سياسية

على الحاج.. السفر الطويل والمسير الصعب


الآفاق المفتوحة على مداها، والبيئة البكر والحياة الطلقة، في الأقليم الشاسع مترامي الأطراف غربي السودان، كلها عناصر شكّلت بعض آثار النشأة الأولى التي نشأها د. على الحاج محمد جعلته يتحلّى برحابة في الصدر والخلق وسعة في الفكر والأفق، مطبوعاً بتلك الفضاءات المنبسطة.

سوى أن المراحل الدراسية التي تقلب د. على الحاج بين فصولها، كانت عاصفة بالأحداث الجسام إذ تعرض للفصل من مدرسة (خور طقت) التي جاءها من مدارس الفاشر الأولية فلم يلبث أن غادرها نحو مدينة أم درمان يكابد الفصل السياسي ويبحث عن مقعد بين مدارسها حتى تهيأت له فرصة الإلتحاق بمدرسة المؤتمر الثانوية ومنها متفوقاً إلى كلية الطب بجامعة الخرطوم.

أتاحت سنوات الدراسة الجامعية للدكتور علي الحاج محمد سانحة أخرى للتجوال الأبعد خارج السودان هذه المرة، ليرى الآيات في الآفاق فسافر إلى أروبا ضمن اعضاء الاتحاد النسبي لجامعة الخرطوم الذي زاحم عليه الشيوعيين واحتل فيه مقعداً للاسلاميين. وليوالي تسافره من بعد التخرج إلى أيرلندا يحكّم ما درس من مهنة الطب بالتخصص الأدق في أمراض النساء والتوليد، في خاطره ولا ريب، ذكرى الكثيرات من النساء في أهله دفعن الحياة ثمناً للتخلف الطبي في منطقة دارفور.

هيأت الظروف، كذلك، للدكتور علي الحاج أن يضطلع بدور مهم في إقليم دارفور دفعه لأن يصبح رمزاً مهماً ضمن الشخصيات الدارفورية، إذ يرجع إليه الفضل في العمل ضمن مجموعة من المتعلمين الدارفوريين في تحويل القرار بالعمل العسكري في (حركة سوني) إلى العمل السياسي الذي يتوخى تمام النهضة لدارفور، فساهم بفعالية في تأسيس (جبهة نهضة دارفور) ليكون من ثم الرجل الثاني في تراتيب قيادتها تالياً لأحمد إبراهيم دريج الذي لم يلبث أن اختار على الحاج ليكون وزيراً في حكومته بإقليم دارفور التي تشكلت على أنقاض حكومة المرضي إبان العهد المايوي في السودان وهو ما يؤشر على حجم الرجل ووزنه وتأثيره منذ ذلك الوقت.

إلى داخل أروقة التنظيم الإسلامي في السودان يعرف عن د. علي الحاج أنه شغل أمين أمانة الجنوب، لأول تأسيس مكاتب للأقاليم بالحركة الإسلامية لما توفر له من علاقات وصلات وطيدة بالنخبة الجنوبية من زملاء مهنة الطب والدراسة الجامعية وهو ما أهله من بعد لأن يمسك بقوة بملف التفاوض مع الحركة الشعبية طوال عشرة السنوات الأولى من حكم الإنقاذ.

لكن مهما تكن مشاركة علي الحاج وتجربته وزيراً في حكومة إقليم دارفور فإنّ تمام نضوج خبرته في تصاريف شئون الحكم والوزارة كان لدى مشاركته في حكومة الوفاق الوطني حقبة الديمقراطية الثالثة في ثمانيانات القرن الماضي وهي التجربة الأقرب التي هيأته من بعد لأن يشغل مهمات كبيرة في حكومة الإنقاذ. إذاً فقد غادر د. علي الحاج الوزارة في أعقاب انهيار إئتلاف الجبهة الإسلامية مع حزب الأمة في حكومة الصادق المهدي (1986 – 1989) وهي ذات اللحظة التي وافقت إختياره ضمن سبعة من قيادات الحركة الإسلامية معاونين للأمين العام للحركة الإسلامية السودانية الذي حصل لفوره على تفويض كامل من المؤسسة التنظيمية تخوّله في إجراء التغيير السياسي في السودان ولو كان أنقلاباً توقعه تدابير التشكيلات العسكرية للحركة الإسلامية متحالفة مع بضع عشرات من العسكريين داخل الجيش السوداني، لكن ترتيبات البيت الإسلامي الداخلي نحو تمام تأمين عملية التغيير العسكري ليلة الثلاثين من يونيو 1989 قضت بأن يبقى د. علي الحاج بعيداً إلى خارج السودان يتولى مسئولية التأمين من الخارج وليشرف على كامل علمية التمويه إحترازاً من ضربة خارجية قد تتوجه إلى الحركة حال انكشاف تدابيرها.

فور استتباب أوضاع الحكم لنظام الإنقاذ بدأت الإتصالات بحركة التمرد في جنوب السودان توالي بعدها وقع المباحثات من أجل التوصل لمنابر التفاوض من أجل السلام وإنهاء الحرب المستعرة وإذ دفعت الإنقاذ لأول مرة بواحد من عساكرها ليكون على واجهة وفدها للتفاوض مع الحركة الشعبية إلا أن جولات التفاوض الأجدى والأهم من بعد ظلت تجري تحت قيادة د. علي الحاج محمد يغشى منابرها ما بين الحواضر الإفريقية وحتى العواصم الأروبية نحو فرانكفورت. لكنه في ذات الوقت الشخص الأنسب لتنزيل رؤية الحركة الإسلامية في الحكم اللامركزي، ذات الرؤية التي ظلت الحركة تطرحها ترياقاً لعلل الحكم المركزي القابض في الخرطوم، المتوارث عن الإدارة الإستعمارية.

إذ ذاك نشط د. على الحاج محمد الوزير بديوان الحكم الإتحادي في إعادة التقسيم الإداري لأقاليم السودان لتصبح نحواً من ست وعشرين ولاية تسعى لمقاربة الظل الإداري الأقصر الذي يرد أمر تدبير الحياة وتصاريف الحكم فيها إلى الشعب في ولاياته ومحلياته وأطرافه البعيدة لا يقبضها لدى مركز أوحد متباعد ينزلُ عليها سياساته متعالية متسلطة. كذلك أتاح له موقعه في وزارة الحكم الإتحادي أن يصبح رئيساً للّجنة القومية لطريق الإنقاذ الغربي وهو موضع المسئولية الذي جعل منه فيما بعد هدفاً لكثير من السهام التي ظلت تنتاشه لوقت طويل.

وإذ مثلت أسباب الردة عن تمام إنفاذ خطة الحركة الأسلامية في الحكم اللامركزي واحدة من نقاط الخلاف التي أدت إلى أنشقاق الحركة وخروج نصفها عن تجربة الحكم يقود المعارضة الأشرس لنظام الإنقاذ فقد غادر د. على الحاج موقعه في الوزارة قبل أن تترسخ لديه القناعة بضرورة المغادرة إلى خارج الوطن يتوقى جور إخوان الأمس الذين لا يدخرون، اليوم، وسعاً لاستضعافه وقهره وربما قتله وليظل في مهجره الذي أختاره في ألمانيا لمدى شارف على العقدين من الزمان، لكنه يعود اليوم إلى الخرطوم وقد غاب عنها شيخه ومعلمه الأكبر الشيخ الترابي ليجد في انتظاره مهمام كبرى بين يدي الإجتماع العام للمؤتمر الشعبي الذي تكتنفه الخلافات وتشتجر داخله القضايا لا سيما حينما ركنت قيادته الطارئة المكلفة إلى موادعة نظام الحكم وانحرفت بالتنظيم نحو المشاركة في سلطة فاسدة وحكم ديكتاتوري وهي الأوضاع التي ينتظر من د. على الحاج تصحيحها وتقويمها متى حمله المؤتمر العام أميناً عاماً للتنظيم الإسلامي.


سودان تربيون


تعليق واحد