تحقيقات وتقارير

عمر إحساس وفيصل عجب أبرز نجومها “الراندوك”.. رياح التغيير تضرب بنت عدنان


طالب: لغة “الراندوك” أكثر سهولة في التواصل مع الآخرين

باحثة اجتماعية: “المصطلحات الشبابية” من إفرازات التحول المجتمعي

(محمد درديري)، شاب تبدو على ملامحه الوضيئة نعمة، وبعض قسمات الترف، مازجها ببعض اللبس الذي يرتديه، إذ جمع بين فخامته والعادي، يرتدي حذاء من البلاستيك أو ما يعرف بـ(الشحاطة) التي تملأ أماكن الأحذية البلاستيكية في كل الأسواق السودانية، إضافة لسلسلتين حديديتين وواحدة ثالثة من البلاستيك زيّنت يده اليسرى.. حييته، فباشرني بوجه صبوح مبتسم قبل أن يرد التحية (أهلاً يا شابة)، سألته في أي جامعة تدرس؟ فجاءت إجابته سريعة: في أكاديمة (…..) بكلية المختبرات الطبية، فباغته زميله الذي كان يجلس عن يمينه بعبارة آمرة ولكنها مبطنة بالإلفة: (يلا يا مان الزمن كبس).. فاعتذر بعد أن أجاب صديقه: (دقيقه ياخ.. كدي النشوف الرصة شنو).. ففهمت أنهم على عجلة من أمرهم للحاق بمحاضرة في قاعات الدراسة.. فسمحت له بالذهاب..إذن هي لغة جديدة باتت الأكثر شيوعاً بين الشباب وخاصة الطلاب.

ده الكلام..!
(الصيحة) حاولت سبر أغوار اللغة الجديدة التي باتت لغة التواصل بين فئة عريضة بالمجتمع، وهو ما يسميه البعض بـ(كلام الشماسة) وتختلف عن “الرندوق” الذي ترتكز لغته على نطق الكلمة بطريقة مقلوبة وغيرها من أنواع هذه اللهجة التي تميز به من يطلقون عليهم “الشماشة”، بحسب البعض فإن أمر اللهجة الجديدة بات خارجة على كل المألوف، وأنه كسر طوق الفكرة الأساسية التي رسمتها الأذهان، إلى شيوع لم يكن يتخيله أكثر الناس قراءة للشارع العام، وقد أصبح يشكله فهم مستورد، إن جاز التعبير، جراء تداول عبارات لم يعرف الناس حتى الآن، من هو مصدرها الذي أجازها لتكون بين كل أوساط المجتمع، وعلى اختلاف شرائحه، حتى وإن لم تكن متداولة في معنى الكلام بها، يكفيها أنها باتت معروفة إلى حد كبير، وإن احتفظت لنفسها بخصوصية بعض المفردات التي ظلت حبيسة الطلاسم، والتي لايجيد فكها إلا شريحة الشباب بشكل دقيق.

أمان من الشر
في شوارع الخرطوم، وتحديداً منطقة السوق العربي، قابلنا عدداً من الشباب الذين تبدو ملامحهم أنهم بعمر محدد، دون الـ25 بقليل، جميعهم بالمرحلة الجامعية، يرتدون ملابس متشابهة، حتى تظن أنها صُنعت لهم، ولكن تمت مراعاة مزج الألوان لها بحسب طلب كل واحد منهم، استوقفناهم، ابتدر الحديث لـ(الصيحة) (مأمون أبوطالب)، وسألته عن اللغة الجديدة التي يتحدثونها فقال: نحن كشباب نتداول لغة (الراندوك الجديد) لأنها تسهل الكثير من التعاملات بيننا، إضافة إلى أنها تختصر الكلام الكثير، بالإضافة إلى خفّتها كمفردات، وأضاف وهو يضحك( كلمات ظريفة ياخ)، مشيراً إلى أنها كلغة شارع، تم تصديرها من (أولاً الشوارع) الذي يتداولونها ليلاً ونهاراً، وهو يرى أنهم جاءوا منها من صميم الشارع، كونهم قد تعرضوا لظروف بالضرورة مغايرة من ظروف الذين يسكنون في بيوتهم آمنين، وقد ذكر (مأمون) أنها لغة تحمل المثير، مضيفاً (دي لغة عجيبة وضروري الواحد يعرفها عشان يأمن شر الشارع).

عبارات وصفية
(ياسر عادل)، كان ضمن الشباب الذين استوقفناهم واستنطقناهم في ذات السياق، كان حديثه يحمل بعض الهدوء وكأنه ينتقي المفردات انتقاءً، محاولاً أن يفهمنا إياها، فقال: هناك بعض العبارات التي يمكن أن يسميها وصفية إلى حد كبير، وهي تختزل المعنى اختزالاً، ليأمن (الشماسة) ــ كما وصف لنا ــ الضرر الذي لا محالة سيلقاهم في الشارع الذي أصبح مأواهم، وأضاف أن من بين تلك المفرادت للغة (الراندوك) بها عدم احترام كما أرى، وقال إن كلمة (الجلك)، مثلاً هي بكل أسف معنى (الأب) والمرأة أو الأم (جلكينة)، أم المال أو (القروش) فيقال عنها (الضحاكات) وأشار إلى أن وجودها لا يمكن أن يكون معه الإنسان عابساً، بل سيظل على الدوام في حالة نفسية مستقرة وضاحكاً كما وصف لنا، مبيناً أن سلفادور يقصد بها (يعني احتياج القروش سلف أو دين) مثلاً كأن يقول لك (يا حبة داير لي ضحاكات سلفادور).

مشاهير يخدمون الراندوك
ويرى مؤيد نجم الدين في حديثه لـ(الصيحة)، أن (الراندوك) يستخدم الكثير من أسماء بعض المشاهير في مجالات مجتمعية مختلفة، وأشار إلى أن أسماءهم تتوافق وبعض أغراض اختصارات اللغة (الشوارعية) كما وصفها مؤيد، وأكد أنه معجب غاية الإعجاب بهذه اللغة التي قال عنها إنها جميلة وتتوافق مع ذوق الشباب، فضلاً عن تفوقها، كونها أصبحت بين الشريحة التي يعتبرها المجتمع (الناس المرطبين)، منوهاً إلى أن الراندوك يفي تماماً بالغرض في طريقة إيصال كلامهم، وهو المختصر المفيد، وذكر لنا بعض أسماء المشاهير المعروفين في السودان ، وقد شغلوا أوساطا مختلفة، فقال: يقال لوجبة العشاء (عائشة الفلاتية) مثلاً: (أسمع يا عمك عائشة الفلاتية وين وشنو) ،و(فاطمة الجعلي) نقصد بها وجبة الفطور، وأضاف أن (العضة) مقصود بها الأكل (أمشي أعضي وأجيكم يا فرد)، وأشار في حديثه إلى أن (كسير التلج) تقال عندما يحس أن إنساناً يدافع عن إنسان آخر أو يتحدث بحلو الكلام عنه، ويكون الآخر صاحب مكانة مرموقة أو ذا جاهٍ كبير، وضحك قبل أن يضيف: (أيضاً تستخدم عندما يتعامل الواحد منا مع بنت بصورة رقيقة ويحاول جاهداً كسب ودها)، أما (خوجلي عثمان) تقال للشخص الخجول، مثلاً(يا حبة الزول ده مالو خوجلي عثمان كده)، أما عندما يُعجب أحدنا بشيء معين، فيقول خلاص عملنا (فيصل العجب)، أما إذا كان الشخص يتمتع بحساسية عالية، فنقول عنه (عمر إحساس) مثلاً(الزول ده عمر إحساس (جليهو) أي تخلى عنه.

لغة مخيفة
أما الطالبة بجامعة النيلين نهلة الفاضل، فترى أن لغة الراندوك لغة دخيلة على المجتمع السوداني الذي يُعرف عنه الخلق القويم في عمومه، وأشارت إلى أن هذه اللغة الغريبة تحوي ألفاظا وكيفية نطق مخيفة، حتى أنني أخاف جداً عندما أجد بعض الشباب يتداولونها في المواصلات العامة، حتى تبدو لك وكأنها لا تمت إلى اللغة العامية بصلة على الإطلاق، وأضافت (نهلة): هناك بعض الكلمات ليست مفهومة كالتي أصبحت معروفة لدينا كبنات إلى حد كبير، وهي ترى أنها لغة بها الكثير من الخطورة على المجتمع، خاصة أنها يمكن استخدامها في الكثير غير المفيد.

المرغوب المتقاطع
في ذات السياق، تحدثت المواطنة هند إبراهيم، لـ(الصيحة) وأشارت إلى أن هذه العبارات التي تحولت إلى لغة يتم تداولها بين فئة الشباب، للأسف أصبحت مرغوبة لديهم، خاصة أن كل أهلنا الكبار يرفضونها ويصفونها (بعدم الأدب)،لأن بها العديد من المفردات التي لا تحترم كبار السن، وأضافت أنا أعرف القليل منها، ولكن هناك الكثير منها أجهله بالمقابل، وزادت في القول، إنها كلغة يمكن أن تستخدم ضد من يجهلها في التخطيط حوله وإلحاق أي ضرر به، وأعربت عن رأيها أنها تأمل أن يتجه الشباب نحو ترك هذه اللغة، وعدم تعميمها بينهم بالتداول المريع الذي يحدث الآن بالشارع العام، مبينة أن الشارع السوداني أرقى من ذلك، وأجدر أن تحوم فيه لغة لطيفة تستأنس بها كل شرائحه دون أن تمس أي واحدة منها بشيء.

معجم اللغة!!
ضحك (الواثق الطاهر) قبل أن يتحدث إلينا، بعد أن عرف طبيعة أسئلتنا عن (الرندوك)، فهو ابن الـ25 عاماً، وهيئته تدل على أنه من أبناء الأسر الثرية، فأشار إلى أن (الراندوك) لغة يجب أن تكتب في معجم ،(ضاحكاً) ، فسألناه إذا كان يحفظ بعض كلمات الراندوك، وطلبنا منه أن يسردها لنا بمعانيها، فقال: حديدة معناها،(العربية) أو السيارة، أما إذا قيل لك (الهوا ضربك) هذا يعني أنك أصبحت لا تساوي شيئاً، والشخص الذي تبدو عليه ملامح النعمة، يقال له (مرطّب)، أما إذا كان إنساناً فيه صفة الكذب، فيقال له (فلان فنان خلاص)، أما إذا سمعتِ يوما بـ(فتيحاب) فيقصد بها من تحاشى شيئاً معيناً، فيقال عنه(الزول ده فتيحاب، أي الجري من الشيء وتركه) وقريب لها في المعنى كلمة (شتات) التي تعني (أنا ماشي، مثلاً: يلا يا حبة أنا شتات أو أنا مشتت)، أما مفردة (الحنك)، فمقصود بها (الكلام المراد التحدث به)، وكلمة (الوهمة) مقصود بها البرنامج مثلاً يا عمك الوهمة شنو) كأن تقول (يا فردة الوهمة ما كده إنت فاهم غلط)، أما إذا كان الشخص من الذين يتحدثون كثيراً فيقال عنه،(معاط) ، وعندما تسمع عبارة (جر هوا أو جر زمن)، فمقصود بها تضيع زمناً مثلاً (تعال نجر زمن في الشارع).

مزاح مغلّف !!
استوقفنا أحد الشباب المارين بشارع الجامعة، وسألناه عن هذه اللغة التي بدأت تسيطر على الشارع العام، فرحب بنا بعد أن ابتسم، فقال أنا ألخصها ليكم في نكتة: (واحدة عملت الحبيب بورقيبة (حبت ليها واحد)، قام الواحد عمل الضو قدم الخير (أتقدم لأهلها) وأهلها لما عرفوا إنو ما عامل كمال الشغيل (ليست لديه وظيفة)، عملوا ليه الجزيرة أبا،(رفضوه)،(قاموا الاثنين عملوا الضوء الشارد (شردو)، وعملوا عقد الجلاد) (عقد زواج) أم البت عرفت الخبر (عملت أحمد الدوخي )، (أغمي عليها)، وختم حديثه لنا قبل أن يذهب وهو يقهقه (لو الموضوع فيصل العجب بنعمل ليكم كمال حامد).

مفردات غريبة
ويواصل (الواثق الطاهر) حديثه لـ(الصيحة) في سرد وشرح معاني مفردات (الراندوك) الغريبة، وأشار إلى أن كلمة (جامد) يتم تستخدامها عندما ينال شيئاً نال الرضا والاستحسان الشديد، وضرب مثلاً (الحديدة دي جامدة خلاص)، أو كأن يقول أحد الشباب للآخر عندما يتفقون على شيء معين (جامد بتصل عليك بعدين)، وأضاف أن عبارة (جوة الجك)، تقال عندما يريد أحد الشباب الذهاب مع آخرين إلى مكان ما فيقول لهم: (ماشين الحفلة .. جوة الجك طوالي)، وفي حال الذهاب إلى النوم، فيقول الشاب (أنا ماشي أركب النوبيرا)، وهذا اسم معروف لنوع من أنواع العربات، وأضاف (الواثق) أن كلمة (كبس) مقصود بها جاء أو وصل أو حضر، كأن تقول مثلاً: (زولك المعاط كبس)، أما كلمة (بلف) فالمعنى بها (الكمساري) كأن تقول (يا بلف أدينا الباقي).

إبدال الوصف
في ذات السياق، تحدث لـ(الصيحة) (أحمد عمر) الطالب الجامعي، الذي أشار إلى أن لغة الراندوك لغة أقدر من غيرها في وصف كل شيء، وهي تناسب تماماً الشباب ، وفيها الكثير من الحرية التي تخلو منها البيوت، ويحظرها المجتمع، فسألناه إذا ما كان يعرف من (الراندوك) شيئاً، فقال وهو يبتسم: نعم أعرف كل مفرداته وأستخدمها بين أصدقائي ويمكنني أن أقول لكم بعضاً منها، فبحكم المجتمع الجامعي لدينا وصف للزميلات اللائي منحهن الله الجمال فنقول عن الواحدة منهن (شديدة قاطعة، أو نار منقد) ، أما إذا كان الشخص غير مدعو لمناسبة معينة وذهب، فنقول عنه (ضهب أو نحل، أو مظلات، أو كواكب، أو دبايب، أو ضفادع)، وأضاف أن في الراندوك إبدالاً للكثير من الوصف للأشياء، فعندما يكون الإنسان بوضع ممتاز وكل أمره ميسّر، نقول عنه (ماشة معاك بالكبري الجديد)، وفي حال وجود حفل مثلاً، فنقول عنه (الطرب.. الليلة الطرب وين)، وأكد أن هناك العديد من المفردات الكثيرة في هذه اللغة، وقد يجهل الناس العامة بعضا منها، فكلمة (السان) يعني بها (الزول، أو الشخص)، ويقال لرجال الشرطة في لغة الراندوك (الطارة)، ومفردة (هوا) تعني أنه مسؤول وذو منصب فنقول: (الزول ده هوا)، أما الشخص العاطل فنقول عنه (عمك ده كاسر كرونا)، والمال فنقول عنه (الشرتيت).

علم النفس يصفها بالمشكلة
في سياق متصل تحدثت لـ(الصيحة) الأستاذة نجوى عبود خبيرة علم النفس والاجتماع، وأشارت إلى أن الراندوك هو لغة مهجنة عبارة عن معيار التحولات التي تحدث في المجتمع بدافع عدم الرضى والشعور بالإحباط والظلم الاجتماعي، فهو كظاهرة مشكلة نمت قديماً في المجتمع وكانت ترتبط بالأفارقة الذين تم استعبادهم في أمريكا ليعملوا هناك بصفة العبيد، فما كان أمامهم إلا خلق لغة تضمن لهم سهولة التعاون فيما بينهم كفئة ينظر إليها المجتمع الأمريكي نظرة دونية أو هابطة، فهو كمصطلحات يتم التداول بها فيما بين شريحة المشردين والفئات التي تعتبر ضعيفة في المجتمع نسبياً، وأكدت نجوى أنه من الملاحظ أصبح الراندوك يستخدم على نطاق واسع جداً بين فئات المجتمع بكل شرائحه المتباينة، وبشكل كبير بين طلاب الجامعات، فالراندوك أصبح تحولا عريضاً اقتحمه السودانيون، مبينة أنه بات يلقي بظلاله على عاداتنا وشكّل عبئاً على كاهل المجتمع خاصة وأنه وبسببه تعرض الكثير من الناس إلى عمليات خطيرة كلها تصب في عالم الجريمة بأنواعها المختلفة على رأسها النصب والاحتيال، وأشارت نجوى عبود إلى أنه يمكن القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة التي نجمت عن المجتمع نفسه، بتقديم كل ما يلزم من دعم عبر وسائل التعاون الأخوي، والمزيد من بسط طرق التعبير النفسي، وعلى الجهات المسؤولة مجتمعياً أن تطرح مزيداً من الحريات على القدر المناسب، مشيرة إلى ضرورة بث روح الإنصات والرأي الآخر فهو أمثل طريقة لتحويل العوامل النفسية المتزايدة بتراكمها والشعور الذي يطغى على هذه الفئة بأنها مظلومة مجتمعياً.

تحقيق: تيسير الريح
صحيفة الصيحة