سياسية

“البشير”.. خيار التنحي بين الحزب ورغبته الذاتية


مرة أخرى يعلن الرئيس “عمر البشير” عن رغبته الشخصية في التنحي عن السلطة بحلول عام 2020م حينما تنتهي ولايته الحالية وتبدأ ولاية جديدة.. وقد عبر الرئيس من قبل عن ذات الموقف قبل انتخابات 2015م، ولكن تحت وطأة الضغوط الكثيفة من قبل قيادات حزب المؤتمر الوطني التي تنافست في إظهار الولاء للرئيس “البشير” استجاب للضغوط، وصوّت مجلس شورى الحزب على ترشيحه ومعه القطبان المغادران للمشهد التنفيذي “علي عثمان” ود.”نافع علي نافع”.. وبينما كان بعض المراقبين الحالمين بالتغيير يتوقع تنافساً داخل المؤتمر العام للحزب الحاكم تنافس “علي عثمان” ونافع علي نافع” على إظهار الولاء للرئيس وتسابقا على ترشيحه في المؤتمر العام، الذي طغت عليه العاطفة الجياشة والهتافات التي خنقت جنبات معرض الخرطوم الدولي، وفاز “البشير” بثقة الجمعية العمومية للحزب، ليخوض الانتخابات الأخيرة دون منافسين حقيقيين خلافاً للانتخابات التي جرت 2010م، حينما دخل “ياسر عرمان” و”حاتم السر” و”عبد الله دينق نيال” حلبة النزال وجعلوا للانتخابات طعماً ورائحة رغم أن جميعهم مرشحون غير منافسين لـ”البشير”، لكن أن تجد منافساً ولو ضعيفاً فهو أفضل من الانتخابات (السكوتية) التي لا يجد المرشح من ينافسه أو حتى يدفع الناخبين للذهاب لصناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم باعتبار أن النتيجة محسومة سلفاً حتى قبل إجراء الانتخابات.
إذا كان الرئيس في السنوات الماضية قد عبر عن رغبته في التنحي من خلال أحاديث صحافية لوسائل الإعلام أجنبية غالباً، حيث ابتعد الرئيس أو أُبعد قصداً عن وسائل الإعلام الوطنية، وأصبحت رحلاته الخارجية وحتى الداخلية لا تحظى بما تستحقه من التغطية الإعلامية، فإنه تحدث هذه المرة لنخبة من قادة الإعلام الوطني ورؤساء التحرير في رحلته الأخيرة لدولة الإمارات عن رغبته في التنحي عن السلطة.. وحينما يجهر الرئيس بهذا الموقف لصحيفة خارجية مثل “الشرق الأوسط” و”الأهرام الدولية” عام 2015م، فإن الرسالة غالباً موجهة إلى الخارج ليلتقطها العالم من حولنا، ولكن حينما تصوب الرسالة إلى الصحافة الوطنية التي كانت برفقة الرئيس في رحلة دولة الإمارات العربية المتحدة فهي موجهة للشعب السوداني وللحزب الحاكم والأحزاب الحليفة والأحزاب المعارضة.. وليس بالضرورة أن تنشر الصحافة كل ما ورد على لسان الرئيس للصحافيين الذين كانوا برفقته، فهؤلاء الصحافيون هم نجوم مجتمع يشاركون الناس العاديين الأفراح والأتراح ومن خلالها يكشفون ما لم تنشره صحفهم من حديث الرئيس، وهناك مساحات للرأي المكتوب واللقاءات التلفزيونية والإذاعية من خلالها تبلغ رسالة الرئيس مقاصدها وأهدافها، خاصة وأن الجدل قد تطاول إثر مواقف أعلنها د. “أمين حسن عمر” من مسألة إعادة ترشيح الرئيس، حيث تحدث د.”أمين” كمثقف وكاتب مستنير ومحلل سياسي، ولم يتحدث كناشط سياسي ملتزم بالخط السياسي لحزب المؤتمر الوطني.. وإذا كانت نصوص لائحة المؤتمر الوطني تحدد عدد الدورات التي يمضيها القيادي في المنصب التنفيذي (دورتان) لا تزيدان، فإن الرئيس بحلول انتخابات 2020م تنقضي على رئاسة دورتان وإحدى وعشرين سنة أخرى قضاها في الحكم ما بين الشرعية الثورية وفترة انتقالية 2005م إلى 2010م، وقد حصل بعض الوزراء والمسؤولين على استثناء من ذلك الشرط لاعتبارات خاصة بالخبرة وضرورات تواصل التجارب، مثل الفريق “بكري حسن صالح” والفريق “عبد الرحيم محمد حسين” ومن المدنيين د. “عوض أحمد الجاز” ود.”فيصل حسن إبراهيم” والبروفيسور “إبراهيم أحمد عمر”.
{ الرهق والتعب
من بين الأسباب التي ذكرها الرئيس في حديثه الأخير للصحافيين التي تجعله عازماً على مغادرة المنصب، ما أصابه من رهق في جسده جراء تطاول سنوات الحكم، حتى قال إنه في الفترة الأخيرة صار يؤجل قراءة بعض التقارير إلى الصباح الباكر بدلاً عن مطالعتها في منتصف الليل، وكثير من تلك التقارير تصيب القارئ والمطلع عليها بالكدر والهمّ والغمّ.. ولم يخف الرئيس آثار الحكم وتطاول السنين، خاصة وقد تعرض خلال سنوات حكمه لمشكلات عصية، من حروب داخلية فقدت فيها البلاد الكثير من مواردها البشرية واختلف السودانيون في عدد الضحايا في دارفور ما بين معارضة تزعم أن عدد القتلى في ذلك النزاع تجاوز المليون نسمة وما بين (10) آلاف ضحية، وهذا العدد يفوق عدد القتلى في حرب فلسطين وإسرائيل أو العرب وإسرائيل منذ 1948م، وحتى اتفاق “أوسلو” الذي من بعده وضع العرب البندقية وأقبلت على مصافحة أعداء الأمس من اليهود.. كما أن الرئيس تم استهدافه شخصياً بسبب موقفه الأخلاقي من “أحمد هارون” حاكم شمال كردفان الحالي حينما اتُهم بجرائم في حرب دارفور، فوقف الرئيس مناهضاً ورافضاً تسليم أحد موظفي حكومته، الشيء الذي جعله يكسب شعبية كبيرة في الداخل ويعدّه الكثير من أبناء الشعب السوداني قد ضحى أخلاقياً بسمعته وبنفسه فداء لشخص لا تربطه به وشائج رحم ولا قربى، إلا عصبة التنظيم وزمالة السياسة.. وبسبب ذلك الموقف تمت المطالبة بمثول الرئيس نفسه أمام المحكمة الجنائية ولم تزعزع تلك العواصف “البشير” وتثير فزعه.. ثبت على المبدأ الذي أعلنه منذ أول يوم حتى انقشعت سحابة المحكمة الجنائية، لكن سفينة الحكم التي يقودها تعرضت لأعاصير وأتربة تحجب الرؤية في لجة البحر من تردٍ للأوضاع الاقتصادية، وتجدد الحرب في المنطقتين، وتصدع حزب المؤتمر الوطني الذي يقوده بانقسام كبير في أعقاب نشوب أزمة التعديلات الدستورية في البرلمان، وتخلص “البشير” من المعلم “الترابي”، ثم عصفت بما تبقى من الحزب تحت قيادته الكثير من المنحنيات مثل خروج الإصلاحيين الشباب “مكي بلايل”- رحمة الله عليه- وصهر الرئيس “أمين بناني”.. ثم انشقاق “غازي صلاح الدين” و”حسن رزق”.. ونشوب حالة جفاء وتباعد في المسافات بينه وخاله المهندس “الطيب مصطفى” رئيس منبر السلام الذي غشيته الرغبة في منافسة ابن أخته في مقعد الرئاسة.
تلك العواصف والرعود والمشكلات خلال سنوات الحكم، أصابت الرئيس بالرهق والتعب الشديدين، بسبب مركزة السلطات في يده وحده.. لكن التدابير الحالية قد تجعل من الحكم في الفترة القادمة سهلاً وميسوراً للرئيس بتنازله عن كثير من السلطات للنائب الأول “بكري حسن صالح”، وتنازل عن صلاحيات أخرى لنائبه “حسبو محمد عبد الرحمن”.. وبعد إجازة تعيين رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الجديدة فإن الرئيس تبعاً لذلك سينال لأول مرة قسطاً من الراحة عن متابعة تفاصيل الحكم، ليبقى في يده الشأن الأمني والعسكري وهو ملف أكثر تعقيداً من ملفات الخدمة المدنية.. وبعد تعيين الفريق “عوض ابن عوض” في منصب وزير الدفاع وهو شخصية عسكرية يثق فيها الرئيس وله كسب كبير في الجيش ويحظى بحب العسكريين، وفي عهده بدأ الجيش يستعيد الكثير من قوته في قهر المتمردين بالمنطقتين، فإن وجوده في الدفاع، ووجود الفريق “محمد عطا المولى” في جهاز الأمن والمخابرات وترفيع الفريق “هاشم عثمان” ليصبح وزيراً للداخلية في الحكومة القادمة، وسيكون أول شرطي في عهد الإنقاذ يتقلد منصب وزير الداخلية.. وجود هذه المجموعة، وتعيين مستشار للرئيس لشؤون الأمن والدفاع الفريق “عبد الرحيم محمد حسين”، من شأنه تخفيف الأعباء أكثر عن الرئيس ومن ثم فتح الباب واسعاً لإعادة ترشيحه في انتخابات 2020م، خاصة إذا ما نجح في العام الجاري أو القادم في إيقاف الحرب بالمنطقتين من خلال التفاوض مع المتمردين واستغلال التحسن في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية لتساهم في السلام القادم.
{ خلافة “البشير” وتعقيدات المشهد
سيواجه المؤتمر الوطني تعقيدات شديدة في اختيار خليفة الرئيس “البشير” إن فشل الحزب في إقناع الرئيس بأن وجوده في الحكم ضرورة تقضيها مصالح السودان والمنطقة العربية والأفريقية، وقد أصبح الرئيس “البشير” اليوم بمثابة الرئيس العربي الأكثر قبولاً لقيادة مبادرات رأب الصدع والمصالحات بين الدول.. وله خبرات في المؤتمرات الإقليمية والدولية، ومنحته التطورات الأخيرة دفعة كبيرة جداً لاستعادة السودان لموقعه العربي والأفريقي.. وذلك بفضل السياسة الحكيمة التي انتهجها الرئيس باختياره لأفضل العناصر الشابة لتعبر عنه مثل الفريق “طه عثمان”، و”طارق حمزة”، الذي يتوقع أن ينال في القريب العاجل منصب وزير دولة بالخارجية، و”طارق سر الختم” الذي يستطيع سد ثغرة وزير الاستثمار الغائب.. بهذا فإن المؤتمر الوطني قد يجد نفسه أمام خيار إعادة ترشيح لدورة قادمة، خاصة وأن بقية قيادات الحزب غير متفق عليها.. وإذا ما رفض “البشير” وتمسك بموقفه، فإن العسكريين هم الأكثر تأهيلاً وقبولاً لخلافته حتى لا تعود بلادنا مرة أخرى لعصر التصدع والانقلابات.
وبطبيعة الحال فإن أقرب القيادات إلى “البشير” من العسكريين الفريق “بكري حسن صالح” النائب الأول الحالي للرئيس، لكنه من حيث العمر لا يستطيع تقديم عطاء أكثر مما قدمه “البشير”، وليس بمقدوره الحكم أكثر من دورة واحدة، أي خمس سنوات فقط.. بينما المصلحة تقتضي استقرار الحكم على الأقل لعشر سنوات بعد 2020م، لذلك يفتح ذهاب الرئيس الباب واسعاً لتنافس بين القيادات.. من المدنيين، النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” والمهندس “إبراهيم محمود حامد” من الشخصيات التي يمكن ترشيحها لخلافة “البشير”، وهناك البروفيسور “إبراهيم غندور” الذي تم طرح ترشيحه بهدوء وسط قطاعات محدودة منذ الدورة الماضية وخلال الفترة الأخيرة نشطت بعض القيادات في الحديث عن خلافة “غندور” لـ”البشير”، إلا أن فرص العسكريين هي الأوسع خاصة الإسلاميين منهم.. الفريق “عوض ابن عوف”، والفريق “يحيى محمد خير”، والفريق “علي سالم”، واللواء “محمد مصطفى” وآخرون ممن يثق فيهم الرئيس.
لكن تبقى قضية خلافة “البشير” من القضايا التي قد تشغل الحكومة والقيادات عن واجباتها الآنية، وتقع أبواب صراعات تعصف الآن باستقرار البلاد.. أما الحديث عن العقبات الدستورية واللائحية، فالدستور من صنع “البشير” و”بدرية سليمان” قادرة على تطويع النصوص وتعديل الدستور بما يسمح للرئيس بالترشح لدورة قادمة.
{ معركة النكاح
في غير معترك، نشبت (خناقة) أو صراعات بين الإسلاميين في المؤتمرين الوطني والشعبي عن التعديلات التي أودعت لدى البرلمان كاستحقاق سياسي لمرحلة ما بعد الحوار الوطني، لكن المعركة أو الصراع اتخذ منحى فقهياً، وتم تجييش القيادات السلفية المعادية للتحول الديمقراطي والتيارات الإسلامية التي ترتعب من كل حديث عن الديمقراطية والسلام والمفاوضات والتسويات الخارجية وتظن، وبعض الظن شيء آخر، أن كل خطوة من هذه وتلك هي خصم على الدين والأخلاق والقيم والفضيلة.
ومعركة النكاح الدائرة الآن حول هل بالضرورة أن يحضر الولي أم من حق الفتاة أن تباشر عقد زواجها بنفسها؟ وحشد المؤيدون من كل فئة، وسُودت الصفحات بالآراء، كل فئة تأتي بأسانيدها من صحيح الحديث واجتهادات العلماء.. هذه المعركة، هي معركة في غير معترك وتحريف وانحراف بمسار مقاصد التعديلات الدستورية وتجديف خارج البحر، وتعيد للأذهان مثل هذه المعارك ما كان يثور في الساحة من جدل في الإذاعة والتلفزيون حينما فرض “الطيب مصطفى” حينذاك تغطية خصلات شعر الممثلات باعتبار تلفزيون السودان مطهراً من الدنس والرجس.. وذهب المغالون في الدين من المفسرين لنصوص الغناء السوداني القديم وفق الأهواء بمنع ترديد أغنية هي الأوسع انتشاراً في الساحة يرددها الشباب في تجمعاتهم وخلواتهم رغم أنها من الأغاني القديمة التي كتبها الشاعر “محمد بشير عتيق” (الأمان)
من يوم نشأتِ
تقديسك شعاري
وحب نشوتي
كما منعت أغنية (البعبدها) لـ”كمال ترباس” بزعم أن العبادة لله وحده، وهؤلاء لا يعرفون المجاز ولا يفرقون بين تقديس الحبيب وتقديس الواحد الاحد، ولو كان “الطيب مصطفى” حينذاك قد قرأ إشارات الخمر العديدة في ديوان “أبو الطيب المتنبي” وشاعر العرب “أبو نواس” لأمر بإحراق كتبه كما يتم حرق المخدرات بواسطة الشرطة.. والمعركة بين دعاة النكاح بولي وبدون ولي قد غطت على المعركة الحقيقية حول التعديلات الدستورية، خاصة تلك التي يعدّها الشعبي بمثابة قاعدة صلبة لبناء نظام ديمقراطي وتعددي، وبغض النظر عن المؤثرات والأسباب التي جعلت المؤتمر الشعبي ممسكاً بقضية الحريات أكثر من بقية الأحزاب.. وقد عدّ البعض ما تعرض له قادة الحزب من سجون ومعتقلات وحبس دون سند قانوني وتجديد الاعتقال من سنة لأخرى جعل الحزب مؤمناً بأن الحرية قيمة لا تنهض أمة من الأمم إلا إذا كانت حرة، وأن الشعب المقهور منزوع الحقوق هو شعب غير جدير بتحقيق النصر في معارك الأمة المصيرية.. لكن الشعبي جعل من نفسه وصياً على الحريات، بينما بقية القوى السياسية التي شاركت في الحوار انصرفت تبحث لها عن مقاعد سلطة، بل إن “عبود جابر” المسؤول عن الأحزاب طالب بمنح جهاز الأمن صلاحيات واسعة، وعدّ سلطة جهاز الأمن الحالية منقوصة ينبغي تعزيزها.. وعلى النقيض من ذلك يسعى الشعبي لتجريد جهاز الأمن من سلطة الاعتقال والحبس، وينزع منه شوكة السلطة ويحيله إلى جهاز يجمع المعلومات ليصبح مثل وحدة دراسات الرأي العام.. وفي ذلك أيضاً تطرف غير مطلوب ومثالية لا مكان لها في بلد لا يزال يصطرع فيه حاملو السلاح من أجل السلطة.. وفي التعديلات الدستورية بنود مهمة تؤسس لحرية الفرد وحقه في التعبير عن الرأي والتنظيم وكرامة الإنسان وصون حق التعبير، وإيقاف مصادرة الصحف وتوقيف السياسيين إلا بالقانون، وإرساء قواعد دولة القانون وحقوق الإنسان، وقد انصرف الجميع عن تلك القيم، وتصاعدت المعارك الهوائية عن النكاح في بلد يتزوج فيها الناس بطريقتهم بعيداً عن القانون والشريعة.. وبعض من أهل السودان يدفع مهر العروس قطعان من الخنزير البري، كما في بعض مناطق النيل الأزرق، وهؤلاء لا يعنيهم دستور يتحدث عن حق المرأة في تزويج نفسها، ولا يزال في بعض مناطق السودان يقوم الشاب بـ(قنجرة) الفتاة أي أخذها من أسرتها والهروب بها لأيام وليالٍ وحينما يعود يتم زواجه منها.. ولا يأبه السودانيون كثيراً لزواج القسيمة إلا أهل الحضر، لكن في الأرياف حتى قسيمة الزواج لا حاجة للإنسان لاقتنائها إلا إذا كانت تثبت له حقوقاً في السلع التموينية التي كانت توزع بالبطاقة.. والمؤتمر الشعبي حزب سياسي وليس جماعة إصلاحية اجتماعية.. لماذا يشغل نفسه بمعركة النكاح ويترك القضايا السياسية التي ندب نفسه لها؟؟

المجهر السياسي