تحقيقات وتقارير

متجر السلع الفاسدة..اللجوء إلى الموت خوفاً من الجوع


اضبط.. مصانع عشوائية وسط الأحياء العريقة بالخرطوم
طبيب : حالات التسمم الغذائي ارتفعت بشكل متسارع وهذه هي الأسباب !!

(700) طن حجم الأغذية الفاسدة التي ضبطت خلال العام الحالي
حماية المستهلك : ضعف تطبيق القوانين وسع دائرة التلاعب بالطعام

منذ أسبوع دلفت بمعية زميلتي إلى إحدى البقالات التي تقع بالقرب من إحدى المستشفيات بأمدرمان لشراء عبوة (تانج) لأحد المرضى بالمستشفى، استوقفني الغبار الذي غطى العبوة فعمدت على قراءة مدة انتهاء الصلاحية ، المفاجاة التي ألجمتني وكانت بمثابة الصدمة حينما وجدت أن العبوة انتهت فترة صلاحيتها منذ شهرين ، والصدمة الأكبر أن صاحب البقالة كان يعلم بأن كل العبوات منتهية الصلاحية ولم يقم بتنبيه المستهلك أو إبادتها، والواضح أنه كان يسعى للتخلص من البضاعة بسرعة متجاهلاً أنه قد يتسبب في القتل العمد لكل من يشترى منه (التانج) ـ وليت الأمر توقف على هذا الحد فقد أخبرنا بأنها لا تؤذي وهناك عدد كبير من المرضى ورفقائهم يشترون منه كما توجد فترة إضافية شهر ونصف الشهر مصرح بها بأمر السلطات الصحية بعد انتهاء تاريخ الصلاحية المكتوب على العبوات حسبما قال ويعتقد.

سلع منتهية الصلاحية
واتضح، من خلال حديثي مع صاحب البقالة، أن المواطن لا يهتم بصلاحية السلعة وكل ما يهمه أن يمتلكها بسعر متدنٍّ ، وأن عدداً كبيراً من المحال تزخر بمثل هذا النوع من السلع في ظل وجود تجار يستوردون بضائع قاربت على فترة صلاحيته على النفاد ، ومن ثم يقومون بنزع ديباجة المصنع الحقيقية وطباعة ديباجات جديدة بها أسماء وهمية ومزيفة وينشأ لها تاريخ صلاحية جديد .

تركت العبوة في مكانها وتوجهت الى (بقالة) أخرى بذات (الصف). لم أتخيل بأن هناك سلعاً فاسدة تباع بالقرب من المستشفيات الحكومية ويتناولها المرضى وغيرهم من المواطنين، ولكن بمجرد ما وطئت أقدامي (البقالة) البديلة، شهدت نقاشاً حاداً دائراً بين صاحب المحل وأحد المواطنين الذي اشترى (عبوات من التونة) في اليوم السابق وتسببت لطفله ذي السنوات العشر في حالة تسمم ولولا العناية الإلهية لراح الطفل ضحية (التونة المسمومة) .

أرفف السموم
ظللت أتابع محاولة التاجر وإصراره على الإنكار وأن بضاعته جديدة ومن المستحيل أن يتاجر في سلع منتهية الصلاحية ، فأخرج المواطن هاتفه وأراد الاتصال بالشرطة غير أن تدخل الأجاويد كان سريعاً واستطاعوا معالجة المسألة وإنهاء المشاجرة وتهدئة الموقف فأعاد العبوات العشر إلى الأرفف ، وتسلم المواطن واسمه (احمد السيد) مهندس معماري وأستاذ جامعي المال الذي دفعه وقبل مغادرته موقع الحدث الذي غص بـ(المشاهدين) عرفته بنفسي، فأخبرني بأن التجار يسعون للربح دون مراعاة للضمير والخوف من الله ، وكل المواد الغذائية بالمحلات التجارية تفتقر لحملات الرقابة. وأردف : هناك مصانع تبيع للمواطن السموم وحمٍّل المسؤولية للمواطن نفسه لأنه يشتري الموت مقابل السعر (الرخيص) غير أنه عاد ليشير الى أن المسألة بحاجة الى تكثيف الحملات وردع مثل هؤلاء التجار الذين (يأكلون الأموال بالباطل) .

غضب واستياء
حالة الغضب التي أصابت (أحمد) تنتاب قطاعاً واسعاً من المواطنين الذين لفتوا إلى أن الأمر لا يتوقف على تلك (المحال) فالسلع الفاسدة منتشرة في كل أسواق العاصمة ، وفي كل مساحات مواقف المواصلات وهي تعرف بأسواق (قدر ظروفك) كناية عن شراء أكبر كمية من السلع بسعر زهيد ، يقصدها بعض المواطنين لأنهم بذلك التصرف يحصلون على احتياجاتهم المنزلية بأقل الأسعار .. واتضح من خلال زيارتي لسوق أم درمان كنموذج أن السلع معروضة تحت أشعة الشمس في شكل أكوام وهي متنوعة ومشكلة (معلبات وتونة وحلويات ومربات) وغيرها الكثير. وفي بعض الأحيان لا توجد ديباجة تشير إلى نوع المنتج أو مكوناته أو حتى اسم الجهة المصنعة ويعمل على بيعها تجار وباعة جائلون. الغريب في الأمر أن هذه السلع تجد رواجاً وهناك قوة شرائية كبيرة جداً. كما لحظت أن كل المواطنين الذين يقصدون السوق يستوقفهم المشهد ليسألوا عن الأسعار دون الاهتمام بمسألة الجودة أو الصلاحية. للوهلة الأولى وتحت تأثير مشهد التزاحم على هذه السلع، انتابني أحساس بأن هناك (مجاعة قادمة وحالة جوع) متفشية وسط المواطنين لدرجة أنني فكرت في اقتناء بعض السلع من (ابو الرخيص) مثلهم ، وبرؤيتي لأحد هذه التجمعات وسط مدخل السوق انتظمتُ ضمن المتزاحمين بقصد الشراء وباستفساري عن ميزة ما يباع في ذلك الموقع أجابتني واحدة من النساء اسمها (عواطف يوسف) وهي موظفة في إحدى شركات التأمين فرع أمدرمان، بأن أسعار ذلك المحل في ما يتعلق بالمواد الغذائية أقل تكلفة من نظيراتها في المحال الكبرى أو محال (السيوبرماركت) ولكن بمقارنتي ببعض السلع التي أعرف أسعارها أدركت أن الأمر سيان وأن المعروض هنا وهناك واحد مع اختلاف طرق العرض وحفظ السلعة مما يخلق انطباعاً بأن الأخيرة تبيع بأسعار أعلى. ويبدو من خلال إفادة المواطن (أمير)- طالب جامعي- أن المواطنين يلجئون لشراء السلع من هذه المحال فقيرة العرض لأن الظروف المعيشية التي تحيط بهم صعبة وهم يعتقدون أنها أقل تكلفة من المحال عالية التجهيز وأساليب العرض. وأضاف أن كثيرأً من الأفراد لا يهتمون حتى بمراجعة تاريخ الصلاحية قبل شراء المنتج، وواصل “برغم الحملات التي تنفذها المحليات ما زالت السلع منتهية الصلاحية منتشرة في الأسواق وهناك من يبيعها علناً والبعض الآخر يخفيها وسط البضائع داخل الدكاكين والمحال التجارية”.

الحذر واجب
على النقيض من تلك الحالات،هناك مواطنون يخشون على صحتهم وصحة أبنائهم، منهم المواطن (ياسر زين العابدين)- مشرف تربوي – كعادته قبل شراء أيما سلعة يتأكد من وجود تاريخ الصلاحية قبل أن يقرر الشراء وفي كثير من الأحيان يعثر على سلع منتهية الصلاحية ومجهولة المنشأ فيقوم بتنبيه صاحب المحل. ويقول إن القليل من التجار يستجيب له والبعض الآخر ينظر إليه بعين ساخطة ويتبعها بمقولة (لو داير شيلها ولو ما عجبتك بتعجب غيرك ) ، وفي رواية له قال إنه قبل فترة ذهب لشراء( زبادي ) ففوجيء بأن صلاحيته منتهية منذ أسبوع، وعندما أخبر البائع انتهره وطلب منه مغادرة المحل من المحل. لم يكن أحمد وحده الذي يدعو إلى ضرورة التأكد من صلاحية السلع فقد انضم إلى صوته المواطنون (ريا كمال ـ وأماني رجب ـ وعثمان رحمة الله ) مطالبين بفرض الرقابة وإفراغ الأسواق من كل ما يضر بصحة المواطن ويتسبب في تفشي أمراض فتاكة للمحافظة على صحة الإنسان مع إنزال أقصى العقوبات على الذين يتلاعبون في ديباجات المنتج. فيما أكد مصدر صحي مسؤول بإحدى المحليات- فضل حجب اسمه- لـ(الصيحة ) وجود عدد ضخم من المصانع العشوائية وسط الأحياء العريقة بولاية الخرطوم (مناطق بأم درمان وبحري ) تعمل على إستخدام مواد فاسدة وسامه في بعض الصناعات الغذائية ، كما يوجد مصنع مشهور في مدينة بحري يستخدم (اللبن المجفف) منتهي الصلاحية بسبب التخزين لفترات طويلة في صناعة الحلويات التي تصدر إلى المحال التجارية ويتناولها المواطن.

حديث الأرقام
خلال الربع الأول من العام الحالي، أسفرت حملات الأجهزة الأمنية وحماية المستهلك عن تدوين (19) بلاغاً وضبط أكثر من (700) طن من الأطعمة والمواد منتهية الصلاحية والفاسدة ، وحوالي (232) ألف كرتونة صلصة فاسدة بمصنع ببحري وتمت إبادتها ومحاكمة صاحب المصنع بغرامة (100) ألف جنيه والسجن ستة شهور ، كما ضبطت المباحث المركزية ( 317) جوال ذرة و(2385) لتر زيت غير مطابقة للمواصفات و(5204) صفائح جبنة بالإضافة لـ(54091) جوال مكرونة و(1735) صابون سائل ومشروبات. وكما أبيد عدد كبير من كراتين البسكويت والحلويات والسمسم ، وكان مدير الإدارة العامة للمباحث والتحقيقات الجنائية اللواء حسين نافع محمود قد أعلن، في تصريحات سابقة ، أن العام الحالي سيكون عاماً لحماية المستهلك. كما نوهت هيئة المواصفات والمقاييس إلى أن الرقم (5960) خصص لتلقي الشكاوى والبلاغات. ودعت الهيئة المواطن الى المشاركة في حماية نفسه وحماية غيره .

محاربة التهريب
دكتور نصر الدين شلقامي، رئيس الجمعية السودانية لحماية المستهلك، يرى أن انتشار المواد الغذائية والسلع منتهية الصلاحية بالأسواق و محال(السوبر ماركت )، يعود لعدم الرقابة وسهولة التهريب فهناك تجار متخصصون في استيراد سلع( قاب قوسين) أو أدني من انتهاء صلاحيتها ، وآخرون يقومون بتوزيعها وإرسالها للولايات الطرفية ، الى جانب جهل بعض التجار بثقافة صلاحية المادة الغذائية خصوصاً وأن بعضهم لا يجيد القراءة ، من ثم فإن دورهم في الجمعية يشمل توعية المستهلك وحماية مصالحه والدفاع عن حقوقه والقيام بالاختبارات اللازمة للتأكد من أمان السلع ومطابقتها للمواصفات ومراقبة جودة السلع وتزويد المستهلك بالمعلومات وإرشاده لكيفية اختيار طعامه مع مراقبة التعليب والتعبئة والأوزان والممارسات غير المسئولة. كما تمد الجمعية يد العون للأجهزة المختصة للدولة كي تقضي على أساليب الغش والخداع والتضليل وتكون بمثابة الذراع الشعبي للدوائر الحكومية ذات العلاقة. وتبعا لذلك فقد ضبطت الجمعية الكثير من السلع الفاسدة مكتوبة بلغات غير متداولة بالسودان. واتفق د. شلقامي مع المواطنين على مطالبة جهات الاختصاص الحكومية باتخاذ إجراءات قانونية وقضائية وفرض عقوبات على كل من يتم ضبط مواد غذائية منتهية الصلاحية بحوزتة وإيقاع أقصى العقوبات عليه وتغريمه تكاليف الإبادة .

قانون جديد
فيما ذهب دكتور المنصوري عز الدين منصور، مدير الإدارة القانونية للجمعية سابقة الذكر، إلى أن كل القوانين المعمول بها حالياً لمكافحة الأغذية والسلع منتهية الصلاحية من ناحية العقوبات ضعيفة وهزيلة ولا تتناسب والجرم المرتكب على المستهلك ، وبعيدة كل البعد عما ورد في المادة (3) الفقرة واحد من قانون الرقابة على الأغذية والتي نصت على أن أي طعام مغشوش هو طعام أريد به القتل أو محاولة القتل وذلك بإضافة مادة تؤثر على نوعيته ، بالتالي يجب على هيئة المواصفات أن توضح للمواطن مدى سمية الطعام الفاسد وأضراره على الصحة ، وقال: دور الإدارة ينحصر في معرفة مطابقة الأغذية للمواصفات وتحويل البلاغات والشكاوى إلى نيابة حماية المستهلك وفي المحكمة تحضر الإدارة كشاهد قبول فقط وذلك لعدم وجود قانون إطاري لحماية المستهلك ، مع الإشارة إلى أن الإدارة ظلت تطالب الجهات المسؤولة بسن قوانين رادعة ولم تترك جهة إلا وذهبت إليها للمساهمة في الأمر، ومؤخراً استجابت ولاية الخرطوم حيث أصدرت قانوناً لتنظيم الأسواق ولكن عقوباته هزيلة وضعيفة، والآن يوجد بمنضدة المجلس الوطني مشروع قانون سلامة الأغذية ورقابتها قدمته الجمعية منذ زمن طويل لكنه لم يبارح مكانه مع النظر إلى أنه يحتوي على عقوبات حقيقية ورادعة ، ولفت إلى أن عدم تطبيق ما نص به القانون الإطاري فيما يتعلق بالعلامات التجارية فتح الباب واسعا للتلاعب في الأغذية ، وأشار إلى الرقم ( 8044) لتلقي شكاوى المواطنين للجمعية.

سرطان سريع
لا شك أن للمواد الفاسدة آثار صحية مزمنة، هذا ما أفادت به دكتوره نعمات عباس إدريس، استشاري الباطنية بمستشفى أم درمان التعليمي، وذكرت أن جميع المواد الحافظة قد تؤدى إلى بعض أنواع الحساسيات أما عن الأغذية منتهية الصلاحية فأضرارها سريعة وآنية وهذه تظهر فور تناول المواد وأبرزها الإسهالات المعوية وإلتهابات المعدة والتسمم ، وبعضها تؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي خصوصاً لمصابي الأزمة والربو ، ويمكن أن يتسبب التناول المستمر لأطعمة الشوارع والأسواق في الإصابة بأمراض سرطانية وفشل كلوي في المستقبل القريب خاصة وسط فئة الأطفال لضعف البنيات الجسدية ، لذلك يجب محاربة ظاهرة التناول العشوائي للأغذية وعلى الإنسان أن لا يغامر بصحته حتى ولو كان مضطراً ، كما يجب على الجهات المسؤولة تكثيف جرعات التوعية واستغلال كافة المنابر وتبسيط لغة الخطاب.

تحقيق : إنتصار فضل الله
صحيفة الصيحة