تحقيقات وتقارير

طبيب يبيع الماء في السوق الخريجون.. شهادات للزينة فقط


مضيف جوي يعمل سائق ركشة وخريج هندسة يمارس مهنة “العتالة”
مهندس معماري انهارت أحلامه فعمل كمسارياً

في طريقي إلى المنزل، وعلى متن العربة التي كانت تقلني، اشتد الجدل بين فتاة عشرينية مع الكمساري، حول تعريفة المواصلات، فاحتجت الفتاة على التعريفة بتبرير أنها طالبة ولا تدفع أكثر من نصف القيمة، بل ومضت أكثر من ذلك بمصطلحات استفزازية قائلة: “انت شنو عشان تتكلم معاي”، كان الكمساري حكيماً فحاول تجاوز الحديث معها في أكثر من موضع إلا أن غرور الفتاة أجبره للرد عليها بما تكتمه الصدور من ألم فقال: “لو تعلمين من أكون لما تكلمتِ حتى محطتك القادمة أنا خريج من جامعة الخرطوم بكلاريوس كلية الهندسة تخصص هندسة معمارية ولولا ظروف الحياة اللعينة التي أجبرتني على المضي في طرقات مختلفة لما تحدثتِ معي، حينها لاذت الفتاة بالصمت الذي عم المركبة إلى أن وصلنا وجهتنا.

مشاهد مؤلمة
تلك الواقعة كانا سبباً لأغوص في أزمة الخريجين الجامعيين الذين يعملون في مهن لا علاقة لها بتخصصهم الأكاديمي، وبدأت جولتي في البحث عن الخريجين الذين يملأون الطرقات في الأسواق عملاً في مهن توصف بالهامشية، من سوق الجمعة بالخرطوم، ووقفت عند محطة راشد جابر عبد النبي الذي رحب بي بأسلوب جميل جداً وأجاب على أسئلتي بكل شفافية فقال: أنا خريج جامعة دنقلا كلية الآداب تخرجت في عام2002م. وأشار محدثي إلى أنه التحق بالتدريس وعمل معلماً بالثانويات لمدة ثلاث سنوات ترك بعدها التدريس بسبب عدم تقييم المعلم مادياً، موضحاً أن التدريس رسالة دنيوية وأخروية، وأنه يجب أن يقدر المعلم في كل النواحي، وقال أنه غادر منبر المعلمين مجبراً على ذلك بسبب ظروف الحياة التي لا تتماشى وراتب المعلم مربي الأجيال، عملت بالتجارة مثل بيع الثياب النسائية، وأثناء عملي بها عرض علي العمل في سوداتل وغيرها ورفضتها لأن الدخل الذي أجنيه من التجارة لم أتحصل عليه وأنا مدرس ولو بعد مئة عام، وأضاف: أحمد الله أن التعليم أعطانا أسلوب جيد جدًا للمخاطبة وأكسبنا معارف وأي خريج يدخل السوق ينجح وقرأت كتباً عن المرأة ما ساعدني في التعامل معها، ولست الوحيد في هذا الحال وأذكر أن لي زميل مربٍّ وجدتة كمسارياً، ولم أصدق، ولكن باغتني بإجابة أزالت دهشتي وقال لي الظروف.

التكرار سيد الموقف أثناء تجوالي في السوق الشعبي بالخرطوم، وللحقيقة فقد ساعدني المواطنون وبالأخص المارة في البحث عن الخريجين الذين فقدوا الأمل في شهاداتهم العلمية، وارتضوا بالأعمال المبسطة، جلست إلى الجيلي محمد إبراهيم تاجر ملبوسات نسائية وخريج جامعة العلوم والتقانة كلية الحاسوب، تخرج عام2004م، وقال الجيلي والحسرة وشقيقها الألم حاضراً في حديثه، ومضى في القول واصفاً معركة الحياة فيما بعد التخرج بإشارته إلى أنه قدم أوراقه التي تثبت كفاءته العملية في مجالات عدة إلى عدد من الجهات الحكومية والخاصة، ولكن كان الفشل حليفي، فلم يتم قبولي في أي تقديم، حاولت أكثر من عشرين محاولة باءت بالفشل، وكل الفرص كانت عبارة عن سراب وقدمت في جميع المجالات، وبعد أن ضاق بي الحال قررت التقديم في مجال الخدمة العسكرية فكنت أعتقد بأنه الفرصة الوحيدة، ولكن أيضا باءت بالفشل، موضحاً بأنه وقرابة الخمس سنوات كان بين تصوير المستندات والمعاينات والسيرة الذاتية، ولكنه عاد ليؤكد عدم استسلامه ولا زال الأمل موجودا، وقال: استفدت من دراستي في فنون التعامل مع الجمهور في السوق الآن وكيفية التعامل مع الزبون فقط نجحت في هذا والحمد لله، على الرغم من أن المجتمع لا يرحم بذبحنا معنوياً بمصطلح “عطالة” بل والقول ” مثل قرايتكم كانت كوز موية وانكشح”.

سمحة الصدف
الصدف أحياناً تكون جميلة، تقود إلى لقاء أشخاص في الخاطر، فأثناء تجوالي في ردهات سوق الجمعة العامر خصوصاً عقب صلاة الجمعة، وجدت زميل الدراسة في محل، وهو محمد يوسف، خريج جامعة السودان كلية علوم اتصال عام، تخرج قبل ثلاثة أعوام، يعمل الآن تاجر أحذية، وأشار محدثي إلى أنه عمل مؤقت للكسب السريع وهو خير له من انتظار الهدايا الحكومية التي لا نعلم متى تحن على خريجيهًا، موضحاً أنه درس لكي يتعلم ويتحرك بحثاً عن العمل، فالبكاء على الشهادات المعلقة التي تملأ جدران المنازل لن يغني عن الظروف شيئاً، مؤكدًا بأنه لم يجلس في المنزل عبئاً على والده، ويقول: تكثر العطالة فى السودان لأن بعض الشباب يفضلون المكوث في المنزل أو العمل في مكاتب مكيفة على العمل في مهن هامشية، فما عدت أحلم بتلك المكاتب العامرة والفاخرة، بل يهمني فقط أن أتحصل على رزق اليوم الذي يوفر القوت اليومي فما عادت الشهادات العلمية تشفع. ألم بلا أمل أما في سوق ليبيا وجدت عبد القادر أحمد خريج جامعة الخرطوم كلية علم نفس عام2007، فعبد القادر الآن يعمل في تجارة الملبوسات، وحكى لنا بداية عمله بالتجارة أعقاب تخرجه مباشرة، مشيرًا الى أنه لم يتقدم إلى أي جهة عمل حكومية أو خاصة، مبرراً ذلك بالقول بأنه يعلم سلفاً نتائج المعاينات والتقديمات، وأوضح بأنه سبق أن تقدم للتدريب في إحدى المستشفيات وتم رفض طلبه، لذلك كان الأفضل أن أبحث عن مصلحتي وأختصر طريقي فأنا أعول اسرتي وزوجتي فلو كنت أعمل في مشفى حكومي لن أستطيع تشييد منزل، وأضاف: أصبح حال الشباب إما أن تهاجر إلى مصير مجهول أو تقبل الواقع بالعمل البسيط الذي يجلب لك الزرق الحلال من المال فالحلال، ولو كان بسيطاً فهو رحمة ونعمة ومتعة في نفس الوقت.

طبيب بائع ماء
وأثناء تجوالي في السوق الشعبي، داهمني الظمأ واتجهت صوب شاب يقف أمام جالون مياه يغري بالشراب، ولو لم تكن ظامئاً، سألته بعد أن تحسست علمه وتخيلت مستواه الأكاديمي فهو يقرأ في كتاب وهو على قارعة الطريق، فسألته أنت خريج وين؟ لأني وصلت لقناعة بأن غالبية الجوالة في السوق خريجون فقررت السؤال من على أمل أن أجد جواباً فضحك وقال أنا الذي أمامك اسمي محمد عمر الفكي خريج جامعة النيلين طب كلية طب أسنان عام2008 ولا يوجد مكان للعمل لم أقدم فية ولا معاينة، ولكن لم أستطع المضي في الكذب على نفسي أكثر وقررت ترك الأوهام وأعمل في أي عمل شريف، فاليوم أنا في أفضل حال والحمد لله، وما زال الأمل لم ينقطع. حكايات مدهشة أما إسراء حسن عوض التي تعمل في العمارات في محل أجهزة الإلكترونيات فقالت: أنا خريجة جامعة الزعيم الأزهري كلية القانون عام 2012، ظننت بعد التخرج أن هناك عملاً في انتظاري وأن حياة عملية كريمة سوف أحظى بها، ولكني عندما قدمت لدى بعض المحامين كانوا يوكلون لي قضايا كثيرة مقابل مبلغ زهيد، فضلت العمل في غير مجالي إذا كان فيه كسب مادي يكفي احتياجاتي فهذا هو المطلوب.

مضيف جوي سائق ركشة
أسعد إبراهيم وهو خريج جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا كلية طيران عام2013 ومضيف جوي قال بأنه يجيد الإنجليزية والفرنسية بطلاقة يعمل حالياً سائق ركشة، ولم ينس أصدقاءه الذين قال عنهم: منهم طيارون ومضيفون، وقال إن ما يتحصله من عائد مادي أفضل من مرتب الخطوط الجوية السودانية التى لا تتجاوز الألفين، وأضاف: درسنا وتعبنا وتمنينا ولكن للأسف لم نتقدم خطوة، وما زلت أقدم للوظائف دون جدوى، ولكن الحل الوحيد أعتقد أنه هو الهجرة لكي أكوّن أسرة.

في مصنع عطور
أما نسيبة أحمد التي درست في جامعة القرآن الكريم كلية محاسبة وتخرجت عام 2014 بدرجة ممتازة وبعد التخرج مباشرة عملت في مصنع للعطور، قالت بأنها تستيقظ منذ السادسة صباحاً ويبدأ دوامها في السابعة الى الرابعة عصراً، وشكت من ضعف مرتبها غير أنها أكدت بأنها مجبرة على ذلك، بعد أن انسدت أمامها الطرق، وقالت إنها لا زالت تبحث عن عمل وفي أي فرصة يتم عرضها عليها، وأضافت: ولكن لم يحالفني الحظ أو أني ليست لدي واسطة، فلست الوحيدة التي تعمل بالمصنع هناك المهندسات ودارسات الطب والمحاسبات كلهن خرجن بحثاً عن المال، وللأسف نتلقى معاملة سيئة جداً فلو لا الظروف لما عملن في مثل هذا المكان، وهذا الوضع الصعب. عتالي خريج محاسبة يقول ولاء الدين محمد أنه خريج جامعة النيلين كلية التجارة محاسبة مالية بكالريوس، يعمل حالياً في وظيفة حمال بمستشفى رويال كير وأضاف: الوظيفة لا تغطي حتى المصاريف اليومية ولدينا عمال أجانب يصرفون أكثر منا نحن أسياد البلد مع أننا نبذل نفس المجهود، وربما أكثر وطموحي أن أعمل في نفس مجالي وأحقق طموحاتي وأهدافي، وقد خضعت لمعاينات كثيرة في مجالي، ولكن ما زالت النتائج مجهولة للآن.

عتالي آخر
أما محمد أحمد علي محمدين خريج جامعة الخرطوم كلية الدراسات التقنية دبلوم خدمة اجتماعية، تخرج عام 2014 يعمل الآن (حمال) في مستشفى، ويقول أن طبيعة العمل هي مساعدة المرضى والاهتمام بهم وأن الأجر الذي يتحصله لا يكفي لتوفير أبسط احتياجات الحياة، وقال: حاولت كثيراً التقديم لعدد من الوظائف، ولكن لم تعرف نتيجة التقديم إلى الآن.

الخرطوم: إيمان جوادى
صحيفة الصيحة


تعليق واحد

  1. لقد ذهبت الي دول كثيرة .. وجدت نفس الشي بل هنالك في أوروبا وأمريكا من لهم شهادات البروفيسور ويعملون سائقين تكاسي ومثل هذه المهن التي نسميها نحن (هامشية ) .. ولم أسمع عن المهن الهامشية الي في السودان .. كل من يعمل هو خطوة إيجابية يمكن التقدم منها الي طريق النجاح بأي مهنة ويبقي التوفيق والنجاح من الله . ليست هنالك مهن هامشية ومهن غير هامشية بل هنالك مهن شريفة ومن غير شريفة . نسأل الله التوفيق والسداد