منى ابوزيد

النمور اكثر عدلاً


«العدالة تخضع للموضة شأنها شأن الفتنة» .. بليز باسكال ..!
يقولون لك إن هذا العالم – على امتداده – قد أصبح اليوم قرية واحدة، صغيرة، فتفرح مستحسناً هذا الزعم العظيم الذي يختزل المسافات بينك والبيت الأبيض .. والكرملين .. وسور الصين العظيم .. وعزلة الدلاي لاما .. ونجوم ريـال مدريد .. وأساطير هوليوود .. لكنك تعلم بالطبع أن الاتصال شيء، وأن الوصول شيء آخر .. جولة قصيرة بين صحف العالم في الأيام الماضية لتفقد أوجه الشبه ومواطن الاختلاف بين سكان تلك القرية الواحدة، تحيلك رأساً إلى قوله تعالى في سورة يونس (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)، ثم إلى قوله تعالى في سورةالبقرة (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) ..!

بعض الأحداث التي شغلت صحف العالم الأسبوع الماضي، كان أولها كيف اعتذرت رئيسة كوريا الجنوبية المعزولة بارك كون هيه، لشعب بلادها، قبل استجوابها في مكتب النيابة العامة في سيؤول بسبب فضيحة الفساد التي أشارت التحقيقات إلى تورطها فيها بالرشوة، وإساءة استخدام السلطة، وتسريب أسرار حكومية، والتواطؤ مع إحدى صديقاتها لابتزاز أموال من شركات كورية جنوبية كبرى من بينها «سامسونج» .. جوهر الاتهام كان سماح رئيسة البلاد لصديقتها المقربة بالتدخل في شؤون الدولة .. وهذا بطبيعة الحال – هناك! – أدى إلى رفع الحصانة عنها، وبالتالي وقوفها عارية عن أي اعتبارات أمام الملاحقة الجنائية ..!

أما الحدث الثاني فقد كان تخصيص مكتب لابنة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى الجناح الغربى من البيت الأبيض، بدعوى تعزيز دورها في تقديم المشورة لوالدها الرئيس .. الجديد الشديد في التقاليد السياسية الأمريكية هو أن هذا الإجراء يسمح لابنة الرئيس بالاطلاع على معلومات سرية ويعطيها الحق في الحصول على هاتف حكومى .. كل ذلك دون أن تتولى أي منصب حكومي ودون أن تقاضى راتباً على ذلك .. تجاوزات التدخل في الشئون الرسمية لابنة الرئيس لم تتوقف عند جلوسها إلى جوار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال زيارتها للبيت الأبيض .. بل أنها قامت بنشر صورة لها في حسابها على موقع تويتر، وهي تجلس في المكتب الرئاسي العريق في الغرفة البيضاوية بالبيت الأبيض .. وباستصحاب كون زوج ابنة الرئيس هذه هو كبير مستشاريه، يتحول البيت الأبيض – بحسب آراء بعض المنتقدين – إلى «عزبة آل ترامب» ..!

لاحظ معي أن تهمة رئيسة كوريا الجنوبية كانت تسريب أسرار حكومية لصديقتها المقربة والسماح لها بالتدخل في شئون الدولة .. وهو ذات الأمر الذي يتحقق في أمريكا بتخصيص مكتب لابنة رئيس البلاد، والسماح بالاطلاع على معلومات سرية، وإعطائها – بالتالي – إذناً غير معلن بالتدخل في شئون البلاد ..!
وهذا يعني أن الممارسة الديمقراطية والصرامة الإدارية في أمريكا آخذة في التراجع، بحلول عهد ترامب وعلى يديه .. يحدث هذا في أمريكا التي كان الخطاب الداخلي فيها أكثر إرهاقاً لساستها من الخطاب الخارجي، والتي كان الهدف الأهم لرؤسائها هو المحافظة على استقرار شعور الناخب ــ ودافع الضرائب ـــ بالرضا عن سلوك حكومته ومنهجها القويم في إدارة دفة دولته .. والتي .. والتي .. بينما تحقق بعض بلاد النمور الآسيوية أعلى معدلات الانضباط الحكومي والنزاهة القانونية والصرامة الإدارية ..!

وعلى ذكر النمور – والذي منه – كان الحدث الثالث هو نفوق سلحفاة بحرية في تايلاند، بسبب تسمم في الدم، ثم دخولها في غيبوبة لم تفق منها، إثر جراحة أجريت لها – لمدة سبع ساعات لاستخراج 915 عملة معدنية بلغ وزنها حوالي خمسة كيلوغرامات، ابتلعتها السلحفاة النافقة – التي كانت تعيش في بركة ماء يلقي زوارها بالعملات المعدنية فيها جلباً للحظ – ظناً منها أنها طعام ..!

الفريق الطبي الذي أشرف على الجراحة أكد أن الفراغ الذي خلفه استخراج العملات أدى إلى تشابك الأمعاء وانسدادها مما أوقف تدفق الدم وتسبب في عدوى حادة بالأمعاء أدت إلى إصابة «المرحومة» بتسمم في الدم .. لكنهم أكدوا أيضاً أنهم سييشرحون، جثة السلحفاة «المنكوبة» لتكون دراسة الحالة مفيدة في علاج سلاحف أخرى في المستقبل ..!

أعلم أن مثل هذه الأخبار تستفز رصانتك العاطفية وربما تصيبك بما يطلق عليه بعض علماء الاجتماع في حذلقة «عدوانية الطبقة الكادحة» .. ولكن مهلاً! .. على ذكر «النفوق» كان الحدث الرابع هو تقرير لمفوضية الإغاثة وإعادة التعمير في منطقة أويل بشمال بحر الغزال، عن وفاة نحو (13) مواطناً بسبب الجوع الكافر ..!

هؤلاء الجوعى المنكوبين معظمهم من النساء والأطفال، الذين كانوا ضمن آلاف النازحين الفارين من أويل بسبب الجوع، وكانوا يفترشون الأشجار ويأكلون أوراقها، في غياب تام لمنظمات حقوق الإنسان، الذي يقيم الدنيا ويقعدها في إحدى قارات العالم بسبب نفوق سلحفاة، ويترك آلاف النازحين في قارة أخرى من ذات العالم يواجهون مصير الموت جوعاً .. ألم أقل لك أن الاتصال – في هذا العالم القاسي – شيء، وأن الوصول شيء آخر .!

هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة