منوعات

هل الخوف من التحدث أمام جمع من الناس يعيق تقدمك المهني؟


في عام 1961، كان غلين سافدج البالغ من العمر خمسة أعوام يلعب دور الملاك جبريل في مسرحية تحكي قصة المسيح بمدرسة سانت جيمس بمدينة برزبن الأسترالية، وعندما أوشك على صعود المسرح، عقد الخوف لسانه، رغم أنه كان من المفترض أن يقول سطرا واحدا فقط: “هلم إلي أيها الملائكة”.

إن الخوف والقلق اللذين تملكاه في هذه اللحظة لازماه لفترة طويله وشكلا مستقبله المهني. ويتذكر سافدج قائلا: “كل ما أتذكره أنني لم أجرؤ على التحدث أمام هذا الجمع من الناس. وقبل أن يُرفع الستار ارتعدت فرائصي، وارتعش صوتي وأطرقت برأسي، ومنذ ذلك الحين، صرت أتحاشى كل المناسبات التي أضطر فيها للتحدث أمام الجمهور”.

وبعد أن أنهى سافدج دراسته عمل في مجال الصيدلة، ليبقى في مأمن خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصله عن الزبائن.

وفي عام 2000، طُلب منه أن يدرب غيره من الصيادلة في سلسلة الصيدليات التي يعمل بها. ويقول سافدج: “أتيحت لي الفرصة لتنمية مهارات غيري من الصيادلة في 400 صيدلية، وقلت لنفسي ‘ستكون فرصة رائعة’، إلى أن تذكرت العقبة الكؤود”.

استرجع سافدج تجربته الأولى على المسرح، ولم يكن يدري إن كان سيتغلب على مخاوفه هذه المرة أم ستعيقه عن الكلام مرة أخرى.
عامل الخوف

يتحاشى الكثيرون التحدث أمام جمع من الناس. وتوصلت إحدى الدراسات التي أجرتها جامعة تشابمان عام 2014 إلى أن الخوف من مخاطبة الجمهور هو المسبب الأكبر للرهاب لدى الخاضعين للدراسة، إذ ذكر 25.3 في المئة منهم أنهم يخافون من التحدث أمام جمع من الناس.

إلا أن هذا الخوف ربما يحد من فرصك في الحصول على المهنة المناسبة، إذ توصلت دراسة أجريت على 600 موظف عام 2014 إلى أن “القدرة على التواصل اللفظي” جاءت على رأس قائمة المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل، في حين جاءت “مهارات الخطابة والعرض” في المرتبة الرابعة، أما المهارات الإدارية المعتادة مثل “الأنشطة الإدارية” فقد جاءت في مؤخرة القائمة.

وفي عام 2014، توصلت دراسة عبر الإنترنت أجريت على 2031 عاملا في الولايات المتحدة إلى أن 12 في المئة منهم مستعدون أن يتركوا الفرصة لغيرهم لتقديم العرض بدلا عنهم، حتى لو كان ذلك على حساب فقدان احترام زملاء العمل لهم. ويقول نحو 70 في المئة ممن قدموا عروضا توضيحية أمام زملائهم إنها كانت خطوة ضرورية نحو تحقيق النجاح.

وتؤكد الدراسات أن الخوف من مخاطبة الجمهور يؤثر على حياة الأشخاص الذين يعانون منه. وتبين الكثير من الأبحاث أن القلق في مكان العمل قد يؤدي إلى تراجع مستوى الأداء. وبحسب التجارب الشخصية، وصفت لوسي كيلاواي، الكاتبة في صحيفة “فاينانشيال تايمز”، خوفها من التحدث أمام جمع من الناس بالقول إنه “حدد فرصها المهنية”. وينسب وارين بوفيه، من كبار المستثمرين في العالم، الفضل في نجاحه إلى إحدى الدورات التي حصل عليها في مجال مخاطبة الجمهور.

مع تزايد الإقبال على عقد الاجتماعات عبر الإنترنت، بات من الضروري أن تكون ملما بمهارات العرض والخطابة حتى لو كنت تعمل من المنزل
الظهور أمام الناس

ورغم أن أغلب الأعمال بات من الممكن تأديتها خلف شاشات الكمبيوتر، إلا أن التطور المهني لا يزال يعتمد على ظهورك أمام الناس وتحدثك إليهم. وفي تقرير أعدته شركة “أي بي إم” للمديرات بشأن سبل الوصول إلى المناصب التنفيذيه، ينصح معدو التقرير بالمبادرة بالتحدث أمام الجمهور كلما أتيحت الفرصة والمشاركة في المناقشات الجماعية، مع الحرص على المشاركة في المدونات والتغريد على موقع تويتر، لتعريف الموظفين بالشركة بالأعمال التي أنجزتها.

ورصد هارفي كولمان، المستشار في مجال الأعمال ومؤلف كتاب “كيف تشحذ مهاراتك”، ثلاثة عوامل أساسية لتحقيق النجاح المهني هي الأداء والصورة الاجتماعية والظهور أمام الناس وما ينطوي عليه من عرض للمهارات. ويقول كولمان إن النجاح يعتمد بنسبة 60 في المئة على الظهور أمام الناس وبنسبة 30 في المئة على الصورة الاجتماعية وبنسبة 10 في المئة على الأداء.

ويوافقه الرأي ستيف باستن، مؤلف كتاب “الدليل إلى إتقان تقديم العروض ومخاطبة الجمهور”: “لم يعد هناك مفرا من مخاطبة الجمهور في حياتنا العملية”.

ويتابع باستن: “إن مهارات العرض والخطابة هي إحدي المهارات الأساسية التي ينبغي تعلمها والتدرب عليها مثل سائر المهارات. إذ يشترط الآن في الكثير من المقابلات الوظيفية، وخاصة على مستوى المناصب العليا، أن تعرض مهاراتك وتقدم نفسك أمام لجنة من المديرين مشكلة لهذا الغرض”.

وبعد أن حلت الاجتماعات عبر الانترنت محل المكالمات الهاتفية، يجد الكثير من العاملين أنهم باتوا يواجهون جمع من الزملاء أكثر من أي وقت مضى. ويقول باستن: “إحدى أحدث الطرق في التواصل هي التحدث أمام جمع من الناس عبر الشاشات. وتتجه بعض المؤتمرات الآن إلى إقامة رابط فيديو عبر الإنترنت لكي يلقي المحاضر كلمته من مكتبه، بدلا من التكفل بمصاريف انتقال المحاضر إلى مكان المؤتمر”.

وقد تغيرت توقعات الجمهور للمحاضرين بفضل شعبية وتأثير محاضرات مؤتمر التكنولوجيا والترفية والتصميم، المعروف اختصارًا باسم (تيد)، والذي يعقد سنويا في فانكوفر، بكندا منذ سنة 1984، وانتشرت محاضرات المؤتمر عبر الإنترنت منذ عام 2006 تحت شعار “أفكار جديرة بالنشر”، وغدت ظاهرة ثقافية.

ويلقي المحاضرات، التي لا تتجاوز كل منها 20 دقيقة، خبراء في مجالات شتى، وحققت ملايين المشاهدات عبر الإنترنت وتُرجمت إلى ما يزيد على مئة لغة.

ويقول باستن إن مهارات المحاضرين في تيد رفعت سقف التوقعات التي يضعها الجمهور لسائر المحاضرين. ويتابع: “يمكنك الآن مشاهدة محاضرين بارعين على موقع “يوتيوب”، وعندما يحضر الناس المؤتمرات أو الحفلات التي ترعاها الشركات، يتوقعون أن يكون المحاضر على نفس المستوى من الكفاءة”.

ويقول غاري لوفمان، عالم النفس المهني والمستشار التجاري، في برايتون، بإنجلترا، إن تأثير مؤتمر “تيد” لم يكن في مصلحة الأشخاص الذين يخافون التحدث على الملأ. فإن الأشخاص الذين لا يتحدثون أمام زملائهم في العمل إلا مرات قليلة كل عام يجدون صعوبة في تطوير مهاراتهم.

ويتابع لوفمان: “بعض الناس الذين أعمل معهم يتحدثون أمام الناس مرة واحدة كل عام أو كل ثلاثة أشهر، وفي هذه الحالات من السهل تجاهل الأمر وعدم التفكير فيه”.
مصدر الصورة Getty Images
Image caption الكثير من الناس ينسيهم التركيز على أنفسهم مدى أهمية جذب اهتمام الجمهور الذي يتحدثون إليه
هل تواجه الأمر أم تهرب منه؟

يقول لوفمان إن الخوف من التحدث أمام الناس يرجع إلى أسباب طبيعية ومتأصلة في دواخلنا. فإن قدرة عقولنا على إدراك التهديد تفوق قدرتها على إدراك الثواب بثلاثة إلى أربعة أضعاف. ويتابع لوفمان: “فعندما تواجه جمعا لا تعرفه من الناس يتحول الدماغ إلى وضع الدفاع في مواجهة التهديد”.

وعندما يواجه الدماغ التهديد يظهر استجابة “الهجوم أو الفرار”، وفي هذه الحالة يطلق الأدرينالين في الجسم وتتسارع ضربات القلب، وهذا الأمر مفيد إن كنت تنوي الركض أو العراك، أما إن كنت واقفا في مكانك، فهذا التدفق الزائد من الطاقة من شأنه أن يضيق الحلق ويؤدي إلى احمرار الوجه وتصبب العرق.

ويقول كل من باستن ولوفمان إن السر وراء إلقاء كلمة ناجحة هو الإعداد، وهذا لا يعني أن تحفظها بأكملها عن ظهر قلب، بل ينصحان بحفظ أول جملتين أو ثلاث جمل، أو أول بضع دقائق، لتبدأ بداية موفقة. وبعد ذلك، استعن بشرائح أو بطاقات تساعدك على التذكر لتنتقل من فكرة إلى أخرى في أثناء تقديم العرض.

ويقترح لوفمان أن تستحضر سلفا صورة المكان الذي ستلقي منه الكلمة، فتصور كيف ستبدو الغرفة؟ وأين ستقف؟ ويقول لوفمان: “لا يختلف تفاعل العقل مع الفعل كثيرا عن تفاعله مع التفكير، ولذا، فإذا رسمت في مخيلتك صورة غنية بالتفاصيل، سيقل القلق والتوتر تدريجيا”.

إذن، لا بديل عن التمرس بمهارات الإلقاء والخطابة أمام جمع من الناس. ولهذا الغرض انضم الكثيرون إلى مؤسسة “توستماسترز” العالمية لتنمية مهارات مخاطبة الجمهور، ومنهم غلين سافدج. وفي عام 2000، عندما خُيّر غلين ما بين البقاء في الصيدلية لصرف الأدوية وبين التحدث على الملأ لتدريب غيره من الصيادله، اختار أن يواجه مخاوفه.

واستطاع غلين، بمساعدة تدريب البرمجة اللغوية العصبية، الذي يركز على البنية اللغوية والأنماط السلوكية، أن يتغلب على القلق ويتخلص من المعتقدات المثبطة للعزم.

وأهم نصيحة هي تحويل الانتباه، ويقول لوفمان: “عليك أن تحول تركيزك من نفسك إلى الجمهور الذي تخاطبه. فإن التركيز على الذات هو مصدر الخوف الذي ينتاب أغلب الناس من مخاطبة الجمهور، ‘ماذا لو كان أدائي كارثيا؟’ ‘ماذا لو أخفقت؟’، ولكن في الحقيقة، يجب أن ينصب اهتمامك على إيصال الرسالة للجمهور، وإذا حظيت بإعجاب الجمهور، فهذا يحسب لك”.

وبعد ما يزيد على 50 عاما من إخفاقه على المسرح، عاود سافدج الوقوف عليه لإلقاء الخطاب الرئيسي في مؤتمر الصيدلة الأسترالي عام 2015، الذي يستغرق أربعة أيام ويستقطب ما يزيد على 4.000 وفد. ويقول سافدج: “بدلا من التفكير في القلق والخوف الذي سيصيبيني عند مخاطبة الجمهور، قلت إن هذه فرصة رائعة وشرف لي أن أخاطب هؤلاء الناس وأعرض بعض أفكاري عليهم”. والآن يواظب سافدج على التحدث أمام الجمهور في المؤتمرات، ويدرب الآخرين على مواجهة مخاوفهم.

ولكن ماذا كان سيحدث لو لم يقرر سافدج تطوير مهاراته؟ يقول سافدج: “إن خوفي من التحدث أمام الناس كان سيحد حتما من خياراتي المهنية، وكان سيعيقني عن تحقيق أي تقدم ملموس”.

bbc


تعليق واحد

  1. لذلك عندما تبدأ بخطبة الحاجة وهي قول الرسول صلي الله عليه وسلم ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره فهذا يساعدك كثيرآ.