عالمية

القاضي الذي قال للرئيس لا


غضب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشدة من حكم القاضي الفيدرالي، جيمس روبرت، وقف تنفيذ الأمر الرئاسي الذي يمنع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الأراضي الأميركية، عملا بالقرار الرئاسي “حماية الأمة من دخول الإرهابيين الأجانب إلى الولايات المتحدة”. ولأن الرعونة من طبيعة الرئيس ترامب، فقد لجأ، مباشرة بعد سماع حكم القاضي، إلى “تويتر”، وكتب “القاضي المزعوم الذي أصدر هذا الحكم يثير السخرية، وهذا القاضي يعرّض بلادنا للخطر، إذا حدث شيء فلوموه هو والنظام القضائي في البلاد”. هذه أول مرة يهاجم فيها رئيس أميركي قاضيا فيدراليا ويصفه بالمزعوم، ويحمّله مسؤولية تعرّض البلد للخطر. على أي أساسٍ بنى القاضي حكمه الوقف الفوري لقرار الرئيس منع مواطني سبع دول من دخول الأراضي الأميركية؟

ارتكز القاضي في نص الحكم الاستعجالي وقف تنفيذ القرار الرئاسي حتى النظر في جوهر الدعوى التي رفعتها ولايتان أميركيتان، على القاعدة القانونية التي توجب وقف تنفيذ القرارات الحكومية إلى البت في الدعوى، لاحتمال تعرّض المعنيين بهذه القرارات لأضرار غير قابلة للجبر أو احتمال تضرّر المصلحة العامة. وإعمالا لهذه القاعدة، كتب في حكمه (حيث إن من شأن ترك الأوامر الرئاسية المطعون فيها ساريةً إلى غاية البت في الدعوى أن يلحق ضررا بطلاب أجانب ملتحقين بالجامعات الأميركية، ومن شأنه أن يشتت شمل أسر أميركية، حيث سيظل جزء منها في البلاد والجزء الآخر خارجها، كما من شأن قرارات الرئيس الأميركي أن تضر بالعائدات الضريبية في الولايات ومداخيل الجامعات ومراكز البحث، ومن شأنها أن تمسّ بحرية التنقل بالنسبة إلى أشخاصٍ لم توجّه إليهم أي تهم محددة، ومن شأنها أن تضر بسوق الشغل الذي قد يكون محتاجا إلى يدٍ عاملةٍ من خارج الولايات المتحدة، ومادامت الولايات مسؤولة قانونيا عن مصالح سكانها، فإن لها حق الدفاع عنهم أمام المحاكم. وعليه، تأمر المحكمة بإيقاف القرارات الرئاسية التي صدرت بتاريخ 27 يناير، والتي تمنع مواطني سبع دول من دخول الأراضي الأميركية، إلى غاية البت في جوهر القضية، والاستماع إلى كل الأطراف، كما تأمر المحكمة بتعميم هذا الحكم على كل الولايات، وليس، فقط، واشنطن ومينيسوتا). هكذا أوقف القاضي الشجاع سريان الأمر الرئاسي، وهو يعرف أن قراره سيجر عليه سلاطة لسان ترامب، وسيضع الجهاز القضائي في تماسّ مباشر مع الجهاز التنفيذي في موضوع حسّاس للغاية، عنوانه “الأمن القومي الأميركي”.
ما هي الخلاصات السريعة من هذه النازلة الغنية بالدلالات القانونية والسياسية؟ الدلالة الأولى أن أميركا بلاد مؤسسات وقانون وفصل سلطات وتقاليد ديمقراطية، وأن الحكم ليس في جيب شخص واحد يصنع به ما يشاء، وحتى وإن كان هذا الشخص منتخبا بشكل ديمقراطي من الأميركيين، فهذا لا يطلق يده في شؤون الدولة وحياة الناس وحرياتهم بلا قيد ولا شرط ولا رقابة، وهذا هو جوهر التوازن في النظام السياسي الحديث، حيث السلطات يراقب بعضها بعضا منعا للاستبداد بالحكم.
الدلالة الثانية أن القضاء المستقل والشجاع أكبر ضمانة للحقوق والحريات، وأن السلطة التنفيذية، حتى في أعرق الديمقراطيات الحديثة، يمكن أن تتجه إلى خرق هذه الحقوق، خصوصا حقوق الأطراف الضعيفة في المجتمع، وأن القضاء يبقى الحصن الحصين للدفاع عن القيم المكتسبة من وراء نضال طويل ومرير. القضاء الحر والمستقل الذي يشتغل داخله قضاة شجعان لا يخافون رئيسا ولا حكومة ولا سلطة، ولا حتى الرأي العام، ويحتكمون إلى القانون وإلى الضمير.
الدلالة الثالثة تكسير تابو “حماية الأمن القومي والتصدّي للإرهاب” الذي يستعمل فزاعة لإبعاد المحاكم عن فحص مشروعية القرارات الحكومية، بدعوى أن الرئيس مسؤولٌ عن أمن المواطنين، وأن الحرب ضد الإرهاب تبرّر التضييق على الحريات، وتعليق العمل بالقانون وضماناته. قال القاضي جيمس روبرت “ترى المحكمة أن الظروف التي رفعت فيها الدعوى للنظر فيها اليوم من الأهمية بمكان، وتحتم عليها التدخل للاضطلاع بواجبها الدستوري في نظامنا ثلاثي الأطراف”. هذا معناه أن القاضي يقول للرئيس إن المحكمة تعرف حساسية الموضوع، وتعي الآثار التي سيخلفها قرار توقيف أمر رئاسي من هذا الحجم، لكن في البلاد ثلاث سلطات، ويجب احترامها، وأن الدستور فوق الجميع، وأن القانون لا يدور مع دوران مزاج ساكن البيت الأبيض.

العربي الجديد