حوارات ولقاءات

سلسلة أوراق العمر السياسي ورجل الأعمال إبراهيم الشيخ : في جامعة الخرطوم انضممت لمؤتمر الطلاب المستقلين لأنه الأقرب لتكويني النفسي


ألقيت كلمة الطلاب في افتتاح جامعة جوبا بحضور النميري
زاملت الوزير فيصل حسن إبراهيم في مدرسة النهود الثانوية

اتخذت اشجع قرار بترك الدراسة في جامعة جوبا
ناهد جبرالله والحاج وراق وسوار أبرز زملائي في الجامعة

في جامعة الخرطوم استقطبت من قبل الجبهة الديمقراطية، والإتجاه الإسلامي لكن انضممت لمؤتمر الطلاب المستقلين لأنه الأقرب لتكويني النفسي

تتملك السودانيين على اختلاف مشاربهم قناعة راسخة بأن حياة صانعي الأحداث في السودان لم تجد حظها من التدوين كما يجب. ويتلبّسهم يقين عميق بأن أكثرية المرتبطين بالعمل العام أهملوا التدوين لحياتهم الخاصة، وأنهم لم يدوِّنوا شهادتهم على الأحداث المهمة في حياتهم، وفي تاريخ السودان، لذا ظلت بعض الأسرار حبيسة الصدور.

في هذه السلسلة من (أوراق العمر) نحاول أن نسلط الضوء على جزء من الجوانب الخفيَّة في حياة بعض الذين ارتبطوا لدى الذاكرة الجمعية للشعب السوداني بالإشراقات وربما الإخفاقات. ونسعى من خلال ذلك إلى تتبع سيرة من أسهموا ــ سلبًا أو إيجابًا ــ في حركة المجتمع والسياسة، وبالطبع نهدف إلى تقليب أوراق حياتهم المرتبطة بالجانب العام، دون أن نتطفّل على خصوصياتهم، حال لم تكن ذات علاقة مباشرة بالشأن العام. دافعنا في كل ذلك أن نعيد كتابة الأحداث والتاريخ، بعد أن تكشَّفت الكثير من الحقائق المهمة حول كثير من الوقائع التي أثرت في المشهد السياسي السوداني..وفي الحلقة الأولى هذه نبحر مع الرئيس السابق لحزب المؤتمر السوداني ورجل المال والأعمال الشهير إبراهيم الشيخ، وهو يتناغى مستدعياً الذاكرة، ومستلطفاً طيف ماضيات الأيام.

ميلاد وانعتاق
أبصرت عيناي النور بمدينة النهود الوادعة التي تلقب بمدينة العلم والعلماء كناية على عشق أهلها وريادتهم في التعليم ،وشاءت إرادة الله أن أخرج إلى الوجود في الثامن والعشرين من شهر يوليو من عام 1956 وهو ذات العام الذي شهد انعتاق البلاد من براثن المستعمر، نشأت في أسرة أخذت من ذات تنوع البلاد الجميل فأجدادي من ناحية والدي وفدوا إلى النهود في زمن باكر وذات الشئ فعله أهلي من ناحية والدتي ،ليستقر بهم المقام أو فلنقل طاب لهم بغرب كردفان وتحديداً في النهود ،لذا فقد كانت طفولتي حاشدة بالحنان والدفء الأسري، وتشربت وأنا مازلت غضاً من ثقافات الغرب والشمال والوسط ،كنا في تلك السن نقضي معظم ساعات يومنا نلهو ونلعب ببراءة ممزوجة باطمئنان لأن النهود لم تكن في تلك الحقبة من تاريخها مدينة للعمل والعلماء فقط، بل كانت واحة وبوتقة استظل تحت ظلالها الوارفة كثيرون وانصهروا فيها، فالجميع هم أهل بعض، لذا كنا نجد النصح والإرشاد والتوجيه من كل القاطنين، وكانت المدينة وقتها صغيرة، غير أنها أنيقة وجاذبة وقد جمع أهلها ما بين بساطة وقيم إنسان الريف، ورقي وتحضر من يقطنون المدينة، ولأن البيئة التي نشأت بها كانت صحية، تسلحنا ونحن يفع بالكثير من القيم وعرفنا “الغلط من الصاح”.

اعتزاز ووعي
بعد أن وصلت سن الدراسة ووقتها كانت سبعة أعوام، كنت أشعر بسعادة غامرة لأنني سأضع قدمي على أولى محطات سلم التعليم، والذي كان محط اهتمام كل أهل النهود الذين كانوا يرسلون أبناءهم إلى المدارس، ويحثوهم على النجاح والتفوق ،وكان حظي أن ألتحق بالمدرسة الأولية الغربية “ب” ذات السمعة الجيدة وقتها، وذلك في العام 1963، ولا زلت أذكر يومي الأول بالمدرسة وأنا أرسل بصري في دهشة مقرونة باعتزاز إلى أرجاء صرحي التعليمي كافة ، فقد شعرت يومها بأنني قد أصبحت رجلاً أو هكذا إحساس كل من يخطو أولى خطواته في التعليم ، والسلم التعليمي في ذلك الوقت كان وفقاُ لنظام أعوام الدراسة الاربعة في الأولوية والوسطى والثانوي كما كان يطلق عليها سابقاً ، وبعد إكمالب للمرحلة الأولية بنجاح باهر انتقلت إلى مدرسة النهود الوسطى ، وفي الثانية لي بها تم تعديل السلم التعليمي بنظام الثلاثة أعوام للمتوسط، والثانوي، وستة للابتدائي، ونتيجة هذا التغيير درسنا خمسة أعوام بالمرحلة الوسطى والثانوي ثلاثة أعوام ،وهذه الفترة كانت حاشدة بالحراك السياسي، حيث تزامنت مع الديمقراطية الأولى ، وفي ذلك الزمان الباكر كان الطالب بالوسطى والثانوي يتمتع بفكر عال، ووعي تام، ويتفاعل مع الأحداث السياسية في البلاد ، وقد تفتحت أعيننا على الديمقراطية والحرية، وكنا نعرف كل القيادات السياسية بالبلاد خاصة في حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي ، وشهدنا الحملات الانتخابية الحرة، والندوات السياسية الصاخبة والحاشدة بالميادين، وكذلك الشعارات التي تملأ الآفاق .

مناهج ممتازة
أنا مثل غيري من أبناء جيلي أعتز بأن دراستي قبل الجامعية كانت وفقاً لمناهج وضعها علماء أجلاء بمعهد بخت الرضا، فقد كانت متميزة، وقوية، وشاملة، بل تحث على إعمال العقل والاستفادة منه في التفكير، ولم تكن تلقينية، لذا فإن الطالب وقتها الذي يتخرج من الأولية دعكم من المرحلة الوسطى كان يتمتع بأفق واسع وإدراك ، وأكثر ما ساعد على نجاح منهج بخت الرضا توفر الكتاب المدرسي الذي كان خير معين لنا، بل حتى الكتب الثقافية كانت متاحة ، وبصفة عامة فإن منهج بخت الرضا كانت قيمتة عالية، وحتى المعلمين كانوا أصحاب كفاءة كبيرة، وذلك لإخضاعهم للتدريب المتواصل ،ورغم مرور أكثر من خمسة عقود على تلك الفترة إلا أن عدداً من الأساتذة الأجلاء ما يزالون عالقون في ذاكرتي، ولا يمكن أن يسقطوا عنها أبداً، وذلك لأنهم وضعوا لنا اللبنات الأولى في الحياة، ونهلنا من معينهم الذي لاينضب الكثير ، ومنهم المربي الجليل مكي النذير، والأستاذ زين العابدين، وإبراهيم الهادي، وإبراهيم صالح، وأستاذ الفنون جون ونورالدائم عبدالله .

في سوح التظاهر
حسناً لنمضي قليلاً إلى الأمام، وذلك لأنني إذا حاولت إلقاء الضوء على تلك الفترة فلن يسعنا المجال، وذلك لأنها كانت خصبة بكل ما تحمل الكلمة من معان، فالطالب وقتها وكلما أشرقت الشمس وأرسلت ضوءها إلى النهود كان يتعلم ما هو جديد ومفيد في حياته ، وكما أشرفت آنفا فإن تلك الفترة كانت حاشدة بالعمل السياسي، لذا فعند وصولنا المرحلة الثانوية بالنهود كنا أكثر نضوجاً ووعياً، وبدأت مسيرتي مع العمل العام عبر المظاهرات والاضرابات والمسيرات ،كنا نتفاعل مع كل الأحدات التي تقع في العاصمة مثل أحداث شعبان في العام 1973، حيث حضرت إلى النهود وفود طلابية من الخرطوم للحديث عن هذا الحدث ، وبخلاف ذلك فقد نلت شرف دخول قائمة اللجنة المنوط بها إعداد دستور لاتحاد طلاب المدرسة، وكان معي في تلك اللجنة الطالب وقتها فيصل حسن إبراهيم الوزير الحالي، وقد كان في الدفعة التي تسبقني بعام، وكان من الطلاب الناشطين والمتميزين، وأحسب أن كل الطلاب وقتها بالنهود الثانوية كانوا من المتميزين ، وبصفة عامة فإن المرحلة الثانوية شهدت انفتاحاً علي العمل السياسى بصورة واضحة، ورغم حالة الاستقطاب الحادة إلا أنني رفضت الانضمام إلى أيّ حزب ، وفي العام 1976 جلسنا لامتحانات الشهادة السودانية .

جامعة جوبا
بعد فراغنا من أداء امتحانات الشهادة السودانية، وكالعادة كنت أذهب في الإجازات ناحية السوق لمعاونة والدي وأهلي، ولكن كنت أتحرق شوقاً لإعلان النتيجة التي كان الطلاب الناجحون فيها يعلنون عبر المذياع، وفي ذلك شرف عظيم، كان كل طالب يتمنى أن يكون من الناجحين حتى يناله السبق ، وبالفعل شاء الله أن أكون من الناجحين، وعند إعلان القبول جاء اسمي في الإذاعة القومية بوصفي أحد الطلاب الذين تم قبولهم في جامعة جوبا الوليدة وقتها ، شعرت بسعادة تغمرني، وسحابة فرح ماطرة تهطل علي كل المساحات داخلي ، فقد أصبحت على بعد خطوات معدودة من ولوج سوح الجامعات ، لذا فقد جمع مبلغ مقدر من المال، وتوجهت عقب قبولي نحو العاصمة التي كانت أسواقها ترد إليها أرقى أنواع الملبوسات والمنتجات من الدول الأوروبية، واشتريت ما يليق بي بوصفي طالباً جامعياً عليه التوجه نحو عاصمة الإقليم الجنوبي جوبا للانضمام إلى أول دفعة تنال شرف الالتحاق بهذه الجامعة ، وكان الجنوب وقتها يشهد استقراراً كاملاً، وترفرف فيه حمائم السلام عقب اتفاقية أديس أبابا التي من ثمارها جامعة جوبا ، ولم أكن عالماً بما تخفيه الأقدار لي، فقد ذهبت وكنت كلي حماساً للبقاء أربع سنوات بجوبا لنيل درجة البكالوريوس، حيث تم قبولي في كلية الاقتصاد والتنمية الريفية ، وقد كان لنا شرف حضور افتتاح الجامعة على يد المشير جعفر محمد نميري، وكذلك كنا حضوراً في مباراة القمة بين الهلال والمريخ على شرف المناسبة، والتي انتهت بفوز المريخ بهدف الراحل سامي عزالدين، وقد كان الاحتفال يوماً تاريخياً واستثنائيا ً، رأينا فيه الفرح في أعين الإخوة بالجنوب، ولم نشعر وقتها بالغربة، لأنهم فتحوا لنا منازلهم وأحضانهم ،ونلت في الاحتفال شرفاً عظيماً بأن أكون ممثلاً لطلاب أول دفعة بجامعة جوبا، حيث تم اختياري لإلقاء كلمة الطلاب بحضور المشير النميري، وحتى اليوم أبدو ممتناً على إجماع الطلاب على شخصي الضعيف بما فيهم الإخوة الجنوبيون الذين دفعوا بي لأكون ممثلاً لهم.

المفاصلة والقرار الشجاع
إلى هنا تبدو مجريات الأحداث طبيعية، بل يستشف منها الاستقرار النفسي والأكاديمي، غير أن الرياح جاءت على عكس ما تشتهي سفني بعد مضي ثلاثة أشهر من التحاقي بهذه الجامعة، وذلك حينما قررت التوقف عن الدراسة والعودة إلى الخرطوم، وذلك لأن الكثير من الأشياء خاصة الأكاديمية لم تتسق مع رؤيتي، فاتخذت قراراً أعتقد أنه شجاع بغض النظر عن صحته من عدمه، لأن ترك الجامعة ليس بالأمر السهل.

رغم رجاءات زملائي إلا أنني حزمت أمري وحقائبي وعدت أدراجي إلى العاصمة الخرطوم، ولم أمكث طويلاً دون عمل، فقد التحقت في ذات العام 1977 بالهيئة العامة للكهرباء والمياه موظفاً بإدارات الامتدادات، ومن ثم الحسابات، ووقتها كانت الوظائف متوفرة، ولا أعتقد بوجود عاطلين عن العمل ، وبعد مرور ثلاثة أعوام من عملي موظفاً قررت مجدداً العودة إلى الدراسة الجامعية، فكان أن جلست في العام 1981 لامتحانات الشهادة السودانية، وكنت أكثر إصراراً علي دخول جامعة الخرطوم لسمعتها، ومكانتها، وريادتها، ليبتسم لي الحظ بعد إحرازي لنسبة نجاح عالية ويتم قبولي بكلية الاقتصاد بالجامعة التي تسمى الجميلة ومستحيلة وذلك في العام 1982 ، ورغم مضي خمسة أعوام على مفارقتي لقاعات الدرس إلا أنني لم أجد صعوبة في العودة إلى الأجواء الأكاديمية ، وهنا أشير إلى أنه أثناء عملي بالكهرباء طرحت الشركة العربية وظائف، وتم قبولي محاسباً بها، واخترتها لأن أجورها أعلى، وكانت تعمل في مجال الأعلاف، ولكن بعد قبولي بجامعة الخرطوم كان عليّ ترك العمل في الشركة الخاصة لأن مقرها كان بمدينة الباقير والعودة مجدداً إلى هيئة الكهرباء، حتى أتمكن من الدراسة والعمل في وقت واحد .

مهمة مزدوجة
ظللت أعمل موظفاً بالكهرباء وطالباً بجامعة الخرطوم التي تفتحت فيها عيناي على النشاط السياسي الذي كان في أوج حراكه وذروته، حيث كانت التنظيمات المعارضة لنظام مايو ذات وجود قوي ومؤثر ، ولم أدخر وقتاً حتى التحقت بهذا الحراك الطلابي الضخم، فكان أن تم استقطابي من قبل تنظيمات مختلفة منها الجبهة الديمقراطية، والإتجاه الاسلامي، وكانا من أكبر التنظميات السياسية، حيث كان أبرز قادة الأولى أبوبكر خليفة وهو الآن الأمين السياسي لحركة أركو مناوي، وحسن عبدالسلام، وناهد جبرالله، ومأمون والحاج وراق ، أما في الاتجاه الإسلامي فقد كان على رأسه حاج ماجد سوار، ومحمد إبراهيم الفكي، والوزير محمد المختار، ولكن اخترت الانضمام لمؤتمر الطلاب المستقلين لأسباب كثيرة منها أنه كان أقرب لتكويني النفسي السياسي، بالإضافة إلى مساحة الاستقلالية والحرية داخله، وكان أبرز نجومه أحمد القرشي، وعمر الدقير، والشيخ خالد، وعباس، وصلاح الفادني، والمنتصر بكلية الزراعة ، ونبيل، ونسبة لنشاطي السياسي تم اختياري رئيساً لرابطة طلاب كلية الاقتصاد، وقد كان وقتها مؤتمر الطلاب المستقلين في أوج مجده، وكان يقود كل الروابط بالكليات، وفاعلاً في النشاط السياسي، وفي أكتوبر من العام 1985 كان مؤتمر الطلاب المستقلين ممثلاً بعشرين عضواً في اتحاد طلاب الجامعة، وخمسة من اللجنة التنفيذية، وجاء هذا نتيجة لاكتساحنا انتخابات الجامعة، وأذكر أن حزب الأمة انسحب من هذه الانتخابات بسبب خلاف حول انصبة المقاعد، والوحيد الذي فاز من الاتجاه الاسلامي ميرغني أبكر،وهذا الاتحاد الذي كنت أحد أعضائه كان له دور محوري في الانتفاضة ضد نظام نميري، بل لعب دوراً مؤثراً في توحيد الحركة النقابية، وكان ملاذاً آمناً لكل الأحزاب السياسية، وعقدنا لقاءات مطولة مع النقابات، ومنها نقابة الأطباء التي كان على رأسها الدكتور سليمان حسين أبوصالح، وذلك للإعداد للانتفاضة، وكذلك جلسنا مع الجزولي دفع الله، وأيضاً كان للاتحاد دور مؤثر في التصدي للهجمة التي تعرض لها الجمهوريون عقب المقال الشهير لمحمود محمد طه: “هذا أو الطوفان”.

حراك سياسي مكثف
وبصفة عامة كان منبر الجامعة مفتوحاً أمام الجميع، ولأن الاتحاد كان يسبب إزعاجاً للسلطة تمت مهاجمة مكاتبه بقوة أمنية مسلحة، ومصادرة أجهزة الطباعة، وتم اعتقال ناهد جبرالله، وعمر الدقير، وساطع الحاج، حيث تم الزج بهم في سجني كوبر ودبك، وكان هذا في فبراير، وهو أحد أسباب الانتفاضة في مارس، ليتوج هذا النضال الكبير والتاريخي بتغيير نظام نميري، وكنا وقتها بوصفنا طلاباً في ريعان شبابنا سعداء بما أنجزناه من عمل وطني كبير، ولا زلت أذكر الجامعة عقب الانتفاضة وذهاب نظام نميري، فقد كانت الأجواء صاخبة بالفرحة، والأهازيج الوطنية، وتبادل التهاني ، لذا فأنا على الصعيد الشخصي أبدو سعيداً ومفاخراً بأن أكون ضمن تلك الكوكبة التي ناضلت واستماتت من أجل عودة الديمقراطية إلى البلاد، وبصفة عامة فإن فترة جامعة الخرطوم كانت مدرسة قائمة بذاتها في السياسية، والعمل الاجتماعي، والإنساني، والوطني، بالإضافة إلى الأكاديمي .

الخرطوم:صديق رمضان
صحيفة الصيحة