تحقيقات وتقارير

صحفية تقتحم حياة المتسولين وتمارس المهنة لأيام


متسولة محترفة تنصح محقِّقة (الصيحة) بعدم العمل بالمسجد الكبير

بعض المتسولين يحضرون صلاة الظهر في مسجد والعصر في مسجد آخر

المسافة الزمنية بين أوقات الصلاة يتجوّل فيها المتسولون بين الأسواق والشركات

تجربة خاضتها: مياه النيل مبارك

عندما قررت اقتحام عالم المتسولين هداني تفكيري إلى التجول في مناطق التسول لمدة طويلة حتى أكوِّن فكرة خارجية عن هذا العالم الغامض. ولما شرعت في ذلك كانت حصيلتي أكبر مما توقعت، فقد كونت صداقات مع بعض المتسوِّلات في الإطار العام الخارجي ليكون ذلك مدخلي إلى نيل ثقتهن، وبالتالي الانسراب إلى أضابير وردهات عالمهن الغامض.

واحدة من المتسولات المحترفات اللائي تعرفت عليهن نصحتني بعدم التسول بالمساجد التي يرتادها المسؤولون الحكوميون، غير أنني ضربت بنصائحها عرض الحائط، وحملت معي أدوات المهنة “سبحة، نظارة سوداء، كورة، وجوال بلاستيكي، وورقة كتبت عليها قصة معاناتي، ولم أنس أن أرتدي ثوباً بالياً كما قمت بإحكام رباط رجلي بما يوضح أنها مصابة، ثم يممت وجهي شطر مسجد الخرطوم الكبير. وهناك عشت حكايات وفصولاً من الفنتازيا والكوميديا السوداء.

توجّس وترقّب

تلثمت بالثوب وأنا أغادر منزلنا بجنوب الخرطوم، وذلك حتى لا يتعرف علي أحد سكان الحي بذلك الشكل فيعتقد أنني أُصبت بالجنون، وبخطوات متسارعة وصلت إلى محطة المواصلات وبعد أن جلست على المقعد بدأ الكمساري في تحصيل “القروش”، ومن هنا بدأت في تقمص دور المتسولة وذلك حينما أخبرته بعدم امتلاكي قيمة التذكرة، فردد كلمات لم أفهمها وكنت أضحك في دواخلي من هذا الموقف، لم تمض ساعة حتى كنت في الموقع المحدد وهو مسجد الخرطوم الكبير.

ودون تردد توجهت مباشرة في تلك الساعة المبكرة من الصباح نحو مكان يقع جنوب المسجد وعلى مقربة من مدخله وجلست وسط ثلاث من المتسولات بعد أن ألقيت عليهن التحية، كنت متوجسة بعض الشيء وأنا أجلس على جوال خيش أحضرته معي من المنزل وكنت أرسل بصري في كافة الاتجاهات لتقصي حقيقة وجود كشة في ذلك الوقت أم لا، لم أشعر بوجود رجال شرطة أو موظفين للمحلية فشعرت ببعض الاطمئنان، وكان هذا مدخلي إلى حليمة التي جلست بجوارها وسألتها عن الكشة بدعوى أنني غبت عن هذا الموقع لفترة من الزمن.

احتمالات مفتوحة

أجابتني سريعاً بالتأكيد على وجود كشة تأتيهن بغتة، ولمزيد من الاطمئنان والتحسب سألتها عن طرق الإفلات منها، فقالت لي سريعاً إذا تم إلقاء القبض عليك فأخبريهم بأنك تعملين في منزل ولن تعودي للتسول، وأكدت لي أنهم سيطلقون سراحي، وقالت ضاحكة: لو اصطحبوك إلى السجن ستتعرضين للجلد ثم يطلقون سراحك، ويقولون لك “تاني ما نشوفك هنا”، ومضت حليمة في حديثها وأنا أنصت إليها باهتمام دون أن أقاطعها وتقول بتعجب واستنكار: “شوف ناس الحكومة بالله، ماعاوزننا نكسب قروش من ناس عاوزين يدوها للمساكين والفقراء”.

شراكة الفطور

تجاذبنا أطراف الحديث وعمدت ألا أتحدث كثيراً وحينما طلبت مني حليمة الكشف عن غطاء وجهي اعتذرت لها، فقالت لي ضاحكة “شكلك عاملة كريم وخائفة من شمس الصباح” فضحكت حتى تظن أن استنتاجها صحيح وتتركني في حالي ولا تطالبني مجددًا بكشف وجهي، عند العاشرة صباحاً طالبتنا حليمة بدفع مساهمة الفطور وقالتها هكذا “يا ناس أدونا شيرنق الفطور”، ضحكت في سري فقلت في سري هل هذه متسولة خريجة جامعية مثلي أم ماذا، عموماً أنصعت مثل غيري لطلبها، وبعد أن جمعت المبلغ أمرتنا بالتوجه نحو إحدى البقالات التي تقع وسط السوق العربي، فذهبنا وتم تحضير “فتة فول” بل كل واحدة منا تناولت مشروبا غازياً، وبعد الفطور عدنا إلى مواقعنا.

الشرطة والمباغتة

بعد أن عدنا لموقعنا بدأت “النقاطة” تتساقط علينا من المارة، ولكن فجأة ظهر دفار الشرطة، لم أعرف ماذا أفعل تحديدًا لأنني لا أمتلك خبرة التعامل مع هذه المواقف، ولكن حليمة طالبتني بالركض حتى لا يتم القبض علي، وذات الحديث قالته لأخريات بلغة لم أفهمها لأنها ليست لقبيلة سودانية، لم أفكر كثيراً فمثل غيري هرولت مبتعدة عن المكان، أما “الزميلات المتسولات”، فكل واحدة ركضت في اتجاه مختلف، وكان المشهد مثيراً للضحك والحزن في ذات الوقت، فكبار السن من المتسولين والمتسولات لم يجدوا أمامهم غير الاستسلام والتوجه نحو عربة الشرطة دون مقاومة أو تفكير في الهرب، كنت أبحث عن صديقتي حليمة وأنا أركض، ولكن حظها العاثر شاء أن تتعثر في الأرض وتقع عليها ليلحق بها شرطي نحيف ويلقي القبض عليها، فشعرت بحزن كبير، وذلك لأنها مصدري ومدخلي لعالم المتسولين، أما أنا فكنت محظوظة لأنني ركضت خلف متسولة صغيرة، لم يتجاوز عمرها العاشرة، ووجدنا مكاناً ساعدنا في الاختباء من رجال الشرطة، وكنت وقتها أشعر بخوف حقيقي من إلقاء القبض علي لأن الشرطة لن تقتنع بأنني أؤدي عملاً بتكليف من الصحيفة، وأثناء تفكيري مرت بنا عربة الشرطة ونظرت إلى زميلاتي وهن يجلسن على أرضية العربة ودون أن أشعر وجدت دموعي تتسلل تعاطفاً معهن، فمشهدهن كان يدمي القلب، شعرت بعدم رغبة في إكمال مهمتي في ذلك اليوم بسبب حالة الاستياء التي سيطرت على دواخلي بالإضافة إلى وجود الشرطة، فتوجهت نحو المنزل وكانت حصيلتي ثلاثة عشر جنيهاً فقط، وأنا أقلبها في يدي تذكرت نصيحة المتسولة المحترفة التي طالبتني بعدم التوجه نحو المسجد الكبير فتأكدت من صدق نصيحتها.

الفاطمية والكشة

في اليوم الثاني توجهت نحو مسجد الفاطمية باللاماب جنوبي الخرطوم للاستقصاء أكثر عن مملكة المتسولين بعد أن حرمتني الشرطة من معرفة الكثير من الخبايا بمسجد الخرطوم الكبير، كنت أرتدي ملابس عادية، ولكن بعد وصولي المسجد تفاجأت بعدم وجود متسولين رغم علمي المسبق بأن هذا المسجد وجهة مفضلة للمتسولين، ولإزالة هذا الغموض توجهت نحو مركز بسط الأمن الشامل الذي يقع على مقربة من المسج،د وسألت شرطياً عن المتسولين وكنت أحسب أن الكشة أيضاً قد تسببت في اختفائهم، ولكن الشرطي أشار إلى أنهم لا يحضرون صباحاً بل قبل صلاة الظهر، ولأن الوقت كان مبكراً عدت أدراجي إلى المنزل، وفي اليوم الثاني حضرت في الموعد المحدد، ولحسن حظي، فقد وجدت مجموعة من المتستلات وجلست إلى جانبهن ولكنهن توجسن مني، وحاولت أن أتجاذب معهن أطراف الحديث، إلا أن ردودهن كانت مختصرة، وكن يتحدثن أيضاً بلهجة لم أفهمها، وعرفت أنهن يمارسن النميمة في شخصي ويبدو أنني كنت ضيفة غير مرغوب فيها.

وبعد خروج المصلين تحركن من أماكنهن لسؤال المصلين وهم خارجون من المسجد ومثلهم فعلت، وكانت حصيلتي في ذلك اليوم نحو عشرين جنيهاً.

صديقة جديدة

بعد أن عادت الأوضاع لطبيعتها لحقت بمتسولة شابة وأعطيتها نصف المبلغ، وقلت لها: لقد حصلت على مبلغ جيد، فأخذته وابتسمت وسألتها عن وجهة الزميلات فقالت سيتوجهن نحو مساجد أخرى للحاق بصلاة العصر، وعلمت منها أن عمل المتسولين يختلف من فئة إلى أخرى، وأنه يوجد متسولات ومتسولون يتحركون طوال ساعات اليوم من موقع إلى آخر، مثلاً يؤدون صلاة الظهر في مسجد ثم يذهبون إلى سوق أو حي أو مرافق حكومية أو خاصة، وعند حلول وقت صلاة العصر يتجهون إلى مسجد آخر، وتوجد فئة أخرى ترتكز في مواقع ثابتة ولا تسمح لآخرين بالعمل فيها، ومنها السوق المحلي الذي حينما ذهبت إليه برفقة صديقتي الجديدة تم طردي من قبل متسولين ومتسولات من ثلاثة مواقع فيه، إلا أنني وجدت شارعاً توجد فيه متسولة واحدة وجلست جوارها ولكن كانت حركة المارة فيه ضعيفة، وبالتالي فإن المحصلة لم تتجاوز السبعة جنيهات، وعرفت منها أن معظم المتسولات يقطن أحياء مايو، الأزهري، عد حسين والسلمة.

الحصول على الكنز

في اليوم الثاني توجهت صوب جبل أولياء، وبالقرب من كلية جامعية جلست، وكان الطريق مزدحماً بالمارة ولكن كانت المحصلة متواضعة من حيث حصولي على المال وعلى المعلومات. فقررت عدم إضاعة زمني هباءً فأنا هنا للحصول على معلومات عن هذا العالم، فقررت التوجه صوب مسجد جبل أولياء الكبير ووجدت عدداً كبيراً من المتسولات والمتسولين، وأنا أبحث عن مكان أجلس فيه نسبة للزحمة، أشارت إلي امرأة أربعينية بيدها فتوجهت نحوها فطلبت مني الجلوس بجوارها، وكان الموقع جيداً، وبدأت المرأة ودودة، فسألتني عن أسباب ممارسة للتسول فاختلقت لها قصة لم تدعني أكملها حتى بدأت في سرد قصتها مشيرة إلى أنها انفصلت عن زوجها، ولم تجد غير ممارسة التسول بعد أن هربت من مدينة القضارف واختارت الاستقرار بالعاصمة. وحينما سألتها عن سبب إحضارها لأطفالها الصغار، قالت ضاحكة “دي عِدة الشغل”، كاشفة عن أن متوسط دخلها اليومي يبلغ 80 جنيهاً، وفي أفضل حالته يصل إلى 150 جنيهاً، غير أنها شكت من رهق المهنة، ونصحتني بعدم التوجه نحو المساجد الكبيرة لأن الشرطة إذا ألقت عليّ القبض سيتم وضعي في السجن لمدة أسبوع وهذا أثار مخاوفي مجدداً.

الصيحة


‫2 تعليقات