تحقيقات وتقارير

تتغير الأسماء والمضمون واحد.. الرق الحديث.. (العبودية) في قالب جديد


خبير: البطالة والحروب والفقر أفرزت انتهاكات ضد الإنسانية

مفوض اللاجئين: السودان معبر فقط لظاهرة الاتجار بالبشر

أكاديمي: عمالة الأطفال في السودان لا تشكل هاجساً بالنظر إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية

الشيخ أبوقرون: ما يحدث عمل عصابات وليس رقاً بمعناه المعلوم

المجلس القومي لرعاية الطفولة: زواج الأطفال حدَّ من فرص تعلُّم البنات في السودان

مدخل:

(يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

“الخليفة العادل عمر بن الخطاب مخاطباً عامله على مصر، عمرو العاص، بعدما أقدم نجل ابن العاص على ضرب قبطي سابَقَه”.

بعد عقدين من عمر الألفية الجديدة، كانا شاهدين على التطور البشري المهول، ما يزال الرق (العبودية) حاضراً في عالمنا، إذ استطاع الاسترقاق فك قيوده التي فرضتها الأديان والمواثيق ومدونات الأخلاق، ليطل من جديد باستخدام طرائق حربائية أعادت إنتاج الرق المتعارف عليه في العهود القديمة بطريقة عصرية.

فهل عادت تجارة الرق مجدداً، أم إن ما يحدث هو تطور طبيعي للجريمة. بالتاكيد أن الإجابة على هذا السؤال تقتضي الغوص في هذه الظاهرة القديمة المتجددة لا سيما في أوساط مجتمعنا السوداني.

تعريفات متنوعة
يعرف مركز الجزيرة للدراسات، الرق الحديث (المعاصر) بأنه: (استغلال أشخاص للعمل بلا مقابل أو بأجر زهيد لا يكفل لهم عيشاً كريماً، أو تلك الممارسات التي تستغل الأطفال لقلة إدراكهم وضعف حيلتهم في تجنيدهم قسراً والزج بهم في الحروب والنزاعات أو استغلالهم وتحويلهم إلى أيد عاملة، وغير ذلك كثير من تلك الطرق التي تسلب المرء حريته وحقه مكرهاً أو تمعن في استغلال جهله أو حاجته، مثل الاستعباد الجنسي وتجارة الأعضاء والزواج بالإكراه .. الخ).

وللمقاربة بين الرق الحديث، والرق السائد في العصور القديمة، نشير إلى أن عبد السلام الترمانيني قد عرف الرق بأنه (ظاهرة اجتماعية تقوم على استغلال إنسان قوي لإنسان ضعيف بدلاً من قتله، بمسوغ أن نجاة الأسير من حيث الأخلاق، تقدم عظيم، فالعيش في أدنى مراتب الحياة أهون من القتل).

وحالياً تعتبر تجارة الرق بحسب القوانين الدولية، وقوانين مكافحة الجريمة، الجريمة الثالثة في العام عقب جريمتي المخدرات والاتجار بالسلاح، حيث يتم استدراج العديد من الضحايا إما بالإكراه أو الخداع، فتنتفي حريتهم، وتسلب إرادتهم في التجول والاختيار، ويتعرضون لأقصى أشكال الإساءة الجسدية والنفسية الحاطة للكرامة الإنسانية والمهينة للحقوق المتفق على حمايتها دولياً.

وللغرابة، فإن جل الراسفين في أغلال الرق الحديث هم في الأساس أشخاص يملكون رغبة في تحسين أوضاعهم المعيشية، ومساعدة أقاربهم واصدقائهم، ما يحولهم على الرغم من إنسانيتهم إلى سلعة تنتقل من وطنها إلى بلاد أجنبية، بعد أن يتم التغرير به طوعاً بتقديم وعود كاذبة بتوفير فرص عمل بمرتبات مغرية، ويتم ذلك عبر الاتصال المباشر، أو عن طريق الإعلان في الصحف أو على مواقع الإنترنت، ومن ثم يزود تجار البشر، الضحايا، بوثائق وتأشيرات غالباً ما تكون مزيفة، وذلك مقابل سندات مديونية تضمن إخضاع الضحية.

مجرد سلعة
وتعرف جريمة الاتجار بالبشر بأنها كافة التصرفات المشروعة وغير المشروعة التي تحيل الإنسان إلى مجرد سلعة أو ضحية يتم التصرف فيها بواسطة وسطاء ومحترفين عبر الحدود الوطنية بقصد استغلاله في أعمال ذات أجر متدنٍّ أو في أعمال جنسية أو ما شابه ذلك، وسواء تم هذا التصرف بإرادة الضحية أو قسراً أو بأي صورة أخرى من صور العبودية.

ونصت المادة السابعة من الاتفاقية التكميلية لإلغاء الرق، والاتجار بالرقيق والأنظمة والممارسات المشابهة للرق الصادرة سنة 1936، على أن المقصود بالاتجار بالرقيق: ” كل فعل بالقبض على أو اكتساب أو التنازل عن شخص من أجل جعله رقيقاً، كل فعل اكتساب شخص لبيع أو لمبادلته.

وورد تعريف الاتجار بالبشر بالمادة الثالثة (أ) من بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وبخاصة النساء والأطفال، المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية في سنة 2000، والمعبر عنه اختصارا بـ “بروتوكول باليرمو”، حيث يعد مرتكباً جريمة الاتجار بالبشر “كل من استخدم بأي صورة شخصاً طبيعياً أو ينقله أو يسلمه أو يأويه أو يستقبله أو يستلمه، سواء في داخل الدولة أو عبر حدودها الوطنية، إذا تم ذلك بواسطة استعمال القوة أو العنف أو التهديد بهما، أو بواسطة الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة، أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة ، أو الوعد بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا مقابل الحصول على موافقة شخص على اتجار بشخص آخر له سيطرة عليه، وذلك كله إذا كانت هذه الأفعال بقصد الاستغلال أياً كانت صورة بما في ذلك الاستغلال في أعمال الدعارة أو غيرها من أشكال الاستغلال الجنسي واستغلال الأطفال في ذلك وفي المواد الإباحية أو التسول، والسخرة أو الخدمة قسراً، أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو استئصال الأعضاء، أو الأنسجة البشرية، أو جزء منها.

تجارة الأعضاء نوع آخر من الرق
ومن أنواع الرق الحديث الحديث ..تجارة الأعضاء البشرية، وهي أعمال البيع والشراء في الأعضاء البشرية مثل الكلى والأنسجة وقرنية العين بحيث تتحول تلك الأعضاء المستخلصة إلى سلع تباع وتشترى وبالتالي فهي تشكل اعتداء سافراً على صحة البشر وسلامتهم الجسدية، خصوصاً أن مروجي هذه السلع شبكات إجرامية منظمة دولياً تقوم عادة بغواية وخداع الأشخاص بقصد خطفهم فيما بعد من الدول النامية (أي الدول المصدرة للضحايا من دول شمال إفريقيا ودول الاتحاد السوفيتي، نحو الدول المتقدمة (أي الدول المستوردة المتمركزة في فضاء دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة ودول الخليج) فتستأصَل أعضاؤهم – سواء كرهاً أو بالخداع – وتودع في بنوك الأعضاء البشرية.

الأطفال والتسول
يعتبر الاستغلال في التسول أحد أشكال العمل القسري والرق الحديث، وهذا ما ما نص عليه بروتوكول باليرمو، وتضمنته إرشادات منظمة حماية الطفولة يونيسيف التي صنفت الاتجار بالتسول ضمن الأشكال المتعددة للاستغلال، حيث يتم إجبار الضحية على التسول، تحت التهديد لغرض الإيذاء الجسدي أو النفسي، لهذا يلزم على أجهزة الشرطة، باعتبارها المدافعة عن أمن واستقرار المجتمعات أن تتعامل مع الطفل المتسول برفق ورقة، وعليها واجب إعلام النيابة العامة للبدء بإنجاز الإجراءات الخاصة بالضحية القاصر.

عوامل الاسترقاق
عدد من الخبراء اتفقوا على أن عدداً من العوامل لعبت دوراً في تفشي ظاهرة الرق الحديث التي أصدر السودان تشريعات في العام 2014 لمحاربتها.

وهنا يشير أستاذ العلوم الاجتماعية بروفيسور السماني الوسيلة إلى أن بروز ظاهرة الرق الحديث في المجتمع السوداني تعود الى استشراء الفقر وتفشي البطالة وتأثير الحروب واتساع رقعة النزاعات المسلحة، وتفاقم الفساد في الحكم والإدارة والخدمة المدنية، وأضاف: من المعلوم أن ملف الرق الحديث من الملفات المسكوت عنها في المجتمع السوداني ومن القضايا التي غابت عن منضدة المثقفين وعن منابر الساسة، وأعتقد أن غياب حرية الرأي من برز الأسباب.

جسر العبور
ويستعرض البروفيسور السماني الوسيلة ما جهر به معتمد اللاجئين أحمد الجزولي، الذي أوضح أن السودان معبر فقط لهذه الظاهرة، مردفاً: التصريح لا ينفي الوقائع المثبتة، كما أنه لا يحلّ القضية، بل يزيدها تعقيداً، وفي حالة أن يكون السودان مسرحاً رئيسياً للاتجار بالبشر، أو معبراً فقط، فهذا لا يخفّف من مرارة الحقيقة التي كشفت عنها منظمات الأمم المتحدة، وهي وجود وسطاء وتجار سودانيين، ويمضي في القول لافتاً إلى أن الناظر في تاريخ السودان يستطيع أن يدرك أن لهذه الظاهرة إرث في المجتمع السوداني كان أبطاله سودانيون، لطالما نظر إليهم المجتمع السوداني، وختم السماني خلال حديثه لـ(الصيحة) وقال عن أنواع الرق الحديث وعبوديته أنها تشمل “العبودية التقليدية والعمل القسري في المنازل والاستغلال والزواج القسري للفتيات والاستغلال الجنسي، والتجنيد القسري للأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلحة، وتتضمن العبودية المعاصرة في السودان بحسب التقرير استغلال النساء والأطفال في الأعمال المنزلية واستغلالهن في تجارة الجنس وتزويج الأطفال قسراً.

التعذيب مقابل المال
أما الدكتور النور الرحيمة، فله رأي مخالف لما ذهب إليه السماني حيث قال إن الحديث والجدل حول الرق بمفهومه التقليدي في السودان لم يتوقف رغم عدم وجود هذه الظاهرة بشكل واضح، وحمل المستعمر مسؤولية غرس شعور الرق والعبودية في الذهنية الجنوبية، نسبة لصراع الدواخل الذي فشلت الحكومات المتعاقبة في معالجته نسبة لأنه مرابط بالوجدان، منوهًا إلى أن الرق بمفهومه العام عند كثيرين موجود في هذا البلد، وقد استبدلت آليات ممارسته فقط بأساليب أخرى جديدة، فرسالتي إلى الشعب السوداني أولاً وخصوصاً بعض القبائل التي لا أريد أن أذكرها على وجه الخصوص وإلى الحكومة التي تتعامى عن الظاهرة أن الرق ما زال طافحاً، في تصرفات الكثيرين وبخاصة النخبة المتعلمة .

للتاريخ حديث
ويواصل الدكتور النور الرحيمة أستاذ العلوم الإنسانية قائلاً إنه وفي غمرة سعي السودانيين لنيل استقلالهم من بريطانيا، ارتفعت أصوات الأحرار إبان وبعد الحربين العظميين في العالم كله بالقضاء على منظومة الرق، كتب زعماء الطوائف الدينية الثلاثة في السودان: علي الميرغني والشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي عريضة للحاكم العام يطالبون فيها بريطانيا بعدولها عن فكرة إعطاء الأرقاء من بني جلدتهم حقهم في أن يكونوا بشراً أحراراً.

مؤلفات
وأشار الرحيمة إلى أن سكرتير الحزب الشيوعي السابق الراحل محمد إبراهيم نقد كتب كتاباً عن هذا الموضوع بعنوان “علاقات الرق في المجتمع السوداني” صدرت طبعته الأولى في العام 1995م وكثير من الكتاب الذين أفردوا مساحات عن الملف الكبير الذي يطلق عليه الرق الحديث، أثاروا جدلاً بين مؤيد لما جاء فيه، ومشكك ورافض للظاهرة من الأساس، ووفقاً لإحصاءات حكومية حديثة، فإن الأطفال العاملين في السوق تقدر نسبتهم بـ 5٪ وذلك بسبب الضغوط الاقتصادية، وهي النسبة المعتمدة وفق آخر إحصائية تمت في العام 2013م، وورد في إحصاءات المجلس القومي لرعاية الطفولة بالخطة الخمسية الثانية في 2012، أن نسبة الأطفال العاملين للفئة العمرية (10-14) سنة ، وقال إن هؤلاء يُمارس عليهم الرق الحديث 22,6% وصلت نسبة.

مواجهة الرق
وختم الرحيمة بالإشارة إلى أن هناك طبقات من المجتمع السوداني وعبر آليات طوعية تمارس عملاً عظيماً ولولاها لانهار المجتمع ومارست الأغلبية الرق للخروج من الضائقة الاقتصادية، وهذه الجهات تبذل جهودا رسمية وأهلية في السودان للحد من هذه الظاهرة ولا يمضي شهر حتى تقام ورشة عمل أو مؤتمر لتسليط الضوء عليها وبضغط المنظمات الأهلية حدث تطور في القوانين. ولفت إلى أن السودان صادق على اتفاقيتي العمل الخاصة بالسن الأدنى للاستخدام لعام 1973 واتفاقية العمل رقم 182 لسنة 1990م المتعلقة بالحد الأدنى، وأردف: لكن رغم ذلك تنتشر عمالة الأطفال لأسباب متعلقة بثقافة وتقاليد المجتمع الذي يعتبر العمل للطفل تدريباً له وتدرجاً في تحمل المسؤولية، حيث يعمل تلاميذ المدارس في العطلة، كما تجبر الظروف الاقتصادية العديد من الأسر لجعل أبنائها يعملون.

تزايد زواج الأطفال
أما الدكتور خالد الرفاعي أستاذ القانون الدولي العام والخبير في مجال حقوق الأنسان، فيذهب خلاف ما ذهب إليه السابقون قائلاً: إن السـودان والدول العربية والإسلامية عموماً تختلف عن الدول الأوروبيـــة، وبالنســـبة لعـــمالة الأطفال مثلاً فإن معظم العـمالة الموجودة في السودان لا تصل إلى مرحلة الظاهـــرة، كما أن تعريف الطفل في الشريعـــة الإسلامــية يخـــتلف عن القـــانون، وربما يكون من بلغ الرابعة عشرة من عمره ليس طفلاً من وجهـــة نظر الإسلام.

واشار إلى أن موضوع عمالة الأطفال في السودان لا يشكل هاجساً بالنظر إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها الناس هنا، ويرى أن الموضوع يجب النظر إليه من خلال هذا الإطار، وأضاف في القول بالنسبة لزواج الأطفال، فقد كشفت دراسة عن ارتفاع ملحوظ في نسب هذه الظاهرة في السودان، مما تسبب في فقدان ما بين 60٪ و70٪ من البنات فرصهن في التعليم في عدد من ولايات السودان، وأن مفهوم زواج البنت مبكرًا من أجل سترها هو الطاغي لدى معظم المجتمعات التي شملتها الدراسة، والدراسة التي أجراها المجلس القومي لرعاية الطفولة في السودان ، كانت في الفترة من يوليو 2012 إلى يناير 2013، وهي تمثل جزءاً من دراسة عالمية تمولها اليونيسيف بهدف فهم الأعراف الاجتماعية حول زواج الأطفال.

دراسات
وأوضحت الدراسة أن زواج الأطفال في السودان شهد زيادة في الفترة من 2006 إلى 2010 مما حد من فرص التعلم للبنات بنسبة 58٪ في جنوب دارفور و61٪ في ولاية الخرطوم و71٪ في شرق دارفور وشملت الدراسة ست ولايات في السودان هي الخرطوم، والقضارف، وجنوب وغرب وشرق ووسط دارفور.

ممارسات إجرامية
يقول عبد القادر أبو قرون رئيس لجنة تزكية المجتمع في إفادته لـ (الصيحة) إن الرق ولى عهده بعهد الإسلام الذي محا الجاهلية وممارساتها، وأضاف: ما يحدث الآن لا نستطيع تسميته رقاً بل هو إجرام وتعدٍّ على البشر ليس إلا، لأن الرق يكون في الأسرى بين المسلمين والكفار والآن لا توجد معارك بين المسلمين والكفار في السودان بل ما يحدث من قبل بعض العصابات يعتبر صراعاً عادياً، وحتى الذين يمارسون الاتجار بالبشر نسميهم عصابات تمارس الإجرام ولكن لا يمكن أن أسميه رقاً بكل الأحوال.

تحقيق: محمد داؤد
صحيفة الصيحة