تحقيقات وتقارير

الوزير حميدة يقر بفشل التجربة السابقة توطين العلاج بالداخل.. خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء


أبوقردة: رغم أخطاء التجربة لكن لابد من تطبيقها

سليمان صالح فضيل: الالتزام بالمعايير العالمية مرتكز أساسي

المؤتمر الوطني بالخرطوم:150 مليون دولار ضاعت

وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع مضيفة تعمل بطائرة سودانية متجهة إلى القاهرة، أشارت إلى أن أكثر من 60% من الذين يغادرون العاصمة الخرطوم صوب الجارة مصر يبحثون عن الاستشفاء الذي استعصى عليهم في دولة عرفت الطب قبل أكثر من مائة عام، وتوجد بها مايفوق الـ30 من كليات الطب، ومثلما طالب الرئيس البشير قبل ثلاث سنوات بتوطين العلاج بالداخل، عاد مجدداً لتجديد هذا الطلب عند افتتاحه مستشفى الراجحي بمحلية أم بدة بأم درمان، بل ذهب بعيداً حينما أشار الى أنهم يريدون حضور الألمان الى السودان للعلاج عوضًا عن سفر السودان للدول الأوربية بحثاً عن الشفاء.

مصر والأردن ودول أخرى
في رحلتي إلى القاهرة علمت من المضيفة أن عدد الرحلات التي تتوجه يومياً إلى العاصمة المصرية تتجاوز العشر منها أربع رحلات على متن طائرات شركات سودانية، وإذا افترضنا أن بكل رحلة ستين مريضاً فقط، فإن هذا يعني سفر 600 مواطن يوميًا إلى القاهرة عبر الجو للعلاج، أما عبر البر فإن عدد البصات السياحية التي تغادر مدينة وادي حلفا يومياً عبر معبر قسطل اشكيت تتراوح ما بين الستة إلى العشرة، وأيضاً إذا افترضنا أن بكل بص عشرة مرضى فقط، فإن العدد ربما يصل الى مائة مريض، ليكون العدد المرجح توجهه يومياً نحو القاهرة للعلاج في حدود سبعمائة مريض، وهو رقم تقديري قابل للزيادة وليس النقصان، وإذا حمل أي مريض ألف دولار فقط لتعينه على العلاج بالعاصمة المصرية فإن مخزون البلاد من العملات الحرة يشهد يومياً نزيف 700 ألف دولار، وفي ذات العاصمة وقفت على حقيقة وجود أعداد كبيرة من المرضى السودانيين وذلك من خلال تجوالي مرافقاً لمريضتين، فكل العيادات والمستشفيات التي توجهنا إليها كانت تعج بالمرضى السودانيين، وقد بدأ الأمر لافتاً، بل إن اختصاصي عظام معروفاً بوسط القاهرة اشتهر بأنه طبيب السودانيين وحينما ذهبت إلى عيادته أيقنت من صدقية وسمه بطبيب السودانيين، بل وجدت لوحة تحوي أبياتاً من الشعر نظمها مريض سوداني تعافى على يد الاختصاصي، وليست مصر فقط التي يقصدها المرضى السودانيون، وإذا كانت العاصمة الأردنية عمان وجهة مفضلة لميسوري الحال من المرضى السودانيين، فإن دولاً أخرى دخلت على الخط وباتت جاذبة أيضاً ومنها الهند وألمانيا وانجلترا وباكستان.

الأسباب تتباين
في عيادة اختصاصي باطنية بوسط القاهرة ذهبت إليها أيضًا بحثاً عن الشفاء التقيت عددا مقدراً من السودانيين لا تجمعني بهم سابق معرفة أو علاقة بخلاف الانتماء لأرض النيلين ، فكان محور حديثنا حول صعوبات العلاج بالداخل، فسألتهم عن أسباب اختيار العلاج خارج السودان، فتعددت الأراء، غير أن شاباً من مدينة ود مدني كان مرافقاً والده كان متحمساً للحديث أشار إلى أن الأطباء في السودان متميزون وأصحاب كفاءة أكدتها تجاربهم بدول الخليج وأوربا، غير أنه أجمل أسباب البحث عن العلاج بالخارج في خمسة اعتبرها مؤثرة ورئيسية، وقال: نعم الأطباء السودانيون أصحاب كفاءة عالية خاصة أولئك الذين تخرجوا قبل ثورة التعليم العالي، وقبل أن تصبح دراسة الطب تجارة لمن يمتلك المال، ولكن في تقديري أن أسباب طرق المرضى السودانيين أبواب العلاج بالخارج الأزمة المستفحلة في التحاليل الطبية التي دائماً ما تأتي غير صحيحة ويدفع على أثرها المرضى الفاتورة غالية من أرواحهم وصحتهم ومالهم، والمعامل في السودان وأجهزة التحليل الأخرى مثل المناظير والأشعة وغيرها خاصة في المستشفيات الحكومية تمثل أس البلاء الذي عجزت عنه الجهات المسؤولة في الصحة في معالجته، أما المستشفيات الخاصة فأسعارها تبدو خيالية ولا علاقة لها بالأسعار هنا في القاهرة، لذا فنحن نختار البحث عن العلاج في العواصم العربية .

التعامل الإنساني يجذب
أما محمد التوم الذي قال إنه جاء إلى القاهرة بحثًا عن العلاج بعد أن استعصى عليه في ولايته نهر النيل وبالعاصمة الخرطوم ويؤكد أنه تماثل للشفاء بعد أن تم تشخيص علاجه في وقت قياسي من قبل الأطباء المصريين عكس نظرائهم في السودان، وقال إن أبرز الأسباب التي جعلت المرضى يفضلون السفر خارج السودان للعلاج منها التعامل الإنساني الذي يحظون به في الدول الخارجية ويفتقدونه في السودان، وأضاف: الأطباء في السودان يتعاملون بفوقية وجفاء، ومعظم الاختصاصيين يتحدثون مع المريض في عياداتهم باختصار ويريدون منه فقط التوجه أولاً نحو معمل يحددونه لإجراء التحاليل وكأن في الأمر اتفاقاً وحينما يعود بالنتيجة يحررون روشتة الدواء، وكأنهم مجبرون حيث تكسو وجوههم “تكشيرة” ،وقال إنه في القاهرة وجد أطباء إنسانيين بمعنى الكلمة، لذا يؤكد مستقبلاً إن أصابه “صداع” فقط سيتوجه صوب القاهرة .

تجربة ولكن
هنا في السودان فإن الحكومة ظلت ترفع شعار توطين العلاج بالداخل ولم تكتف بذلك، بل ضخت أموالاً مقدرة في سبيل تحقيق هذا الهدف، ومن ضمن هذه المشاريع التي عملت على إنزالها على أرض الواقع تخصيصها مبلغ مائة وخمسين مليون دولار قبل سنوات لشراء أجهزة طبية حديثة، إلا أن غباراً كثيفاً دار حولها، حينما أكد أطباء ومختصون أن بعضاً من الأجهزة التي تم استيرادها كانت مستعملة، ورغم مضي سنوات على هذا المشروع، إلا أن القطاع الصحي العام شهد مزيدًا من التدهور فيما باتت المستشفيات الخاصة جاذبة للمرضى رغم تكاليفها التي يصفها الكثير من المرضى بالباهظة.

الوعد الرئاسي يتكرر
جدية الدولة في توطين العلاج تبدو واضحة من خلال اهتمام الرئيس بهذا الأمر، فقبل حديثه بأم بدة حول ذات الأمر فإنه سبق أن أطلق تأكيداً على توطين العلاج بالداخل قبل ثلاث سنوات وتحديداً عند افتتاحه لمستشفى مروي الضخم والفخم والذي وللمفارقة ورغم تكلفة تشييده العالية البالغة سبعين مليون دولار، فإنه لم يعمل لسنوات وما يزال مرضى الولاية الشمالية يمارسون رحلة الرهق والمعاناة بالحضور إلى العاصمة بحثاً عن العلاج.

فشل ذريع
لماذا فشلت مشاريع الدولة الرامية إلى توطين العلاج بالداخل ؟ سؤال أجاب عليه الكثيرون، فيما ظلت الحكومة تؤكد أنه لم يفشل، ولكن وعند افتتاح مستشفى الراجحي بأم بدة فإن وزير الصحة بولاية الخرطوم البروفسير مأمون حميدة اعترف بحقيقة فشل توطين العلاج بالداخل، وذلك حينما اعتبرها بعثرة لميزانية الوزارة، ونوه إلى أن المعينات الطبية في وقت سابق كانت تُوزع دون رؤية، وأكد أنه بعد أيلولة المستشفيات الاتحادية للخرطوم شهدت الولاية تحسناً كبيراً ونظاماً صحياً متكاملاً ورؤية واضحة، وشدد على أن الألفية المستدامة للتنمية جاءت لعدالة توزيع الخدمات الصحية، وقال إن وزارته تسعى للانتصار للفقراء.

اعتراف آخر
وإذا كان وزير الصحة بولاية الخرطوم البروفسير مأمون حميدة قد أقر بفشل تجربة توطين العلاج التي وجهت نحوها الدولة مائة وخمسين مليون دولار، فإن المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم ذهب في هذا الاتجاه ولكن قبل حميدة وذلك حينما رأى أمين أمانة الفكر والثقافة بابكر عبد السلام أن الأموال التي وجهت ناحية هذا المشروع إذا تم صرف جزء منها على الرعاية الصحية الأولية لبلغت الصحة شأناً، وضرب مثلاً بدولة كوبا التى قال إنها فاقت الولايات المتحدة في البرامج الصحية. إذن فإن معطيات الواقع ومشاهدات مسؤولين في الحكومة، فإن مشروع توطين العلاج بالداخل في القطاع الحكومي أثبت فشله ، ويتجدد السؤال لماذا فشل، وهل يمكن أن يصيب النجاح مجدداً بعد أن أطلقه رئيس الجمهورية مرة أخرى بأم بدة وما هي الاشتراطات اللازمة لحدوث هذا، أم إن الفشل سيتكرر؟

افتقاد الجودة
تباينت آراء الاختصاصيين والأطباء الذين طرحنا عليهم الأسئلة السابقة، وفي هذا تختصر أخصائية نساء وتوليد بمسشتفى حكومي بالخرطوم “فضلت حجب اسمها ” سبب الفشل في كلمة «الجودة»، موضحة أن المجال الصحي يفتقد الجودة في تقديم الخدمة الطبية المتميزة، فالمريض يحتاج إلى الاهتمام والرعاية دون العلاج، ففي الخارج يجد العناية والرعاية من المطار إلى أن يعود بالسلامة، وقالت: على الرغم من التوسع في المؤسسات الصحية الخاصة، لكن للأسف هناك قلة قليلة من تلك المؤسسات تمتاز بالجودة وتقديم الخدمة الطبية المتميزة، مؤكدة أن المشكلة ليست دواء أو كوادر طبية، فالطبيب السوداني من الأطباء المميزين في بقية دول العالم، وحتى تكلفة العلاج في الداخل ليست لها علاقة بالسفر للخارج، في ظل امتلاك المريض مقدرة تسديد تكاليف السفر، ففي السودان لدينا اختصاصيون من صفوة اختصاصي العالم، فالمشكلة الأساسية تكمن في عدم الجودة.

الدولة ورفع اليد
ولم تنف ذلك طبيبة فضلت حجب اسمها تعمل بأحد المستشفيات الخاصة، حيث ألقت باللائمة على الدولة وقصورها في أداء دورها نحو المواطن، مؤكدة أن الدولة قد رفعت يدها تماماً عن العلاج تاركة المواطن يتحمل عبء العلاج لوحده، وأشارت إلى عزوف الدولة عن تعيين الأطباء وعدم الاهتمام بالتدريب، بجانب عدم الاستفادة من الكوادر الطبية ذات الخبرة الواسعة وأحالتهم إلى المعاش في سن مبكر، مؤكدة أن كل ذلك أدى إلى تفاقم المشكلة. ولكنها رجعت واتهمت الأطباء أنفسهم بممارسة التجارة عبر المهنة، مستنكرة ارتفاع قيمة الكشف بعيادات الاختصاصيين، غير أنها لم تقطع بحقيقة انخفاض تكلفة العلاج بالخارج.

معالجة الأسباب
أما وزير الصحة بحر إدريس ابوقردة فقد أشار في تصريحات صحفية إلى ضرورة زيادة الأموال المخصصة للصحة في ميزانية الدولة، ورأى أنه بينما تتزايد أعداد الراغبين في دراسة الطب، إلا أن وزارة الصحة غير جاذبة ويتهرب الجميع من العمل فيها، لأنها ليست مهمة وليست ذات أولوية لدى الدولة، وتعهد بمعالجة الأخطاء التي صاحبت تجربة توطين العلاج بالداخل، مبيناً أنه لا مفر من مواصلة العمل لتوطين العلاج عبر تأهيل المستشفيات وتشجيع القطاع الخاص للاستثمار.

اشتراطات قاسية
استشاري الباطنية والجهاز الهضمي سليمان صالح فضيل قال في ندوة توطين العلاج بالداخل التي قامت بها جمعية الاختصاصيين، إن سمعة الطبيب السوداني ما زالت طيبة وتجد الإشادة خارجياً خاصة في مجال أمراض وجراحة الجهاز الهضمي، مشيراً إلى حالات مرضية زائرة من دول مجاورة وجدت العلاج في السودان ولم تجده في الأردن، وقال فضيل إن مشكلة العلاج بالخارج يتسبب فيها الأطباء الجدد، لأن أعدادهم كبيرة مع عدم توفر الإمكانات التعليمية والأساتذة والتعريب وتوقف البعثات، كذلك للأطباء القدامى دور بعدم مواكبتهم وظروفهم المالية الصعبة، وعدم تحويلهم للحالات المستعصية إلى تخصصات أخرى، ما سماه «الكنكشة»، إضافة لهجرة التخصصات الدقيقة، وقال فضيل إن الدولة تساهم أيضاً في المشكلة بالضرائب والعوائد وعدم دفع المرتبات ومنافسة القطاع الخاص والسياسات المتقلبة والمطالبة ببنوك الدم في المستشفيات الخاصة. وعن دور المواطن في المشكلة قال إن البعض يؤمن إيماناً قاطعاً بالعلاج على يد الطبيب الأجنبي، ويعتبر كل الأطباء السودانيين سواء، ولا يطالب بحقوقه في الداخل والخارج، واقترح فضيل على الدولة تقوية التأمين الصحي والالتزام بالرعاية الأولية وتشجيع الاستثمار الطبي، والتعاقد مع القطاع الخاص في التخصصات النادرة، وعلى القطاع الخاص تكوين نقابة فعالة، وعدم محاكاة المراكز الطبية القديمة، والاستثمار في تخصصات مختلفة مع الالتزام الصارم بالمعايير العالمية في شراء الأجهزة وتعيين الكوادر.

القاهرة – الخرطوم: صديق رمضان
صحيفة الصيحة


تعليق واحد

  1. ترسل مصر بعض الحملات العلاجية إلى السودان أحيانا
    لماذا لا تتعاون وزارة الصحة في السودان مع وزارة الصحة في مصر ..وتبادل معها الخبرات لمصلحة الشعبين