في المعنى تناولته رواية «رادوبيس» لنجيب محفوظ، والتي لاقت رواجاً نقدياً، لبعدها التاريخي، أو إسقاطها السياسي، أو لعلها تلك الإيماءات الفلسفية البديعة التي ناقشت ـــ بهدوء ــــ فكرة علم الجمال «معنى ومبنى» ..!
فالبطلة امرأة بلا أسلحة تقريباً .. بسيطة .. ريفية .. تتبع أهواءها .. تزوجت من رجل هجرت لأجله أهلها، وحينما هجرها بدوره، تكفَّل جمالها الأخاذ بكل شيء ..!

هكذا ـــ وعن سبق إصرار وترصد ميلودرامي! ـــ يصوَّر الراوائي البطلة امرأة مقطوعة الأصل والفصل والعائل والسند، حتى يبرز لقارئه سلطة الجمال وسطوته الأكيدة ومقدراته الفذة على جذب بقية السُّلطَات (المال .. المُلك .. والفن)، دونما أي اكتراث يذكر لمبدأ فصل السلطات الذي نادى به فقهاء القانون، من أمثال مونتسكيو ..!
الطريف حقاً في الرواية أن جماِل البطلة لا يمكن توصيفه بملامح محددة، وهنا يكمن ذكاء الراوي الذي أفلت من دقة الوصف إلى رحابة المعنى، محاباةً منه لقاعدة إنسانية مفادها أن معايير الجمال الأنثوي تختلف من عصر إلى عصر، وأن مقاييسه ــ بالضبط! ــ في المنهج الذكوري، تتفاوت من عين زائغة إلى أخرى «تندب» فيها رصاصة ..!

هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة