رأي ومقالات

أدستور آخَر!! معركة في غير معترك


من أراد أن يدرك تماماً ماذا تعني عبارة “معركة في غير معترك” فلينظر في هذه الجلبة المثارة بشأن ما يسمى ب”التعديلات الدستور”، ومن فرط الحماسة والضوضاء التي تحيط بهذه المعركة الانصرافية بإمتياز يكاد المرء يظن حقاً أن مشكلة السودان الوحيدة وسبب مأزقه التاريخي هو ذلك الولع بالجدال البيزنطي حول الدستور، كان مؤقتاً أو دائماً، وقد أثبتت الممارسة دائماً في هذه البلاد على مدار أكثر من ستين عاماً من سنّي الإستقلال، أنه لا يعني في الواقع سوى محض وريقات محشوّة بالشعارات الرنّانة والوعود البرّاقة والتعهدّات الهشة لا تكاد تصمد عند أول اختبار جدي لاستحقاقات سيادة حكم القانون، أو تتحدى الرغبة المحمومة للتطلع إلى السلطة انقلاباً على الدستور وانتهاكاً لشرعيته، في سلسلة انقلابات كانت للمفارقة جميعها من تدبير أحزاب سياسية.

وكما يتم تمزيق الدساتير، بغض النظر عن مسمياتها، تحت وقع الأحذية الثقيلة، فقد ظلت تستخدم في العهود المختلفة أداة طيعة للمناوراة وتوظيفها لتعزيز سيطرة الطبقة الحاكمة على السلطة والثروة، تعيد تفصيلها وحيكاتها كلما اقتضى الأمر لتناسب المقاس اللازم لتكريس الأوضاع الراهنة، وليس لوضع قواعد متينة يقتضيها معنى وجود دستور يؤسس لحكم القانون، وتحقيق إرادة الأمة، وتأكيد أن الحق فوق القوة.

وما يزيد الأمور ضغثاً على إبالة محاولة التوظيف السياسي للإسلام لخدمة أجندة ذاتية لأطراف تزعم الانتصار للدين، وما هو كذلك في تبعيض معيب للإيمان، ولو كان الأمر كذلك لما ظلت المؤسسة الرسمية التي تحتكر الفتاوى صامتة وهي ترى أموراً أكثر خطراً تمر مرور الكرام تحت سمعها وبصرها، أليس غريباً أن نشهد كل هذه الحماسة الطاغية في مسألة مهما كانت أهميتها فهي ليست أعظم شأناَ من حرمة الدماء التي ظلت تسفك في هذه البلاد لسنوات طوال على نحو غير مسبوق، بسبب صراع آثم على السلطة لا أكثر، فما رأى الناس مثل هذه الحملات الغاضبة تقف تصدع بالحق من أجل إيقاف هذه الدماء التي تسيل بلا حساب. ومن عجب أن فقدت البلاد معلّمة جليلة الأسبوع الماضي في حادث مرّوع لم يكن سوى نتيجة لسياسات القصور المشيّدة والآبار المعطّلة لاختلال أولويات السلطة، فلم يقم أحدهم ليذكر بمقالة أكير المؤمنين “لو عثرت بغلة في العراق” فما بالك بروح بشر وأكرم بها من نفس.

ولنعد إلى واقع الراهن السياسي، تثير هذه الضجة المفتعلة حول التعديلات الدستورية، بافتراض أن لها أهمية حقاً ، تساؤلاً مهماً حول جدوى عملية “الحوار الوطني”، ألم يُقال أن هذا الحوار جمع فأوعى أهل السودان وأنهم تواثقوا باتفاق تام على وثيقة وطنية تمثل مرتكزات الدستور الجديد، فمن أين الحق لأي فئة من الناس مهما كان شأنها أن تملك حق النقض، ألم يُقال أن حوار مجتمعياً قد جرى وشارك فيها الجميع، فما هو الحق الخاص للذين يعترضون اليوم أو أين كانوا؟، لا أقول ذلك من موقف مؤيد أو معارض لأهمية المسائل المطروحة، إلا أنني أسوق ذلك للتدليل على أن الحوار لم يكن كما ظللنا نعيد التأكيد عليه مقالة تلو الأخرى منذ بدء هذه العملية بأنها ليست أكثر من مناورة لإعادة إنتاج الأزمة وتكريس الأوضاع الراهنة بعملية تجميل أخرى.

ولنلاحظ أن هذا الجدال المحموم يجري بين فئة تمثل طيفاً واحداً من السودانيين، وهو ما يشير إلى أنه نتاج صراع داخلي على السلطة والنفوذ في البيت الواحد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر ما يجري بغض النظر عن طبيعته هو شأن السودانيين كلهم، أو تمثّل أطيافهم كافة، وهو أمر من شأنه أن يزيد من تعميق الأزمة وهي تقصي الآخرين وتحتكر لنفسها تحديد الأجندة الوطنية الملّحة.

لقد انتهى الحوار الوطني بعد ثلاث سنوات من المنارورات إلى تكريس واقع الاستقطاب الحاد بين الحكم والمعارضة، وبات أقرب إلى “منولوج” يحاول معالجة التشرذم داخل بيت “الإسلاميين” المنقسم على نفسه، وقد تحول إلى أداة للمزيد من التشرذم، حتى بدت “الحلقة المفرغة” في السياسة السودانية تدور من جديد، فحتى بافتراض أن “الحوار” تجاوز المعارضين الرافضين للإلحاق، فإن الأزمة لا تزال شاخصة من خلال أهم توصيتين تصدرتا نتائجه، أولاهما الدعوة إلى كتابة دستور جديد مع كل ما أنتجته من جدال بيزنطي، والثانية الدعوة لتشكيل حكومة محاصصة من المشاركين فيه تحت مسمى حكومة الوفاق، فهل يحمل أي من الأمرين شيئاً جديداً؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون إعادة الإنتاج للمأزق الراهن.

فقد ورد ضمن توصيات لجنة قضايا الحكم “الاتفاق إجماعاً علي دستور جديد يؤكد علي “استقلال القضاء، وسيادة حكم القانون، والفصل بين السلطات والحكم الراشد”، وحسب تصريح لأحد الشخصيات التي عكفت على إصدارها “إذا تم تنفيذ مخرجات الحوار الوطني فان السودان موعود بالانتقال الي مرحلة جديدة من تاريخه”.

حسناً بين هاتين الجملتين “دستور جديد”، “وإذا تم تنفيذه”، تكمن كل علل الأزمة الوطنية السودانية التي وصلت نهاية شوطها لتعلن بعد مرور ستة عقود على الاستقلال “موت” النظام السياسي السوداني القديم بكل تمثلاته على مدار العقود الست الماضية، بعدما ثبت بلا جدال أن جراب القوى السياسية على إمتداد طيفها لم يعد فيه جديد بعدما نفدت كل حيلها، ولم يعد بوسع قوى مأزومة في نفسها ومتسببة في الأزمة الوطنية أن تقدم حلاً، فمن يعجز عن معالجة إخفاقاته الذاتية لا يملك تأهيلاً لحل أزمات الوطن المنكوب.

لم تكن مشكلة السودان في أي وقت وفي أي عهد، حزبياً كان أو عسكرياً، عدم وجود دستور “رنّان” بغض النظر عن طبيعته، بل كان الدستور في حد، ذاته كوثيقة مرجعية يفترض الالتزام الصادق بها طوعاً، لا قيمة له عند أي من القوى السياسية حاكمة كانت أو معارضة، يستوي في ذلك إن كانت تلك الوثيقة القانونية دستوراً للدولة أو لحزب، فقد ثبت من واقع التجربة التاريخية والمعاشة أن هذه العهود والمواثيق الدستورية ظلت دائماً ضحية ساسة لا يتوانون عن ركلها في أول سانحة إذا كانت تعترض سبيل طموحاتهم السلطوية، سواء الخلود في زعامة الحزب أو على سدة الحكم، فتحت بروق شح النفس، ليس مصارع الرجال فحسب، بل كذلك مصارع القيم المعنوية والقانونية لعهد الدستور.

فهل هي مصادفة أن الانقلابات العسكرية الثلاث كانت من تدبير أحزاب سياسية، والتبريرات التي تُساق لشرعنتها عادة لا قيمة لها لأن النتيجة واحدة في نهاية الأمر، فهو ليس مجرد انتهاك لدستور سارٍ بل دلالة على تجذّر الثقافة السياسية “المستهينة” بحرمة الدستور، تشاركهم المؤسسة النظامية التي تتخلى هي الاخرى عن واجب حمايته، ولذلك أصبح الدستور الوحيد الدائم في البلاد هو سيادة عدم احترام الدستور.

القفز إلى الإعلان عن الحاجة لدستور آخر تكشف عن العقلية المأزومة المنتجة للمأزق الراهن، إعادة تدوير الأزمة، لم تكن هناك حاجة لإهدار وقت في الحوار حول الحاجة لدستور جديد، بل كان المطلوب الإجابة على السؤال المحوري لماذا لا يحترم الساسة الدستور، وكيف يجب أن تضمن إلزاميته.

بين يدينا جميعاً تجربة اتفاقية السلام التي أنتجت دستوراً، للمفارقة حتى المعارضة نفسها لا ترى بأساً فيه، وحُق لها ذلك فقد احتشدت في بنوده، بفضل معادلة التسوية وتوازنات القوى حينها، كل ضمانات “استقلال القضاء، وسيادة حكم القانون، والفصل بين السلطات والحكم الراشد” التي أجرت الإشارة إليها أعلاه، بل تضمن “وثيقة حقوق” شبه مثالية، ولكن كل ذلك تحول إلى حبر على ورق ببساطة لأن الحق ليس فوق القوة، كما أن الأمة ليست فوق الحكومة، ولأن السلطة لا تخضع للدستور إلا عندما يناسب هواها، بل تطوعه ليخضع لأجندتها. ولذلك فإن آخِر ما يحتاجه السودان المأزوم دستور آخَر. فما جدوى دستور توضع عليه لافتة دائم، وليس له من ذلك إلا صفة الإسم.

والأمر يتعلق بقضية المحاصصة، يصر الساسة السودانيون على الإدعاء بأن المشكلة ليست في من يحكم البلاد، بل في كيف تُحكم البلاد، وهو زعم سهل يسقط عند أول اختبار تلوح فيها كراسي السلطة، فقد قيل أن الهدف من الحوار الوطني هو الاتفاق على وثيقة وطنية تحدد معالم مستقبل البلاد، ولكن سرعان ما سقط هذا الشعار العريض، كما يتبين من الجرأة التي طالبت فيها لجنة الحكم في “مؤتمر الحوار الوطني”، على نحو تُحسد عليه، بالتوصية لتشكيل حكومة “وفاق وطني”، ومضاعفة عدد نواب المجالس التشريعية الاتحادية والولائية، لاستيعاب من وصفتهم ب”القوى المشاركة في الحوار”، حيث تكفي وحدها لإثبات بوار فكرة المهمة التي نهضوا لها على مدار الأشهر الماضية، ولتؤكّد أن الحالة البروبونية لا تزال تتّلبس محترفي العمل في سوق السياسة، لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً.

هل يُعقل أن ينتهي “الحوار الوطني” بعد كل الخُطب التي دبّجت حوله، والآمال التي طالما تمناّها الكثيرون في أن يسفر عنها، على كل العلّات والجدل الذي لازم مسيرته، ببوادر مخرج آمن من الأزمة الوطنية وهبوط سلس في مدرّج تسوية وطنية سلمية شاملة، ينتهي إلى مطلب يكشف أن المنخرطين في هذه العملية لم يكونوا منشغلين بأجندة كبيرة بدليل أنهم لم ينسوا بحرص بالغ على مكافأة أنفسهم بمكاسب شخصية تؤمن لهما نصيباً من حصة من السلطة والثروة، إلى درجة التقدم باقتراح يضمن لكل غشي قاعة الصداقة أن يجد له نصيباً في هذه الكيكة.

صحيح لا يمكن بالطبع اختزال الكثير من التوصيات التي خرجت بها لجان الحوار المختلفة في هذه التوصية المطالبة بلا مواربة بحجز حصص في قسمة السلطة وامتيازاتها لمكافأة المنخرطين في لعبة “الحوار”، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه التوصية غير المحتشمة تهزم بالضربة القاضية فكرة أن الغرض من هذه العملية الحوارية هو البحث في تشخيص جذور مسبّبات الأزمة الوطنية المتطاولة، وسبل علاجها بترتيبات وتدابير ناجعة مستدامة، فإذا بهذه التوصية الفاضحة تكشف أن الأجندة الحقيقية في نهاية الأمر لم تكن تعدو البحث عن وظائف للمتحاورين، وليس اجتراح حلول لمشكلة الوطن المستعصية.

والحق أن هذه الفعلة ليست بدعاً في عالم السياسة السودانية، أو للدقة يجب أن نسميها عالم “اللا- سياسة” من فرط إعادة إنتاجها لأزمات الباب الدوار، فكل من في الساحة يزعم أن مطلبه هو البحث عن قضية كيف يحكم السودان، وليس من يحكم السودان، ولكن ما أن تأتي لحظة الحقيقة حتى تتبدد هذه الشعارات البرّاقة، ويتبّين أن مسألة من يحكم هي أهم كثير بما لا يُقاس بقضية كيف يحكم.

وهذا في الواقع ما درجت عليه كل محاولات الحوار السودانية، والمفاوضات التي لا يحصي لها أحد عدداً، فمع كل كل المزاعم الكبيرة ينتهي الأمر إلى مجرد محاصصة في صيغة ما يسمى باقتسام السلطة والثروة، التي ما عرف السودان لعنة حلّت عليه منذ أن أصبحت مبلغ علم ومبتغى محترفي سوق السياسة السودانية.

واللوم لا يقع فحسب على دعاة الحصول على مكافأة المشاركة في الحوار نصيباً معلوماً في كيكية السلطة، وإن كان الأمل يراود البعض أن يثبت الحوار هذه المرة أنه شئ جاد للغاية مختلف مما عهده الناس يتناسب وخطورة المصير الي يُساق له السودان. بل يقع اللوم أكثر على المؤتمر الوطني صاحب الدعوة للحوار الذي خرج متحدثوه فزعاً من فقدان مناصبهم ليعلنوا ألا مساس ب “المؤسسات الحالية المنتخبة”، حسناً ما دامت تتمتع حقاً بهذه الصفة والمشروعية والنجاعة في مخاطبة أزمات البلد، فما كان الداعي للحوار أصلاً؟.

بقلم: خالد التيجاني النور
من صحيفة إيلاف


تعليق واحد