سياسية

الانفصال .. هل كان يحتاج لصفقة؟


– كشف سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأمريكي رئيس تيلرسون بموسكو عن موافقة الرئيس عمر البشير، على ما أسماها بالصفقة التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، تم بموجبها فصل جنوب السودان في يناير 2011، مقابل إيقاف ملاحقته من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
اذا أمعنا النظر وقمنا بفزلكة تاريخية بسيطة، نجد أن انفصال الجنوب كان حلم قديم يراود كل القادة الجنوبيين، في مقابل تمنُّع قادة الشمال الى أن
التقى د. علي الحاج مُمثّلاً لحكومة الإنقاذ في بواكير عمرها في العام 1992 بالدكتور لام أكول رئيس الفصيل المتّحد المنشقّ عن الحركة الشعبية، ووقّعا معاً على إعلان فرانكفورت، والذي وافق فيه علي الحاج بقبول تقرير المصير للجنوب وهي المرّة الأولى التي توافق فيها حكومة في الخرطوم على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
كان الوفدان الشمالي والجنوبي هما الوحيدان في غرفة التفاوض على مدى ثلاثة أيام.
اتفاقيات المصير
عقب ذلك جاءت الاتفاقيات التي وقّعتها أحزاب المعارضة الشمالية مع الحركة الشعبية تعترف فيها بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وبدأت بإعلان القاهرة بين الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يتزعمه محمد عثمان الميرغني والحركة الشعبية في يوليو 1994، ثم امتدت لاتفاقية شقدوم بين حزب الأمة والحركة الشعبية في ديسمبر عام 1994. تلي ذلك اتفاق الأمة والاتحادي الديمقراطي وقوات التحالف والحركة الشعبية في ديسمبر عام 1994. وهي التي تم إدراجها في مؤتمر أسمرا (مؤتمر القضايا المصيرية) والذي وافقتْ فيه كل أحزاب ومنظمات وأطراف المعارضة الشمالية على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان في يونيو عام 1995.
ولا ننسى أنه بعد المفاصلة الشهيرة للإسلاميين المعروفة بانشقاق الرابع من رمضان وقع حزب المؤتمر الشعبي على اتفاق جنيف مع الحركة الشعبية في 9 فبراير عام 2001م معترفاً بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
حتى ذلك التاريخ لم يكن هناك دور عملي وواضح لتدخل دولي في شأن انفصال الجنوب، الى أن جاءت اتفاقية نيفاشا والتي لعبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية دوراً بارزاً في الوصول لاتفاق بين الطرفين.
نهاية سلمية
الأستاذ عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج في إحدى كتاباته بصحيفة (الأحداث) -المتوقفة عن الصدور- أكد أن اندفاع الولايات المتحدة الأمريكية للتوسط لحل النزاع في السودان عبر آلية الإيقاد لم يكن سوى إنهاء هذا الصراع بصورة سلمية تمكن الحركة الشعبية من السيطرة على كامل الجنوب ، نتيجة لفشل الحركة الشعبية من حسم الصراع عبر البندقية، بالرغم من الدعم الإقليمي والدولي الذي توفر إليها لحسم المعركة بواسطة العنف المسلح، وأشار الى أن الولايات المتحدة الأمريكية من إسراعها في حسم الصراع عبر الحل السلمي، لفصل جنوب السودان ليكون دولة فاصلة للمصالح الأمريكية في المنطقة، وبغرض الاستحواذ على بترول الجنوب الذي يصل إنتاجه من النفط يومياً إلى حوالي 350 ألف برميل، وحرمان الصين والسودان من الانتفاع من هذا البترول، الذي تقول الولايات المتحدة الأمريكية أنها استكشفته، ولكن ابتعادها عن المنطقة في فترة الحرب الباردة، سمح لكونسرتيم الشركات الصينية والسودانية والكندية من استخراجه عام 1998 م، وبالتالي شكل البترول أحد العوامل التي أدت لظهور دولة جنوب السودان الوليدة نتيجة لتكالب الولايات المتحدة للسيطرة على أكبر حوض نفط في العالم، والذي يمتد من ولاية الوحدة مروراً بهجليج وأبيي ودارفور وبحيرة شاد وحقل حوض تاوديني في شمال مالي وصولاً إلى مستودع خام النفط في خليج غينيا.
محض إرادة
عاصم في كتاباته حاول إبعاد وجود أية علاقة لانفصال الجنوب بالقوى الخارجية، وأشار الى أن كل الموافقات التي تمت لتقرير المصير تمت بمحض إرادة كل القوى السياسية السودانية.
لقد جاءت اتفاقية السلام الشامل عبر ضغوط أمريكية لطرفي النزاع، وقد أشارت كل البرتوكولات التي وقعت قبل الاتفاقية، والتي تم تضمينها فيما بعد لمدى تأسيس هذه البرتوكولات في أحشائها لفصل جنوب السودان بالرغم من أن محتواها الظاهري يدعم وبشدة خيار الوحدة.
ترتيبات داخلية
الحكومة السودانية كانت مشغولة بكثير من الترتيبات الداخلية، وكانت تريد الانفتاح فقبلت باتفاقية السلام رغم علاتها، وكثير من المراقبين يشيرون الى أن الاتفاقية طبختها واشنطن بمعاونة حلفائها وقدمتها تحت ضغوط للطرفين للتوقيع عليها، قُصد منها فصل جنوب السودان لتحقيق مصالح الدولة القائدة للنظام العالمي الجديد للسيطرة والاستحواذ على نفط الجنوب، وإيجاد قاعدة انطلاق لإسقاط النظام القائم في السودان الذي يتبنى قيم الهوية الإسلامية العربية، التي تتعارض مع قيم الولايات المتحدة الأمريكية، وبالطبع إسرائيل.
التزام بالعهود
عقب توقيع الحكومة لاتفاقية نيفاشا، والتي اعتمدت تقرير المصير، أكد الرئيس عمر البشير وكل مسؤولي الحكومة مراراً وتكراراً احترامهم للاتفاقية، وإنفاذ بنودها بما فيها نتيجة الاستفتاء على تقرير المصير، بل واهتمت الحكومة بالجنوب وأنشأت صندوق دعم الوحدة، والذي نفذ كثير من المشاريع التنموية في الجنوب، ولقد سعت الحكومة كثيراً للوحدة ولكن النخب الجنوبية هي التي ساقت شعب الجنوب نحو صناديق الاقتراع والتصويت لانفصال الجنوب.
ملامح واضحة
حينما أصدرت المحكمة الجنائية مذكرة الاتهام ضد الرئيس البشير في العام 2009، كانت ملامح الوحدة او الانفصال مع الجنوب واضحة، فأصبحت نغمة الانفصال هي الأعلى ترديداً وسط الجنوبيين، مما يعني أن الحديث عن صفقة بعدم مثول الرئيس البشير أمام الجنائية مقابل عدم عرقلة انفصال الجنوب حديث او صفقة ليس لها معنى، لأن الرئيس البشير أصلاً كان ملتزماً بالاتفاقية وخيار الانفصال إن وقع، ولم يتردد البشير يوماً ما منذ التوقيع على الاتفاقية في التأكيد على الالتزام بها وإنفاذ مخرجاتها ، بل وصرح بأن شعب الجنوب إن اختار الانفصال فالسودان أول دولة سترحب به وهو ما حصل.
تشكيل في المواقف
رغم كل ذلك، هل التزمت الولايات المتحدة بعد انفصال الجنوب بعدم الحديث عن ملاحقة الرئيس البشير عبر الجنائية؟ الإجابة بلا شك تؤكد أن واشنطن سعت لانفصال الجنوب، وكانت تتشكك من مواقف الخرطوم، لذا اتخذت أسهل الطرق إليها وهي موسكو لإيصال رسالة تلك الصفقة.
هناك مؤشر مهم جداً لعب دوراً بارزاً في مساندة الغرب وأمريكا خاصة لدعم انفصال الجنوب، وهو مناوئة حكومة الخرطوم للدول الغربية وأمريكا والوقوف في مواجهتها وتحديها، وهو ما يعد عاملاً أساسياً لتلك الدول، لفصل الجنوب، وحرمان السودان من النفط الذي كان يدر لخزينة الدولة مليارات الدولارات شهرياً.
صراع كبار
كل السيناريو الذي تم في موسكو بين وزير خارجية أمريكا ونظيره الروسي لا يخرج عن الصراع بين واشنطن وموسكو لاكتساب أكبر مساحة لإجراء مناورات اقتصادية عليها.
فالزج بالسودان في المؤتمر الصحافي للرجلين، جاء استشهاداً للأدوار التي لعبتها واشنطن تجاه كثير من الدول التي تشهد اضطرابات حالية، ولكنها لا تخلو من رسائل أرادت موسكو إرسالها في بريد واشنطن، خاصة وأن الأولى ربما استشعرت التقارب الذي بدأ ينمو بين الخرطوم وواشنطن، فأرادت أن تشوش بإطلاق تلك البالونة وتذكر الخرطوم بالأدوار(القذرة) التي كانت تقوم بها واشنطن.
من خذل من؟
أمريكا بلا شك رغم كل الدور الكبير والدعم الذي قدمته لانفصال الجنوب، تقف هذه الأيام لتتفرج على الفرقاء الجنوبيين وهم يتقاتلون، وتضربهم المجاعة عاجزة عن تقديم أية مبادرة لحقن الدماء، لا عجز ولكن ربما لأنها لم تكن تعتقد أن المكونات القبلية والمؤسسات في الجنوب لم تكن ناضجة.
انفصال الجنوب لم يكن يحتاج لصفقة بين إدارة أوباما والبشير بوساطة روسية، لأن الجنوبيين هم من كان لهم الخيار وصوتوا للانفصال بنسبة وصلت
الـ 99% ولم يخذلوا أمريكا، لكنها هي التي خذلتهم.

الانتباهة


‫2 تعليقات