تحقيقات وتقارير

صندوق دعم الطلاب .. بعيداً عن الشفافية.. على حافة الفساد


قبل أيام قليلة، انفضَّ سامر الاحتفال باليوبيل الفضي للصندوق القومي لرعاية الطلاب. الاحتفال في حدِّ ذاته جاء مُوحياً بطريقة مباشرة، بأن صندوق رعاية الطلاب مؤسسة اقتصادية ضخمة، تجري بين أيديها أموالٌ طائلة، ويكفي أن الاحتفال شهد مباراة لأكبر فريقي كرة قدم بالبلاد، المريخ والهلال، وأموال الصندوق وثراؤه هذا ظل ينمو ويتعاظم في مناطق رمادية، إن لم تكن مظلمة حالكة السواد، لا يراها الناس، إلا لماماً، عندما تصبح رائحة الفساد والتجاوزات نفاذة، وتُهرَّب المستندات للمراجع العام والنيابات لأغراض عامة وخاصة، كما جرى في عام 2013، المهم، احتفال الصندوق بيوبيله، وما جرى فيه، مثَّل مناسبة جيدة لنا، لنُلقي الحجر في البركة الساكنة، لنحكي القصة، ونفتح السيرة، سيرة صندوق يتحصل أموالاً من طلاب تُقدَّر أعدادهم بمئات الآلاف، ويتاجر في إعاشتهم وسكنهم وكسوتهم، بل وبات يُضارب في السوق ويستثمر في العقارات والفنادق، سنعود إلى البداية، يوم تكوين الصندوق، ثم كيف كانت المسيرة، وإلى أين انتهى كل شيء.

معالجة أزمة
سنعود للوراء كثيراً، إلى بداية ثورة التعليم العالي (90-1991)، وقرار تجفيف وتصفية السكن والإعاشة من الجامعات، وفي مقدمتها جامعة الخرطوم، وأم درمان الإسلامية، والقاهرة فرع الخرطوم (النيلين) والجزيرة، ومعهد الكليات التكنولوجية (جامعة السودان)، القرار اتخذ من كوكبة ثورة التعليم العالي ومُنظِّريها، وتولَّى إعلانه وزير التعليم العالي إبراهيم أحمد عمر. المفارقة أن طلاب الإتجاه الإسلامي كانوا أول المُعترضين على القرار، لجهة أنه سيؤثر على وجود ومستقبل الاتجاه الإسلامي في الجامعات – على حد قولهم؛ وبالفعل وبمجرد إعلانه سادت حالة من التوتر في الجامعات، وخرجت المظاهرات وقاطع طلاب الدراسة والامتحانات، وكان على طلاب الاتجاه الإسلامي الدفاع عن قرار تجفيف السكن والإعاشة، متأبِّطين هراواتهم وسيخهم، مكرهين لا أبطال، ولما تصاعدت الأحداث، طالب أمناء الاتجاه الإسلامي في الجامعات بلقاء مع القيادة في حضور الوزير إبراهيم أحمد عمر، اللقاء كان عاصفاً، الطلاب وبالذات علي عبد الفتاح كان رأيه أن القرار قاسٍ ومُتعجِّل، ولم يخضع للدراسة، وأن هنالك طلاباً فقراء ومعدمين، لا حيلة لهم. إبراهيم أحمد عمر كان شديد التمسك بالقرار، ومنطقه “أنها الثورة”، الأصوات تعالت، كل تمسك بما لديه، إبراهيم أحمد عمر -على طريقته- يكرر “دي ثورة” ويخرج غاضباً من الاجتماع، العراب حسن الترابي يتدخل لإنهاء الخلاف، ويقترح منطقة وسطى بين إبراهيم والطلاب، بعد أيام تتخلق فكرة صندوق، يدعم الطلاب، أو الفقراء منهم. وفق معايير إبراهيم أحمد عمر والمنظرين للثورة التعليمية رأوا في الأمر ردة؛ أما طلاب الاتجاه الإسلامي في الجامعات، فقد تلقفوا الفكرة وتبنوها ورعوها ثم استخدموها في مرات كثيرة لصالحهم – وهذا ما سنفصله لاحقاً بالشواهد. طُلِبَ من نائب الرئيس وقتها الزبير محمد صالح، رعاية صندوق الطلاب، حينما لم يرقْ لوزير التعليم ففعل، لذا ظل صندوق دعم الطلاب أو رعايتهم، برعاية رئاسة الجمهورية ومؤخراً تحت رعاية رئيس الجمهورية شخصياً.

أصول بوضع اليد
صندوق دعم الطلاب، الذي تبدل اسمه في ما بعد إلى صندوق رعاية الطلاب، يصبح أمراً واقعاً، بدعم من الدولة وأجهزتها الاقتصادية والإعلامية، وبرعاية مباشرة من قطاع الطلاب والشباب، في تنظيم الإسلاميين الحاكم -ووقتها الطلاب والشباب عصبة مهمة في التنظيم والدولة رأيها مستأنس مسموع- ثم يؤكد الشهود أن الصندوق وضع يده على كُلِّ الأصول في الجامعات، من داخليات وكافتريات في الداخليات، واستثمارات تدعم الداخليات في السابق، وطفق يتصرف في كل ما هو ملك للجامعات، دون أن يحتاج إلى توفيق الوضع، وبعدها توسع، في خطط استثمارية، وأخذ يرعى الطلاب بعد أن يلزمهم بتسديد رسوم هذه الرعاية – سنعود لذلك بالتفصيل – ويؤجر لهم داخليات الجامعات القديمة مرات وداخليات بناها بالقروض البنكية مرات أخرى، غير أن المهم في الأمر ما نجم عن وضع يد الصندوق على أصول الجامعات.

فائض عمالة
جامعة مثل جامعة الخرطوم، تملك داخليات ومطابع ودور نشر ومزارع وعقارات، أسهمت بقدر كبير في استقرارها الأكاديمي وريادتها في الماضي البعيد، وما ينطبق على جامعة الخرطوم يكاد ينطبق على أغلب الجامعات التي كانت قائمة قبل اندلاع ثورة التعليم ومن ثم صندوق دعم الطلاب، والذي بقيامه تبدَّل كُلُّ شيء، ولم تعد الجامعات تملك من أمر أصولها شيئاً يُذكر، وراح الدعم على منشآت الجامعات يذهب جله للصندوق بحجة أنه يدير أمر سكن وإعاشة الطلاب، أحد الخبراء الشهود والذي فضل حجب اسمه قال: “الأمر لم يخلُ من نزاع في أول الأمر، جامعة مثل جامعة الخرطوم، كانت تدير أمرها عبر نظام دقيق، تقبل الطلاب في داخليات تعرف سعتها، ولها إرث قديم في تقديم الخدمات للطلاب فيها، والاستثمار في مباني الداخليات من مقاصف وغيرها كانت ضمن ميزانيات الجامعات”، غير أن هنالك وجهاً آخر لم يلتفت إليه أحد، وهو وجود الموظفين في عمادات الجامعات، الذين كان صميم عملهم، رعاية الطلاب في الجامعة، وقضاء حوائجهم في الداخليات، هؤلاء بات جلهم بلا أعباء تقريباً، ولم يسألهم أحد عن خبرتهم في إدارة شؤون الطلاب، ولعل الأمين دفع الله – وكان يشغل منصب رئيس أمناء جامعة الخرطوم – عندما قال “هنالك فائض عمالة في الجامعة”؛ كان يعني الموظفين في عمادة الجامعة، على كل حال وجدت إدارات الجامعات نفسها في وضع مرتبك، طلابها لا يجدون مكاناً شاغراً في داخلياتها، لأن طالباً من جامعة أخرى تم تسكينه فيها، والطلاب يصبُّون غضبهم على الإدارات، والصندوق مضى لا يلوي على شيء

النقرابي باقٍ ما بقي الصندوق
في المقدمة، أعلى هذه التحقيق، أشرنا إلى أن صندوق لم يعد ينتبه إليه أحد، ويُدار شأنه في منطقة منخفضة الإضاءة، قليلة الشفافية، وعند تأسيسه في 1991 اختارت له الثورة، عثمان عبد العاطي أميناً عاما، ثم تعاقب عليه الأمناء، ولكن في عام 2001، وعُيِّنَ محمد عبد الله النقرابي أميناً عاماً له، ومن وقتها والنقرابي ظل في المنصب، لستة عشر عاماً ونيف، وطويل الجرح يُغري بالتناسي، وطويل البقاء في المناصب يُغري بكُلِّ شيء، وبالعودة للاحتفال باليوبيل، أي بخمسة وعشرين عاماً من عمر الصندوق، سنجد السنوات التي لم يكن فيها النقرابي مديراً له لا تتعدى الثماني سنوات، والرجل ظل شديد الالتصاق بالصندوق، ويؤكد في كُلِّ محفل أن الأمور على أحسن ما يكون، وعندما تقول له الصندوق ذراع سياسية للنظام الحاكم، يقول لك: “التهمة قديمة ولا يُوجد دليل”، وحينما تسأل عن ميزانيات الصندوق وموارده ستكون إجابته “من استثمارات الصندوق وموارده، ومن الخيِّرين في المجتمع” دون تفاصيل.

مقتل طالب.. استغلال طالبات
قبل أن ندخل في التفاصيل، سنقدم بين يديكم واقعة، أو بالأحرى واقعتين، وسرد الواقعتين يؤكد في المقام الأول قرب الإسلاميين من صندوق رعاية الطلاب إن لم يكن سيطرتهم عليه بالكامل، وهذه التهمة التي ظل ينفيها بروفيسور النقرابي، ربما تبدو للبعض جنحة خفيفة، ولكن في الواقع هذه الجنحة تناسلت منها مصائب كبيرة، وصلت حد إزهاق الأرواح، وأودت بآخرين إلى غياهب السجون.
الواقعة الأولى، واقعة مشهورة، وقعت في نهاية 1998 ولا تزال مُقيَّدة في مضابط الشرطة ضد مجهول، كان ضحيتها الطالب محمد عبد السلام، وبدأت المشكلة باحتجاج طلاب على عدم توفر سكن لهم، وكان رأيهم أنهم مُنِعُوا السكن لأسباب تتعلق بمواقفهم السياسية، على الأقل عدد كبير منهم، وتوافقوا على السكن عنوة رغم أنف الصندوق، وبالفعل، هجم هؤلاء على الغرف، ووضعوا متاعهم، ثم توجهوا إلى مخزن في حرم الداخلية، وأخرجوا عدداً من المراتب ليستخدموها، الصندوق وقف ليمنعهم، واستعان بالحرس الجامعي بالداخليات وكذلك استعان بطلاب من تنظيم الإسلاميين، يمثلون السلطة الحاكمة ويُعرفون بالإسلاميين الوطنيين، الاشتباكات تصاعدت بين فريقين من الطلاب، غاضبين على الصندوق وسياسات السكن والإعاشة وطلاب مؤيدين له تساندهم جهات رسمية، وفي وقت متأخر من ذلك اليوم قُتِلَ الطالب محمد عبد السلام، وتفجَّر الوضع بمواجهات بالسيخ والحجارة، إلى أن صدر قرار بإغلاق الجامعة.

الواقعة الثانية ليست مشهورة بالقدر الكافي، ولكن وقفنا عليها في خضم بحثنا عن سيرة الصندوق وعلاقته المُلتبسة بطلاب، وقال أحد شهود العيان: “علاقتي بالصندوق بدأت مع جمعية رعاية الطالبة الجامعية”، وهي جمعية بحسب الراوي، ابتكرها عددٌ من الإسلاميين المهتمين بقطاع الطلاب، بفلسفة أن عدد الطالبات أكبر من الطلاب، ويسهل استمالتهن، فكان من المهم الاستفادة منهن، أو قطع الطريق أمام التنظيمات الأخرى لاستمالتهن على الأقل، بجانب مشاعر نبيلة في أنهن أكثر حاجة، وقد يتعرضن للانحراف بسببها في بعض المرات، المهم انطلقت جمعية رعاية الطالبة الجامعية، في ظل “نقنقة” من إدارة صندوق دعم الطلاب، غير أن رعاية الزبير بشير طه لها – مدير جامعة الخرطوم وقتها – مثل لها حماية كافية، أسندت إدارتها إلى عدد من طلاب المؤتمر الوطني، بعضهم خريجون ويعاونهم طلاب، مهمتها استقطاب دعم من خيرين ومؤسسات خيرية، لصالح طالبات فقيرات ومحتاجات، في شكل دعم مادي مباشر، عبر لجان من طالبات في الجامعات المختلفة. الجمعية نجحت وأثمرت، أمينها العام الطالب بكلية الطب أحمد خير، وله علاقة جيدة مع البروف الزبير بشير، والجمعية حققت نجاحاً باهراً، وعدد الطالبات في زيادة، ولم تواجهها أي مشكلات تُذكر، غير أن الحال لم يدوم، وفي موعد انتخابات طلابية، طلب “التنظيم في الجامعات” من إدارة جمعية الطالبة كشفاً بأسماء الطالبات المكفولات المُستفيدات من الجمعية، حتى يُستفاد من أصواتهن في الانتخابات، إدارة الجمعية اجتمعت، ورفضت الأمر جملة وتفصيلاً، وبحماس الطلاب ونزاهتهم، عدوا الأمر استغلالاً بشعاً لطالبات فقيرات. المسؤولون عن التنظيم في الجامعات مثَّل لهم موقف إدارة الجمعية صفعة وخروجاً عن الطاعة يستوجب التأديب، دون مقدمات، تم تعيين (ع) نائبة لأحمد خير، وبعد فترة قليلة، طُلِبَ من أحمد ومن معه التنحي، وتولَّى الأمر شخصٌ جديدٌ وإدارة جديدة، والجديد كان يوحي بأنه صاحب رتبة في جهاز الأمن الشعبي. الإدارة الجديدة، كان رأيها استثمار أموال الخيرين قبل منحها للمحتاجات، بفقه مضاعفة الأموال ومضاعفة الخير، استثمروا في تربية العجول وغيرها، بعضهم اتهم بالاختلاس، وأُدين ودخل السجن، أصول الجمعية، آلت لصندوق دعم الطلاب ومن وقتها لم يسأل عنها أحد، ولا كيف آلت للصندوق، وأين هي كشوفات الطالبات المكفولات.
ونواصل

الخرطوم: شوقي عبد العظيم
صحيفة الجريدة


تعليق واحد

  1. يعني استثمار في الطلاب و( بهم) حتى الطُلاب الفقراء؟ حسبي الله ونعم ااوكيل