حوارات ولقاءات

حكايات مأساوية لأبناء وضعوا الأمهات والآباء في دور الإيواء


أسرة معروفة ترفض هذا المسن.. وكرار طرد من مقابر (أحمد شرفي)
سائق (أمجاد) يضع والده أمام مدخل دار العجزة والمسنين ويهرب

تروي (الدار) حكايات (مأساوية) عن أبناء وضعوا الأمهات والآباء في دور الإيواء، وعندما وقفت عندها خرجت من دار إيواء (العجزة والمسنين) بقصص مؤثرة جداً تدور أحداثها حول أبناء تركوا الأمهات والآباء يعيشون وحيدين بعد أن افنوا زهرة شبابهم في خدمة فلذات الأكباد الذين لم يبادلونهم الوفاء بالوفاء، فهل جرب أحداً منكم أن يسيطر عليه هذا الإحساس بالوحدة لا أنيس سوي الظلام الذي يداعب أو تداعب وفقه الجدران ، ومع هذا وذلك هواجس لا تعرف معها ماذا يخفي لك الغد؟ ومن هنا يطل سؤال في ذهنك ما أن تقع عينيك في عينيهم، وهكذا لسان حالهم يقول ونظراتهم توحي بذلك رغماً عن أنهم لا يقولون ولا أحد يعلم إلى ماذا ينظرون، أو في ماذا يفكرون هل يعيدون ذكريات الصبا والشباب، أم أنهم عاتبين علي الأبناء والأهل الذين تخلوا عنهم لحظة أن احتاجوا لهم.
بينما لاحظت منذ الوهلة الأولي أن وجوهم تكتسي بحزن عميق، وأي حزن هو ذلك المصحوب بالشرود في عوالم الماضي الذي لعبوا فيه دوراً أساسياً، ولكن رغماً عن ذلك كله ماذا كان مصيرهم سوي أن يحلوا ضيوفاً دائمين على دور الإيواء بعد سنوات من أعمارهم مستسلمين للواقع الجديد، خاصة وأن حياتهم مليئة بالإثارة والأحداث والتفاصيل الغامضة وهذا الغموض لم تفلح الأيام والشهور والسنين أن تميط عنه اللثام، وهي أيضاً طبعت على صفحات حياتهم حزناً دفيناً، وإن كانت هنالك نظرة عطف وحنان تطل عفوياً، فالكثير منهم من أسر معروفة إلا أنها تلتزم الصمت، وهذا مرده إلي عوامل كثيرة متداخلة مع بعضها البعض، وأبرزها ابتعاد الناس عن الدين والانشغال بملذات الدنيا، مما أدي إلي تفكك أسري أظهر في المجتمع الأطفال مجهولي الأبوين، أولاد الشوارع والمتسولين.
اتضح أن إيداع العجزة والمسنين ظاهرة في تزايد مطرد، لذلك رأيت مواصلة فتح الملف الساخن وفق قصص، ومن ثم نشرح ونعالج.
وقال كرار علي عبد الغفار البالغ من العمر أكثرمن (70 ربيعاً)، والذي كان يعمل في مجال النجارة، متزوج من سيدتين، ولكن لم ينجب منهما، تزوجت الأولي عمري (20 عاماً)، إذ أنها كانت تصغرني بسنتين، ولم أكن ملتزماً في ذلك الوقت ما أدي إلي الاختلاف في وجهات النظر، وظللنا هكذا إلي أن طلقتها بعد عام من الزواج، ولم أقدم على الخطوة مرة ثانية، ومن ساعتها شددت الرحال إلي السعودية مغترباً (16 عاماً)، ثم عدت منها ثرياً، فطلب مني الأهل أن أتزوج إلا إنني لم تكن لدي رغبة، فما كان منهم إلا وأن أصروا علىّ إصراراً شديداً إلى أن رضخت لهم مشترطاً تزويجي من أحدي قريباتي الصغيرات، فلم يكن أمامهم بداً سوي الاستجابة لىّ، وكان أن احتفلنا بمراسم زفافنا، ثم ظلت في حبالي ست سنوات، إلا إنني لم أنجب منها لأنها كانت مريضة، وبالرغم من ذلك ذهبنا إلي الأطباء، وفي غمرة انشغالنا بالإنجاب أصبت بـ(الغضروف)، ولعلك تشاهد هذا الكرسي الذي يحلمني إلي أي مكان، الأمر الذي قادني إلي فقدان حصاد الغربة التي اشتريت منها (دفاراً)، إلا أن السواقين كان يأكلون المبالغ التي يتحصلون عليها من وراء الترحيلات، وهو الأمر الذي اضطرني إلي بيعه وشراء (ركشة)، وهي أيضا تكرر معها نفس السيناريو سالف الذكر.
ومضي : المهم أن حياتي تدهورت تدهوراً مريعاً وأصبحت معدماً، مما استدعاني اللجوء لإحدى الطرق الصوفية القريبة من مكان إقامتي في مدينة ام درمان، وكنت متنازعاً ما بين المنزل والمسيد إلي أن قررت البقاء مع حيران ذلك الشيخ المعروف، فما كان من زوجتي إلا أن تأتي إلى وتقول : (يجب أن ننفصل)، فقلت لها : وهو كذلك، وكان أن رميت عليها اليمين، ومنذ تلك اللحظة بقيت مقيماً في مسيد الشيخ الذي يأتي إليه في الأسبوع مرتين طوال الثلاث سنوات التي أمضيتها معهم إلى أن طردوني، ومن هناك توجهت مباشرة إلي مقابر (أحمد شرفي) في الركن الجنوبي الشرقي المقابل إلي استاد ود نوباوي، وبينهما تقع كافتيريا كانت تتولي إطعامنا بـ (السندوتشات) الفاخرة، وبعد مرور فترة زمنية طردت أيضاً من المقابر التي كان معي فيها ابن منطقتي، إذ قال لي جماعة إنهم لا يتحملون مسؤوليتي لأن المقابر في الليل تأوي اللصوص وغيرهم، وهو الأمر الذي أدخلني في حيرة شديدة، فلا أعرف إلي أين اذهب؟ فكنت أفكر في إيجاد الحل، وفي غمرة هذا التفكير جاء نحوي شاب يدعي (عبد المنعم) الذي شيد استراحة داخل المقابر، ويأتي إليها ما بين الفينة والأخرى من اجل النظافة وطلائها بالبوهية، عموماً في مرة من المرات سأل المشرف عن قصتي فقال له : (عمك هذا كان يقطن في مسيد الشيخ الأم درماني، ثم حضر إلينا إلا أنه طلبنا منه مغادرة المكان)، فما كان منه إلا وجاء نحوى وجلس أمامي بعد أن القي عليَّ التحية قائلاً : (ما هو رأيك في أن آخذك إلي دار العجزة والمسنين)؟ فقلت له لا مانع في ذلك شرطاً أن لا يسجنوني حيث إنني كنت وقتئذ أتحرك وأتاجر في أكياس البلاستيك التي كنت أبيعها في السوق وقد استدفت منها جداً.

جلس إليه : سراج النعيم