الصادق الرزيقي

يااااااه ..أين هم في ضجيج الحياة..؟


(أ)
لكأن الزمن الأعمى يسقُط في هاوية النسيان، تنسال مُزع لحمه كما الريش يلوثها التراب والرماد ..!
وكأن الذين يعيشون زماننا هذا.. جاءوا على مراكب الضباب.. وعلى متن السراب الكثيف الخدوع ..!

تتسرب من بين أيدينا سنوات العمر، والموت كتاب والناس في ضجيج الحياة لا ينتبهون، لقمر يغيب ونجم يتوارى وشفق يحمّر، والريح الصفراء المجنونة تدمدم في الآفاق وصفيرها الغسقي الحاد يغطي وجه الدنيا.. و«غِربان تتجمع بأغصان الزقوم»، كما يقول عالم عباس..
ليت الساعة حينئذ تقف في مداراتها، تعاند لبرهة ولو قليلة.. نمط أو ناموس الدوران.. لكنها لم ولن تقف.. تدع آنية الزمن الوارف كالأشجار، تتكسر فوق رخام الغياب..
لا نعلم كيف أناخ الليل المظلم ركائبه، وغطتنا سدوله وأستاره، وتحولت الحياة إلى جمر وبريق كاذب.. وكأن كل ملامح الوطن والصادقين تحولت إلى ذرات صغيرة اختفت في خلايا الشهوات، وضاعت في شرايين الرغائب..
لا شيء يرابط خلف الأحلام الجميلة.. إلا الأيام الجميلة ..!
فلماذ تذهب معنا هذه الوجوه إلى كل مكان.. وزمان؟..

(ب)
قبل بضع وعشرين سنة، في منحى السنوات الثمانين من القرن الماضي، ونحن في شرخ الصبا الباكر، قدمنا في بطن بص )أوستن( قديم، من أقصى فجاج الغرب من نيالا، إلى الخرطوم، في أول مهمة تنظيمية في صفوف الحركة الإسلامية، شق بنا البص طرقات الخرطوم إلى أم درمان، تم توزيعنا على بعض بيوت الإخوان المقتدرين في ذلك الزمان الذي كان فيه أهل اليسر والسعة من الإسلاميين يعدون على أصابع اليد، قبل أن يتنافسوا الدنيا كما تنافسوها..
في مدينة الثورة تم توزيع البعض منا لنكون في مقر إقامتنا المحدد لنا، في بيت رجل عجيب.. كأنه تدلى من سقف سماء مضيئة وتاريخ بعيد.. لا تجمعنا به ونحن القادمون من الأقاصي النائية، آصرة أو وشيجة، سوى الإخاء في الله، كان بمثابة أب.. هادئ الملامح، مشرق الوجه، قليل الكلام، كثير التبسم، خفيض الصوت،لا تسمع عنده لغو حديث، ولا جهير حديث، تحس وكأنك أمام رجل يجسد بصدق طاغٍ معاني الدين بوهج التديُّن الغائر في سمته وشمائله وخِلالِه.. كريمٌ منفق تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناها للقبض لم تطعه أنامله..!
أقمنا معه في منزله ونحن نرقب حركاته وسكناته وهو ينشط بيننا من صلاة الفجر في المسجد إلى أن نفرغ من قيام الليل حين يفارقنا لينام ونحن ثلة في بيته الفسيح، تخلَّق بالقرآن الكريم.. يدلق لطائف الكلم والتعابير يجيد الإنصات والاستماع، لا يُشعرك بأنك ضيفه ولا هو أعرف في الدين والدنيا منك، بالرغم من أننا كنا أصغر من أبنائه..

رسم لنا في تلك الأيام القصيرات المترعات صور المسلم الحق العامل من أجل الدعوة والفكرة بعطائه الكثير وصبره ومثابرته ومعرفته الدقيقة بالحركة الإسلامية آنئذ ودورها وواقعها ومجاهداتها وصلابة رجالها وتاريخها..
ومن تلك الأيام القصيرات النضرات، عرفنا المرحوم سليم علي أحمد، رجلاً سمحاً كريماً وركنا من أركان الدعوة. فقد كان من كبار رجال الأعمال، خاض غمار الحياة ووهبه الله معرفة بالتجارة، أنفق من ماله وعمره مع إخوته حتى اخضرت النبتة وصارت شجرة وارفة أصلها ثابت وفرعها في السماء..
لم يتغير حتى مماته انتقل من مدينة الثورة بأم درمان وجلائل أعماله وبره وإحسانه للناس لم يتغير، ولم تزل صورته حية نابضة في دواخلنا.. تهزأ من الزمن الأعمى الذي نعيشه اليوم..

(ت)
في مدينة ود مدني، في حي بسيط ومنزل أكثر بساطة ورقة حال، في حارة طرفية في مكي قريبة من النهر، عرفنا قبل عقدين وأكثر، (عم بخيت) والد صديقنا وزميلنا في الدراسة (معاوية بخيت)، رجل عصامي مكافح، عامل بسيط للغاية، لكنه شهاب لامع كثيف الضوء، عليٌ بإيمانه وتدينه وثقافته الإسلامية التي اكتسبها من جهده ومثابرته وقدراته الذاتية، وانتمائه المبكر للدعوة الإسلامية.. دقيق البنية والملامح، أطلق لحية بيضاء كأنها من خيوط الشعاع، عيناه برَّاقتان لامعتان تشعان بصفاء لا ينتهي، لا تفارقه ابتسامته كأنه وُلد مبتسماً ضحوكاً، لا يغضب ولا يثور ولا يتضجر من شيء، كريم لا يلتفت إلى شيء ولو لم تكن له في كفه غير روحه، لجاد بها للعالمين والمحتاجين..

جمع هذا الرجل فهماً عميقاً في الدين وإلماماً بالفقه، وحذاقة في دقيق المسائل الدينية والدنيوية وخبرة بالحياة، تجعل من حديثه وأنسه ذا قيمة معرفية لا تبارى، يحدث في شؤون الفقه والسيرة والتفسير، ويبرع في الغوص عندما يقترف من بحر التاريخ وخاصة تاريخ الحركة الإسلامية ونشأتها ورموزها، وتاريخ المجتمع السوداني بمكنوناته المختلفة وأشعاره ودوبيته وملاحم الفروسية والشجاعة، وله باع في معرفة أشراف القصائد في المديح النبوي وطبقات المتصوفة والشيوخ وقبابهم..

تنسرب عبارته بأسلوب مدهش في الحديث بسيط وعميق وسهل، تندلق كلماته بسخريته الدافقة المحببة كأنها درر وحبات من عقيق..
لا يملك من الدنيا إلا رضى النفس العزيزة وحب الناس له، ونجابة أبناء وبنات هم كل كنزه ورصيده في الحياة..
هذا الأنموذج من الناس، أين هو بين من وجدوا الدابة مسرجة فامتطوها بلا كسب ولا سبق ولا صدق؟..

(ث)
في مدينة نيالا في حي الوادي، في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، لم يكن هناك من سمع بالحركة الإسلامية أي حركة الإخوان المسلمين، لكن هذا الرجل بذر مع آخرين قلائل مضوا عن هذه الفانية، بذرة الدعوة في بواكير عمره وزمان شدته، وخاض درب الحياة العصي، في نيالا وكل مدن دارفور، مبشراً بهذه الفكرة ومشيداً لصروحها، قبل أن تستقبل المدينة خريجي الأزهر من أمثال مولانا المغفورعبدالحميد ضو البيت، الذي حمل معه فكرة الإخوان المسلمين من مصر..
لو قدر لإنسان أن يكون في رباط وجهاد مستمرلا ينقطع، وبإخلاص نادر، ويفني كل عمره في ما يؤمن به، لوضع عمنا عثمان الهضيبي في مقدمة هؤلاء الناس. رجل هادئ الملامح والطباع، عميق الصوت والنبرة، أرسى دعائم الدعوة الإسلامية بهدوء وصبر غريب، تحمَّل في سبيل ذلك كل الشدائد، عمل في عدة مجالات، ثم تفرغ لأعماله الخاصة والدعوة..

عرفناه ونحن في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات في المعسكرات التنظيمية والدعوية، كانت له محاضرة ثابتة عن تاريخ الحركة الإسلامية، وله أسلوب خاص عندما يحكي لنا في محاضرته عن حسن البناء وتاريخه حتى استشهاده، وعبدالقادر عودة وسيد قطب، وكل تاريخ الإسلاميين في مصر والسودان والعالم العربي. ولقب بـ(الهضيبي) لأنه تولى مسؤولية التنظيم وإمارته في تلك الفترة المبكرة متزامناً مع تولي الإمام حسن الهضيبي في مصر قيادة الحركة.. كان له حديث مشوِّق وجاذب وروح فيَّاضة بالود والحنو على الجميع. تربى أبناءه على تقوى الله والانتماء للحركة الإسلامية، لم يُعرف عنه إلا الصبر والمنافحة والإخلاص والإيمان العميق وعلمه الغزير في علوم الدين والقرآن الكريم والفقه.. أكثر من خمسة وستين عاماً وتزيد قضاها هذا الرجل النادر ولا يزال وهو مرابط في عرينه منافح عن فكرته وهن منه العظم وضعف البصر، لكن بصيرته الحية الوقَّادة لم تزل مشتعلة ومضيئة لا تخبو نارها ولا تخفت.. هل يا ترى هناك من يتذكره ويراه في ضجيج الحياة اليوم؟..

(ج)
في مدينة كوستي في النصف الأول من الثمانينيات، عرفنا عثمان حسن آدم «زينة»، أحد أهم معالم وملامح الحركة الإسلامية في النيل الأبيض، وركن شديد من أركانها..
قدم من نواحي تمبول واستقر في تندلتي أولاً ثم استقر كوستي في زمن باكر، واشتغل بالتجارة، وكان مِن أعمدة الدعوة الإسلامية مع عبدالسلام مبارك الحبوب وعلي عبدالقيوم في النيل الابيض وخاصة كوستي، كان له محل للملبوسات والأقمشة في بدايات عمله بالتجارة في قلب سوق كوستي، اشتهر باسم زينة ومن هنا التصق به لقب(عثمان زينة)، ثم تحول إلى صيدلية..

عرف عن هذا الرجل الفذ، إخلاصه وصفاء روحه المطلق وصدق نواياه، والبِشر المتدفق من وجهه، كان له قلب كالشهد وفي بياض اللبن، لم يجده الناس إلا مستبشراً مبتسماً.. له دقائق ولطائف وخواطر في آيات القرآن الكريم، كان قلبه وبيته وخزائنه ومحلاته، كما قال د. خالد التجاني، مفتوحة للناس جميعاً، وله دور بارز في تطوير العمل التنظيمي، ولعب أخطر الأدوار في فترة الجبهة الوطنية وخروج الإسلاميين والأنصار إلى معسكرات التدريب في ليبيا وإثيوبيا..

أينما وجد يوجد الفقه والتلاوة وبركات القرآن والدعوة.. كانت حياته خالصة لله وكانت خاتمتها في رمضان وهو صائم بشارة خيرات وبركات صعدت بها روحه الطاهرة إلى عليين..
يضيء في فجوات العمر وجه عثمان (زينة)، وكثير من إخوته يلوذون بذكراه، فهو من أهل الله يحسبه أقرانه وأترابه وأبناؤه الآن في زمرة الصالحين والصادقين..

(ح)
في القضارف.. يشع ضوء من قلب رجل لم يصبه الوهن ولم تفتر قواه في سبيل الدعوة الإسلامية. الشيخ عبدالله أحمد الهادي، أبرز وجوه الحركة الإسلامية في القضارف.. من قرية (كندوت) التي تقع جنوب غرب مدينة القضارف. أتى هذا الرجل من بيت علم وقرآن، انضم باكراً في خمسينيات القرن الماضي لحركة الإخوان المسلمين، وسلك هذا الدرب ولم يفارقه أبداً، أخلص له وفداه بعمره. عمل في التعليم ودرَّس أجيال وأجيال من أبناء ولاية القضارف.. صاهر أسرة المرحوم حسن بخيت جيلاني، وكان بيته هو موئل وملاذ الإسلاميين على مختلف الحقب والسنوات ومحل نُزل لضيوف الحركة.. سنوات الصبر والمكابدة والعُسرة وسنوات النصرة والتمكين.. كان مسؤولاً عن العمل التنظيمي بشكل مباشر في المكاتب المختلفة، وتولى إمارة الحركة في القضارف.. عرف عنه الهدوء والتريُّث والحكمة وطول البال، له معرفة دقيقة بكل أهل القضارف وامتدت صلاته بهم جميعاً، صاحب إلمام باللغة العربية وفقِه لطائفها ودقائق تعابيرها وغرائب ألفاظها ونكاتها، ويرصد الأخطاء اللغوية ويرد الصحيح إلى مصادره، وله إطلاع واسع على الجديد في اللغة والفكر وثمرات المطابع.

يتجنب ركوب السيارات، فهو رياضي يحب رياضة المشي، يمتاز باللطف، وله يدٌ تُحسن رسم الحروف والخط الجميل..
لا يزال هذا الرجل عاملاً في صفوف الحركة الإسلامية، ويمتن لفسيلة الخير إلى يوم القيامة والدنيا حوله تضج والطلقاء من الناس قد تسيَّدوا و(ركبوا الموجة) وأخذوا بخطام الحكم والحركة الإسلامية نفسها..

(خ)
لم أرَ في الحياة قلباً ولا روحاً أصفى، ولا ذهناً أنقى، ولا ذاكرة أبقى، من الذي عرفت في الأستاذ الدكتورالطيب أحمد هرون، الأستاذ الجامعي في جامعة الإمام المهدي والمعلم السابق حين عرفته في مدرسة الجزيرة أبا الثانوية منتصف السنوات الثمانين من القرن الماضي..
في ليلة قمرية صافية، عرفت الرجل في جلسة إيمانية من تلك الليالي التي كانت في برامج الأسر التنظيمية، شرقي الجزيرة أبا، كان وقتها معلماً بالمدرسة الثانوية، من أهالي الكوة لكنه استوطن الجزيرة أبا.. شدتنا إليه روحه المحلقة بالإيمان الصادق ووجه المشرق بابتسام لا يفارقه قط، ونفس عزيرة عصامية وثَّابة لا تمل ولا تعرف اليأس ولا القنوط ولا الكسل، مستبشر ينظر للمستقبل ولا ينشغل بالوقائع اليومية، يتميز بجسارة محارب صنديد شجاع في التمسك بفكرته والدفاع عنها.. وكانت الجزيرة آنئذ في زمنه هذا عصية على الاختراق والعمل وسط قواعد طائفة الأنصار، لكنه بخلقه وتعامله الذي يجسِّد أن الدين المعاملة، وتواصله مع الآخرين ووفائه العجيب، استطاع أن يكون محل اتفاق وإجماع وسط مجتمع الجزيرة أبا وما حولها. ويصفه أحد أبرز تلاميذه الأستاذ عبدالماجد عبدالحميد، بأنه (سحارة تاريخ معلومات نادرة)، فهو قارئ نهم، يقرأ حتي الآن أكثر من ثماني ساعات يومياً. يطلع على كل ما تقع عليه عيناه وله قدرة مدهشة على احتمال الآخرين والصبر على الأذى والمكاره..

كانت تدهشنا فيه طريقته الراقية في تربية أبنائه، فهم أصدقاؤه يتناقش معهم ويعطيهم حرية الاختيار والحوار والأخذ والرد..
من عصاميته أنه بعد أن قضى سنوات طويلة في التعليم العام، قرر مواصلة دراساته العليا فأنجز درجة الماجستير، ثم الدكتوراه في التاريخ، وكانت رسالته عن تاريخ اليهود في السودان، وقد قام كباحث دقيق بمسح ميداني مدهش لم يسبقه إليه أحد.. ولديه مؤلف قد يصدر قريباً سيكون له دوي عن تاريخ الجزيرة أبا من ذاكرة بنيها ويحتوي على معلومات لم تُنشر من قبل، رصد فيها وقائع وتاريخ منسي ومسكوت عنه في الجزيرة أبا وطائفة Çلأنصار.. ولا يزال في الجزيرة أبا قابعاً هناك في جامعتها ومجتمعها وبين طرقاتها ودروبها.. ينظر للحياة من عرائش الرضى والقناعة والصبر، ويقظة الفكر المُتقد والقلب المؤمن..

(س)
هذه الوجوه التي قفزت بلا مقدمات، وملأت الأفق أمامي قبل كتابة هذه الكلمات.. كالنجوم المضيئة لا تخفت ولا تغيب، مجرد نماذج لألوف غيرهم في هذه البلاد وفي هذا الطريق.. فهل يا ترى ما كانوا يحلمون به ويسعون إليه ويخلصون في سبيله.. هو ما نراه الآن ..فوا عجبي!! ..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة