زهير السراج

دلالات حديث (الخطوبة) الأمريكية السودانية!!


* نقلت الزميلة (الصيحة) بقلم الزميل (الطيب محمد خير)، أن وزير الدولة بالمالية (د. عبد الرحمن ضرار)، كشف في ندوة حول “مستقبل العلاقات السودانية الأمريكية بعد رفع الحصار الاقتصادي”، عن شرط أمريكي للمسؤولين السودانيين بعدم زيارة الصين، على الأقل خلال فترة الستة أشهر الاولى من صدور قرار رفع العقوبات، التى سيعقبها تقييم أمريكى لإلتزام السودان بالشروط التى تضمنها القرار، وقال (ضرار) الذي أطلق على مهلة الستة أشهر (فترة الخطوبة): ” بصراحة قالوا لينا في فترة الخطوبة إياكم وزيارة الصين”، مُقراً بأن خشية الولايات المتحدة من التغلغل الصيني في أفريقيا كان سبباً مهماً في رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان في شهر يناير المنصرم، لا سيما وأن السودان يعد معبراً للعمق الأفريقي جنوب الصحراء!!

* والله (الواحد محتار) من أين يبدأ التعليق على هذا الحديث .. من مهزلة الانبطاح لأمريكا لدرجة أنها تجرؤ على تحذير المسؤولين السودانيين من مجرد زيارة الصين، أم من محاولة تكسير الثلج للصين، أم من الغباء الذي أعمى الوزير عن رؤية الأثر السلبي لهذا التكسير في نفوس الصينين، وفتح أعينهم على ما يجرى وراءهم في الخفاء، أم من المحاولة السخيفة لإيهام الناس بأن الدول أصبحت تتسابق وتتصارع على السودان (الذي تجري من تحته الأنهار)، أم من كشف أسرار مفاوضات لم يمر سوى شهرين على القرار الذي نتج عنها، أم من حكاية الخطوبة وشهر العسل التي تكشف عن التفكير الصبياني لبعض المسؤولين عن طبيعة العلاقات بين الدول وتصويرها كعلاقات الخطوبة أو الزواج، ولا أدري أي نوع من الزواج هو؟!

* قبل أن أبدأ، دعوني أُذكِّركم بأنني تناولت في أحد أعمدتي السابقة، حوار الزميلة (لينا يعقوب) بصحيفة (السوداني) مع مسؤول كبير في الدولة ذكر لها، أن “الأمريكان قالوا لهم أثناء جولات التفاوض لرفع العقوبات، إن حقوق الإنسان وحرية التعبير في السودان أمر داخلي يخص السودان وحده، ولا دخل لهم بهم، وعليه فإن الحكومة لن تتورع عن إيقاف الصحف إذا رأت ما يستدعى ذلك”، وقلت أنني اندهشت من هذا الحديث، فاحترام حقوق الإنسان ومن بينها حرية التعبير، كان أحد الشروط التي تضمنها قرار رفع العقوبات، لتحديد الموقف الأمريكي من حكومة السودان بعد نهاية فترة المهلة، وعندما إلتقيت لاحقاً بمديرة قسم الشؤون العامة بالسفارة الأمريكية (كارولين إشنايدر) وسألتها عن هذا الحديث، اندهشتْ جداً، ونفته نفياً قاطعاً، وأكدت بأن المفاوضين الأمريكان لم يقولوا ذلك، وأن العكس تماماً هو الذي قيل، والدليل هو شرط (تحسين ملف حقوق الإنسان في السودان) كأحد الشروط التي يجب على الحكومة السودانية الإلتزام بها لمواصلة التفاوض حول رفع بقية العقوبات بعد نهاية المهلة!!

* إستناداً على ذلك، فإنني أستبعد تماماً أن يكون الأمريكان قد اشترطوا على المسؤولين السودانيين عدم زيارة الصين، على الأقل خلال فترة المهلة ــ أو فترة الخطوبة، كما أسماها الوزير ــ وإلا كانوا بلهاء، فما الذي ستستفيده أمريكا من عدم زيارة المسؤولين السودانيين الى الصين، وهل التعاون مع اية دولة من الدول خاصة في عصر التكنولوجيا يحتاج الى زيارات وسجاجيد حمراء، إلا إذا كان الوزير لا يزال يعيش في العصور الوسطى، علماً بأنه يشغل أحد المناصب الحساسة جداً التي تتطلب التعامل مع التطورات المحلية والإقليمية والدولية لحظة بلحظة، عبر أجهزة الاتصال الحديثة!!

* ولكن لنفترض صحة حديث الوزير، فماذا كان رد الفعل السوداني على الشرط الأمريكي الذي يمس السيادة الوطنية، هل قبلت به الحكومة أم رفضته، ولماذا لم يتطرق الوزير لذلك، أم أنهم وافقوا عليه بدون تردد، ويبدو أن ذلك هو الذي حدث بالفعل، والدليل هو الحديث الفرايحي للسيد الوزير عن (فترة الخطوبة) ..وبالرفاء والبنين، إن شاء الله !!

* ثم كيف يكشف الوزير الموقر عن أسرار تفاوضية مع دولة أخرى لم يمر عليها سوى شهور أو لنقل بضعة أعوام، والأثر السلبي الذي يمكن أن ينجم من ذلك، خاصة أن الطرف الثالث دولة من الوزن الثقيل لها علاقة خاصة مع السودان، بل هي بمثابة ولي أمره، أم أن محاولة الوزير لتكسير الثلج لهذه الدولة بأن أمريكا تخشاها، أعمته عن رؤية الأضرار التي يمكن أن تترتب عن الغضب الصيني من (الخيانة السودانية) !!
* الأنكى، هو أن الوزير بحديثه الساذج قد فتح أعين الصينين على ما يجرى وراءهم بين السودان وأمريكا، وبذل لهم معلومات في غاية السرية، وأعطاهم الفرصة لوضع خطة جديدة للتعامل مع السودان، ويكون الوزير قد اقترف في هذا الحالة خطأً قاتلاً يرقى لجريمة (الخيانة العظمى)!!

* على كل حال، إذا كان الوزير صادقاً أو كاذباً، أو ترتب أو لم يترب شيء على حديثه، أو كان تحليلي صائبا أم خاطئاً، فإن حديث الوزير يكشف لنا عن طبيعة المسؤولين الذين يتحكمون في مصائرنا، وسذاجتهم، وقصر نظرهم، وضعف مقدراتهم!!

مناظير – زهير السراج
صحيفة الجريدة