عالمية

زيارة إلى المنطقة التي يأكل فيها البشر نباتات مفترسة


لم يتطلب الأمر مني سوى استبدال ثيابي بضع مرات، كي يتسنى لي صعود قمة جبل كينابالو بجزيرة بورنيو الماليزية. أما على القمة، فستجد برودة قد لا تتوقع مصادفتها في بقعة تقع بقلب منطقة استوائية، وذلك بفعل ارتفاع الجبل إلى 4095 مترا. بيد أن الكتل الصخرية الموجودة هناك لن توفر لك ملاذا من أي نوع.

لكن إذا هبطت إلى أسفل قليلا، فستجد مظلة سميكة من الأشجار تشكل ملاذا ومأوى لمن يريد، غير أنها في الوقت نفسه عبارة عن غابة ضبابية باردة الأجواء، تخيم بظلالها على الموجودين فيها. أما عند السفح، تستقبلك غابة استوائية مطيرة بحرارة أشد قليلا من اللازم.

وفي أسواق مدينة كوتا كينابالو، التي تبدأ منها غالبية الرحلات الصاعدة إلى الجبل والهابطة منه، ستجد باعة لا يكترثون على ما يبدو بالرطوبة التي تسود الأجواء. ويبيع هؤلاء مجموعة متنوعة من الأطعمة المحلية للمتجولين العائدين لتوهم من فوق قمة الجبل.

ووسط أصوات الأزيز والجلبة الصادرة من أكشاك بيع الطعام، تفوح روائح مغرية لأكلات من بينها القريدس المغطى بالزبد، والأسماك المشوية في الهواء الطلق. وبجانب هذا وذاك، ستجد عبوات صغيرة لوجبة خفيفة، مؤلفة من أرز محشو في لفائف مبرقشة، تفتقر إلى أي جاذبية في الشكل، وهي وجبة ليست من ذاك النوع الذي يلفت الانتباه.

لكن هذه الوجبة البسيطة تتسم بطابع استثنائي، فهي تتألف من أرز تفوح منه رائحة جوز الهند، محشو في نبات من النباتات الآكلة للحوم. ورغم وجود هذا اللون من الطعام في الكثير من دول جنوب شرق آسيا، فإنه آخذ في الازدهار في جزيرة بورنيو الماليزية تحديدا. ويُعرف باسم “ليمانغ بريوك كِرا”، ويتكون – كما قلنا – من أرز أبيض اللون، تُحشى به أوراق نبات الأبريق.

وتوجد الكثير من أنواع هذا النبات في جبل كينابالو؛ وهو إحدى أكثر بقاع العالم ثراء على صعيد التنوع البيولوجي في العالم بأسره. فهو يعج بالحياة في صور مختلفة، بما في ذلك بعض الحيوانات والنباتات التي لا تعيش في أي مكان آخر في البرية، مثل أنواع نبات “الأبريق” هذه.

ويستخدم هذا النبات أساليب متنوعة لإغراء الحشرات بالاقتراب منه، منها توظيف الرحيق والروائح والألوان لهذا الغرض. كما يستخدم طرقا عدة للحيلولة دون فرار الفريسة منه، مثل القطرات التي تسقط بشكل عمودي، والأسطح الملساء التي لا يمكن تسلقها، فضلا عما يبدو كما لو كان حواجز من الشعيرات المنتصبة الصلبة التي تظهر فيها.
مصدر الصورة Nora Carol Photography/Getty Images
Image caption يشكل جبل كينابالو إحدى أكثر بقاع العالم ثراء على صعيد التنوع البيولوجي في العالم بأسره

وغالبا ما تحتوي الكتيبات الإرشادية الموجهة للسائحين على صور لهذا النبات، باعتباره رمزا للتنوع البيولوجي في جبل كينابالو. أما في أسواق “كوتا كينابالو” وكذلك في مختلف أنحاء “بورنيو الماليزية”؛ فيشكل هذا النوع النباتي جزءا من الثقافة الثرية الخاصة بطهي الأطعمة لدى القبائل الأصلية في ماليزيا.

هنا يمكننا استعراض تجربة ريتشيل شوالير، محاضرة في قسم الأحياء بجامعة غراند فالي في ولاية ميشيغان الأمريكية، والتي زارت بورنيو في الفترة ما بين عامي 2012 و2013 لإجراء دراسة حول تطور نبات الأبريق وتنوعه. وبعدما علمت شوالير أن هذه النباتات تُستخدم لإعداد أطعمة محلية، قررت توسيع نطاق بحثها وعادت لدراسة الجذور الثقافية والتراثية المتعلقة بما يصلح منها للأكل.

وتُعرف “ليمانغ بريوك كِرا” بأنها أكلة ماليزية تقليدية. وتختلف في طريقة طهيها عن الطرق الأخرى التي يطهى بها الأرز الداخل ضمن مكوناتها، وذلك بسبب الأسلوب الذي تُستخدم به أوراق نبات الأبريق في الحشو. ومن أجل إعداد هذا اللون من الطعام، يتم تنظيف أوراق ذلك النبات وحشوها بالأرز، ثم رصها بشكل مستقيم في وعاء طهي يعمل بالبخار، ووضع حليب جوز الهند عليها، ثم تركها تنضج لمدة ساعة. وبفضل هذه الطريقة في الطهي، يتحول القوام اللزج للأرز إلى ما يشبه كتلا ملفوفة بترتيب ونظام، تغمرها نكهة جوز الهند.

وفي إطار دراستها، أجرت شوالير مقابلة مع شخصٍ روى لها تجربة تناول هذه الوجبة خلال رحلة جبلية في بورنيو. المفارقة أن طبيعة هذه المنطقة توفر لك في تلك الحالة الأدوات التي ستحتاجها في الطهي؛ سواءٌ من أوعية أو وقود لإشعال النار. وبكل بساطة، جمع المرشدون القبليون، الذين كانوا يرافقون المشاركين في الرحلة، أوراق نبات الأبريق، وغطوها بالطين، ثم وضعوها على فحم مشتعل لطهي الأرز الذي حُشيت به.

أما شوالير نفسها فقالت: “لقد كنت محظوظة بقدرٍ كافٍ لأن يتسنى لي أن أطهو هذه الوجبة الخفيفة مع عائلة قبلية في بورنيو بدوري. ويبدو أن النكهة القوية التي تنبع من غمر الأرز بحليب جوز الهند تجعل طعمه حلوا ومميزا بنكهته الشديدة”.

وبتجوالك بين أكشاك بيع الأطعمة المحلية وبيعها، سواء في كوتا كينابالو أو في غيرها من مدن جزيرة بورنيو، ستكتشف أن الباعة هناك يضفون لمساتهم الخاصة على هذا اللون من الطعام، فهناك من يضيف إليه بعضا من أوراق نبات “الكاذي” لإكسابه رائحة عطرية. وثمة من يضيفون الفول السوداني أو عجينة الجمبري المتخمرة، وهو ما يجعل الطعم أكثر تميزا وقوة.
مصدر الصورة Jonathan Lin/Flickr
Image caption تعتبر أوراق نبات الأبريق بشكلها الفريد خيارا مثاليا لحشو الأرز فيه

وقد سُمي نبات الأبريق بهذا الاسم نسبة إلى أوراقه التي تأخذ كلٌ منها شكلا متفردا يجعلها في هيئة قارورة أو أبريق، وهو ما يسمح لهذا النبات بالتهام أوراق الأشجار المتساقطة عليه. وبفضل هذا الشكل، يصبح ذلك النوع النباتي مثاليا فيما يتعلق بحشوه بالأرز. ورغم إمكانية استخدام نوع آخر من هذا النبات – ينمو في المستنقعات – للغرض نفسه، فسيظل بوسعك التمييز بين النوعين عند الأكل.

وعندما تتناول الـ “ليمانغ بريوك كِرا”، المُعد باستخدام نبات الأبريق الذي ينمو في المستنقعات، سيكون بمقدورك التهامه كاملا لأن أوراق هذا النوع من النبات تتميز بأنها ذات قوام طري بشكل أكبر ويسهل مضغه. أما نبات الأبريق الذي ينمو بعيدا عن المستنقعات، فتكون أوراقه – أو أباريقه بالأحرى – أشبه بالورق المقوى، لذا يصعب مضغها وهي محشوة. ويكون من الأسهل في هذه الحالة أن تقشرها من فوق الأرز.

وفي بعض الأحيان، تُفرض قيودٌ على استخدام نباتات بعينها في الطهي، وذلك بغرض الحفاظ عليها، كما يحدث مع “زهرة الكركم كانديدا” الصالحة للأكل، والتي تشكل ميانمار وتايلاند موطناً لها. لكن الحال يختلف مع نبات الأبريق الذي لا يواجه خطر الانقراض. فعند استخدامها في إعداد الطعام، لا تُقطف سوى “الأباريق” مستقيمة الشكل التي يجب أن تكون صغيرة الحجم، لكن ليس بشكل مبالغ فيه. كما ينبغي ألا تكون مزروعة منذ وقت طويل للغاية أو جافة بشدة. أما باقي النبات، فيُترك ليواصل نموه في الغابة، ما يعطيه الفرصة ليواصل إنبات مزيد من “الأباريق”.

وفي معرض وصف شوالير لتجربة ذهابها إلى الغابة في بورنيو، برفقة أسرة كانت تتولى عملية قطف “الأباريق” قرب قرية كامبونغ ديوه الواقعة جنوب غربي الجزيرة، قالت: “لم يكن بوسعي أن أخطو خطوة واحدة – حرفيا – دون سحق نباتات أبريق تحت قدميّ، وهذا ما يجعل (هذه النباتات) تكسو أرضية الغابة بشكل كبير”.

وترى شوالير أن استخدام نبات الأبريق في الطهي يفيد في الحفاظ على وجوده في البرية. وتقول في هذا الشأن: “يعزز الإبقاء على (هذا) الطعام التقليدي الصلة بين الناس (من جهة) وبيئتهم الطبيعية والسلوكيات التي تؤدي للحفاظ على الغابات وصيانتها” من جهة أخرى.

وتضيف أن الحفاظ على هذه الرابطة والصلة يزيد من القيمة التي تحظى بها الغابات الموجودة في هذه المناطق، وهو ما يعزز احتمالية أن “تعبر المجتمعات المحلية عن احتياجها ورغبتها في الحفاظ على الغابة الخاصة بها” عندما تكون مُهددة بفعل أنشطة إزالة الغابات.

وبالتوازي مع تبني هذا النهج الذي يستهدف الحفاظ على الاستخدامات التقليدية للنباتات، يمكن لزوار جزيرة بورنيو الماليزية أن ينعموا بمذاق وجبة تروي قصة أُناس يعيشون في إحدى أكثر الغابات ثراء بالتنوع الحيوي في العالم.

أما بالنسبة للمتجولين والمتنزهين الذين يتدفقون من قمة الجبل على الأكشاك الواقعة في أسواق كوتا كينابالو، فسيشكل تناول وجبة خفيفة من “ليمانغ بريوك كِرا” تذكارا لذيذ الطعم، لرحلتهم الشاقة التي يجوبون خلالها الغابة بما تعيش فيها من نباتات غريبة.

BBC