الطيب مصطفى

الحق بين الوحدة والتعدد


نورد اليوم حديث د.عصام البشير حول (الحق بين الوحدة والتعدد) ويقول حول الموضوع ما يلي:

هنالك حديث دائم بأن الحق واحد، وأن الحق لا يتعدد، وبالتالي الصواب لا يتعدد، وهذا مرتكز فكري مهم جداً في النقاش والحديث، فكيف تستخرج من القرآن نصاً رافعاً للخلاف ؟

هذه المسألة قالها بعضهم، ولكن فيها إشكال من عدة أوجه: الوجه الأول: إذا كان المقصود بأن الحق واحد ولا يتعدد في علم الله عز وجل وفي كتابه المكنون فمن الذي يعلم ويقطع ويجزم بأن اجتهاده الذي انتهى إليه في فهم الكتاب والسنة هو مطابق لعلم الله تعالى؟ لا يستطيع أن يجزم، وغاية الأمر أن يرجح ويقول اجتهادي صواب يحتمل الخطأ واجتهاد غيري خطأ يحتمل الصواب، لكنه لا يستطيع على وجه اليقين أن يقول بصورة قاطعة هذا هو الحق المطلق الذي جاء من عند الله تعالى.

والدليل على ذلك في الوجه الثاني وهو: إنه لو كان الحق لا يتعدد لكان النبي عليه الصلاة والسلام قد بين كل شيء بتفاصيله وجزئياته حتى لا يدع لمن بعده مجالاً للاجتهاد والنظر، وكان علينا نحن معشر المسلمين الالتزام والتطبيق، ولكن وجدنا حتى في عهد الصحابة الذين تنزّل القرآن على أظهرهم أن القرآن في بعض معانيه ظنية الدلالة المتشابهة تحتمل أكثر من وجه للتفسير.

رأينا في قوله تعالى “لامستم النساء” (سورة النساء، الآية: 43)،عبد الله بن عمر ووالده – عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما، يذهبان إلى أن المقصود وضع اليد على البشرة، وعبد الله بن عباس، حبر الأمة وحبرها، يقول: “الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هذا الجماع، غير أن الله حيي كريم يكنَّى بما شاء عما شاء”. يحتمل ظاهر النص المعنى الذي أشار إليه ابن عباس، وهذا دليل على أن الصحابة اختلفوا في بعض دلالات النصوص.

بل حتى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم قدم اثنان في السفر ففقدا الماء فصليا تيمماً ثم أدركا الماء قبل انقضاء الوقت، الأول أعاد الصلاة والآخر لم يعدها، فقاما للنبي صلى الله عليه وسلم فقال للذي أعاد صلاته: “لك الأجر مرتين”، وقال للذي لم يعد: “أصبت السنة”. وما حدث في قصة صلاة (العصر) عند بني قريظة وإقراره الطرفين.

ودليل آخر هو أن عمرو بن العاص كان يقود سرية وأصابته جنابة فلم يغتسل بل تيمم، فأنكر بعض أصحابه عليه ذلك وشكوه للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله كانت الليلة شديدة البرودة وتذكرت قوله تعالى: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما” (سورة النساء، الآية: 29) فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم إقراراً له على هذا الاجتهاد” الذي توصل إليه.

إذن، النبي صلى الله عليه وسلم في أمر صلاة بني قريظة، يمكن أن يقول لهؤلاء إن الحق واحد لا يتعدد، والصواب واحد لا يتعدد، المصيب من صلى في الطريق، أو المصيب من صلى في بني قريظة.. فلماذا سكت؟ سكت ليدلنا على أن هذه المساحة من الشريعة تحتملها دلالات النصوص وفيها التيسير وفيها السعة وفيها الرحمة، ولا ينبغي أن يضيق بعض الناس ببعض، ولذلك من القواعد التي رسخها العلماء الأصوليون “إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة”.

أحياناً الحق نفسه قد يتعدد، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في القرآن “نزل على سبعة أحرف” و”كلاكما محسن”، وفي السودان نقرأ بثلاث روايات، والروايات غير الأحرف.. عندنا ورش والدوري وحفص.. كما أن صيغ التشهد والأذان والإقامة كثيرة متعددة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تصل إلى عشر صيغ:

وكلهم من رسول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم.

فهذا دليل على أن في الأمر سعة.. ولو أراد تعالى لأنزل الكتاب كله آيات محكمات قطعيات ولبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً تفصيلياً ولم يدع لأحد من بعده مجالاً للنظر.

ولكن تجد في تاريخ الأمة كله الخلاف في الفقه وفي التفسير وفي الأصول وفي الحديث، والأخير فيه التضعيف والتصحيح، وتجد في الفقه القول بالحرمة والوجوب والندب والكراهة، وتجد في التفسير الآراء المعتمدة والآراء الشاذة والآراء المرجوحة، بل حتى في المذاهب الفقهية في المذهب الواحد تجد قوي المذهب وراجح المذهب ومشهور المذهب وضعيف المذهب والمعتمد في المذهب، وهذا كله دليل على أن في الأمر سعة.

وكما قال القاسم بن محمد؛ أحد فقهاء المدينة السبعة: “ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا في كل شيء، لأنهم لو اتفقوا في كل شيء لكان الأمر عسراً ومشقة، ولكن اختلفوا فكان اختلافهم رحمة”. لذلك ورثت أمتنا رخص ابن عباس، وعزائم ابن عمر، وأثرية (أحمد) ابن حنبل، وفقه أبي حنيفة، ومقاصدية الشاطبي، وظاهرية ابن حزم، ورقائق الجنيد، وفقه ابن تيمية.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة