منى ابوزيد

حكايات فيها إنَّ ..!


«كل جروح الكرامة يصيب بها المرء نفسه بنفسه».. أندرو كارنجي

(1)
ممرضة نيوزلندية قامت برحلة سياحية في سبعينيات القرن الماضيإلى مدينة البتراء الأثرية بالأردن .. فانتهت رحلتها بزواجها من دليلها البدوي ذي الشخصية القيادية الموهوبة، الذي أقنعتها مواقفه بأنه الرجل المناسب. ثم عاشت ـ معه ولأجله ـ بضعة وعشرين عاماً في كهف عمره نحو ألفي عام، وأنجبت منه ثلاثة أولاد .. وحينما رحل زوجها إلى الدار الآخرة رحلت هي أيضاً، عادت إلى أوروبا، قائلة إنها لم تكن في البتراء من أجل الجبال والتاريخ والتراث، بل من أجله هو. لذلك لم تستطع أن تبقى دون يده التي كانت تمسك بيدها. بعد فراغي من قراءة الكتاب بقيت أحدق في الفراغ أمامي، لاحظت أنني لم أكن أنقب في انطباعاتها هي، بل في شخصية ذلك الرجل البدوي الذي أسر قلب امرأة متحضرة، متحررة، وزين لها حياة البداوة. كنت أبحث في مواقفهما وذكرياتهما المشتركة عن أسباب بقاء ذلك الحب الذي يشبه الاجتياح .. كنت أبحث عن ذلك الشيء الذي ميز هذا الرجل البسيط العادي، متواضع التعليم والثقافة والمهنة والدخل .. ذلك الشيء الساحر الذي جعل منها بدوية لا تتبرم من قضاء حاجتها في الخلاء، ولا تفر من زيارات الثعابين والعقارب ولا تحن إلى النوافذ الزجاجية، والشوارع المسفلتة، والحياة الرغدة. كنت أبحث عن ماهية ذلك اليقين الكامل .. وأي يقين ..!

(2)
أهم حيل الشغالة الفيلسوفة للتخلص من ألم النهايات الفاشلة كان الدخول ببساطة في علاقة جديدة، وبكل ما أوتيتْ من حماسة وسرعة .. ثم أنه ليس بالضرورة أن تكون المرأة جميلة بما
يكفي بل أن تجيد استخدام أجمل مافيها بما يكفي .. وبينما كنت أقرأ في ذلك الوقت لرائدات تحرير المرأة، كانت هي مشتبكة في القتال مع إحدى عاملات محل الكوافير المجاور للفوز بقلب عامل بناء كان يواعد الاثنتين معاً، وبعد معارك عاطفية لا حصر لها دخلت مؤسسة الزوجية من أوسع أبوابها، وقبعت داخل أسوارها تذود عن عروشها بذات البسالة الأنثوية القديمة، وهي تضحك .. وتغني .. وتغرق في النوم إلى جانب أطفال أشقياء وزوج محمول و»مشلهت»، يظن نفسه – بفضل تملق زوجته واستخدامها الذكي لميزاتها – أسعد الأزواج، وأعظم الرجال ..!

(3)
تابع القيادة .. لن أتقيأ سخطي .. أنا فقط أبغض ذلك الدفء الذي يحتل المقعد .. لطالما كرهته .. ولطالما اجتنبته .. لي فلسفة خاصة بشأن ذلك الدفء البغيض .. لطالما أحسسته كائناً هلامياً لزجاً يأخذ شكل المقعد .. صوته كالغليان .. لونه كالفجر في ليالي الخريف الماطرة .. حتى أنه ذو نكهات كمعطرات الجو الرخيصة .. ما علينا .. تعتمد النكهة على حال «من غادره» توّاً .. هناك ما أسميه الدفء بنكهة الغيظ .. بنكهة الحزن .. الغضب .. والغيرة ..النكهة الأخيرة هي الأفظع والأفدح .. الأخيرة هي التي تفقدني دوماً زمام أساريري .. هل ستغضب من جديد؟! .. أنا لا أفتعل شجاراً .. أنا فقط أتململ ..

فبعيداً عن دفء المقعد ..
لا زال عطرها يلفك ..
وبعيداً عن مسألة العطر ..
لا زالت في عينيك بقايا تلك النظرة المسكينة التي ترافق حضورها الجليل ..!
ما شاء الله ..!
هل كل ما تبقى لي منك هو أثر انصرافها..؟!
بقايا حضورها..؟!
يا لها من ثروة ..!

هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة


تعليق واحد

  1. جلسنا حول طاولة مستطيلة ، ألقينا نظرة على قائمة الأطباق، ودون أن نلقي نظرة على بعضنا طلبنا بدل الشاي شيئا من النسيان وكطبق أساسي كثيرا من الكذب!
    وضعنا قليلا من الثلج في كأس حبنا، وضعنا قليلا من التهذيب في كلماتنا، وضعنا جنوننا في جيوبنا، وشوقنا في حقيبة يدنا ..
    لبسنا البدلة التي ليست لها ذكرى، وعلقنا الماضي مع معطفنا على المشجب ..
    فمر الحب دون أن يتعرف علينا !!

    (أحلام مستغانمي)