ثقافة وفنون

رحلة عراقية عكس النيل في السودان


تعد الكاتبة فائزة العزي من الإعلاميات العراقيات المعروفات، اللواتي مارسن الصحافة بمختلف أشكالها، إلى أن اختارت أن تكون مذيعة تلفزيونية، فعملت في عدة قنوات فضائية، منها قناة “الشروق” السودانية. عملها هذا كان سبباً في تقديمها لرواية “إبحار عكس النيل”، من خلال معايشتها للأسر السودانية، التي فتحت لها أبوابها، مثلما فتح لها الأهالي ذاكرتهم.

حاورت الكاتبة عددا من الأسر السودانية وأفرادها، بشكل تلقائي ومقرّب، أشبه بحوار الأخت مع أخيها والبنت مع أمها وأبيها، فخرجت بحصيلة ثرية من الحكايات الخاصة، غير المعروفة أو المطروقة سابقا، عن مواقفهم الإنسانية والسياسية والكثير من تفاصيل حياة السودانيين الخفيّة؛ حيث استمعت إلى ما قالوه عن تاريخ السودان، لا سيما المخفي منه، وتعرفت إلى عاداتهم وطقوسهم ورؤاهم المختلفة.

في معرض الحكايات التي التقطتها الكاتبة قصة حب بين شمال السودان وجنوبه، من خلال شخصيتين رمزيتين تم توظيفهما روائيا في رواية العزي “إبحار عكس النيل”، ليمثلا خيط الحنين الممتد من البداية حتى النهاية في تصوير إيحائي مبهر لرحلة الجنوب وحكايا الأساطير الأفريقية، أوردتهما الروائية بتسلسل درامي تتصاعد أحداثه لتقودنا في النهاية إلى حقيقة أن الانفصال قد يكون سهلا في دهاليز السياسة، لكن الذاكرة تبقى محتفظة بأوصال الود بين الناس بأي شكل من الأشكال.

وهذا ما نلمسه من خلال سرد حكاية فتاة جنوبية هي لوشيّا التي ولدت وتربت وتعلمت في الشمال ثم وجدت نفسها مواجهة بسؤال الانفصال، ووجوب العيش في وطن جديد هو دولة الجنوب، لكن وطنها الحقيقي كان الجذور والذكريات. حكاية لوشيّا هي حكاية مأساة الوحدة، وغيابها في النيل هو غياب يحتمل أكثر من قراءة وأكثر من تأويل.
فتاة يأخذها الحب البعيد وتغيب في النهر

ما هي الهواجس الإنسانية التي تعتري المواطنين في السودان بسبب التغيير؟ وكيف كان شعورهم حين تركوا هويتهم وراحوا يبحثون عن هوية جديدة مجهولة؟ ما مستقبل العلاقات الإنسانية التي تميز الشعب السوداني؟ هذه الأسئلة تجيب عنها الكاتبة فائزة العزي من خلال قصة الحب التي شكّلتها كثيمة إنسانية، عميقة المعنى وحافلة بالرموز والدلالات.

يمكننا من خلال تتبع مسار الأحداث والشخصيات أن نقر بأن العزي كتبت روايتها بعينين ثاقبتين: سودانية وعراقية. فأبحرت عكس النيل، لتقدم عملاً جميلا، مثقلا بالإيماءات للأماكن، وللأزمنة، وعلاقة الكاتبة بها، ومواقفها من التسلسل الزمني للوقائع. ويتضح لنا أن العزي اعتمدت في نسج روايتها على البناء السيكولوجي، فأنجبت رواية معاصرة، تتحدث عن جذور سودانية، عميقة المنبت هيمن في سردها ضمير المتكلم بدلا من ضمير الغائب، وسعت الكاتبة إلى اعتماد لغة إيحائية تصويرية بعيدة عن اللغة التقريرية والمباشرة المألوفة في الروايات الكلاسيكية.

“إبحار عكس النيل” رواية يغلب عليها الطابع الذاتي، كونها تمثل صورة عاشت الكاتبة شخصيا ظروفها وملامحها. بطلتها شخصية محورية ذات كثافة سيكولوجية، تستقطب جميع مظاهر الصراع حولها سواء أكان صراعاً داخلياً أم خارجياً، وبالتالي تعد مفتاحاً أساسياً لتحديد المضامين النفسية في الرواية وكشف أيديولوجيا النص، بالوقوف على مقومات هذه الشخصية وسبر أغوارها، وصولاً إلى سماتها وأفكارها وانفعالاتها.

وقد تمكنت العزي من الكشف عن كل ما يمت بصلة إلى الجانب الباطني لهذه الشخصية وهو ما سعت إليه بدقة بالغة لم تخل من الانسيابية. إضافة إلى الأسلوب السيكولوجي قدمت الكاتبة نصها بلغة رشيقة، حيث الكلمات في سردها الروائي علامات حية، تعبر عن أكثر من معنى، وتمس أكثر من دلالة، بكل تلقائيتها.

تطرح الرواية الكثير من الأسئلة التي لا يبدو أنها تنتظر إجابات، تطلقها لتكون حوافز للبحث والتنقيب والنبش والمناقشة. كما تستذكر الكثير من الطرائف التي وقعت بين دفتي سطورها، خاصة تلك التي كانت الكاتبة شاهدة عليها، كما تذكّر بالكثير من العادات والأعراف والطقوس الرائجة في السودان وأبطالها المشاركين فيها. هنا يظهر اشتراك الكاتبة في السرد حتى أنها تذكر أموراً لا يود أبطال الرواية تذكّرها، فكان السرد عبارة عن فيض صور من ذاكرتها.

في كل مشهد من مشاهد الرواية نجد أنفسنا أمام كاتب سوداني وليس كاتبة عراقية مهما تعمقت صلاتها بالسودانيين ومهما بلغت معرفتها بهم، حيث جاءت مليئة بالوثائق وبالأقوال والإفادات ما جعل النص يصلح لأن يكون بحثا في قضية العلاقة التاريخية بين شمال السودان وجنوبه.

يمكننا أن نخلص إلى أن الرواية دليل حي على أن سيرة الكاتب هي خزان آلامه، ومصدر إلهامه، أما فكرة الرواية وشخوصها ذاتها، فهي مصدر تنفيس لا غير.

العرب- زيد الحلي [نُشر في 2017/04/24، العدد: 10612، ص(14)]