منوعات

السيلفي.. إنه ألم كونيّ


“سيلفي” مفردة إنكليزية مستحدثة ربما تكون هي الترجمة الضائعة للكلمة اﻷلمانية العصية weltschmerz التي تعني بتعريب تقريبي “اﻷلم الكوني”. ونمط أو ظاهرة السيلفي هذه التي انتقلت كغيرها من الصرعات من الغرب إلى الشرق ليست كما تبدو في ظاهرها، سلوكاً صبيانياً يمارسه من يعيش الحياة ولا يراقبها ويمتعض منه أصحاب النظارات السميكة؛ لكنها ظاهرة نفسيّة لا تنجح في إخفاء نفسها مهما حاولت، وهي إن لم تكن المرض فهي أول أعراضه.

أذكر أن طقوس التصوير في ما مضى كانت معقدة وأشبه بطقوس الذهاب إلى حفلة عرس أو اﻹعداد لدفن فرعون. كنا نجهّز قبل الذهاب إلى الاستديو ثياب العيد اﻷخير ونجري عليها البروفة أمام القسم السليم من مرآة الخزانة مرات كثيرة يكون آخرها قبل النوم مباشرة.

وفي الصباح، نمثل أمام المصوّر العجوز الذي يجهد في إجلاسنا بالوضعية المناسبة ولا يمنح بالطبع سوى فرصة واحدة غير قابلة للتكرار إلا بأجرة جديدة.

ثم علمنا من كتب التاريخ أن هذه المهنة قد تحوّلت بعد الحرب العالمية الثانية إلى أغراض توثيقية تعمل على نقل الواقع كما هو من دون بروفات، لتنقرض بعد عقود قليلة مهنة المصوّر مع ظهور كاميرا الديجيتال وتحوّل التصوير إلى شأن حميمي خاص، ولينتهي به اﻷمر مع تفاقم الليبرالية وسيادة نمط الحياة الغربية إلى شأن فردي تماماً يختار فيه الشخص طريقة وزاوية تصويره لنفسه، ثم تعديل ما يشاء منها توازياً مع حقه في التصرّف بكل ما يمسّه دون تدخّل اﻵخرين.

احتفال وطني يحضره بالصدفة ابن البطة السوداء

إنها ليست صورة يلتقطها شخص وجد نفسه بحاجة لالتقاط صورة نفسه ولم يجد حوله من يلتقطها له، أي إنها حالة – وإن بدت عابرة طارئة – تكشف بالبحث في ما وراءها عن آفة وجودية كونية تحفر بعمق وقسوة باطن نفس اﻹنسان ولكن ببطء يمنع الضحية من الصراخ وطلب النجدة بشكل مباشر.

إنها صورة المجتمع المنهك الذي اختزل إلى مجموعة من اﻷفراد، بعد أن ذاب ذلك الرابط الخفي الحميم الذي كان يؤلف في ما بينهم نتيجة الانفجار السكاني والانفجار العلمي معاً؛ الانفجاران اللذان أنتجا على الصعيد الدولي حروباً وصراعات مقنّعة بأقنعة القومية والدين والهيمنة السياسية واﻷيديولوجية وعلى الصعيد الشخصي بشراً أشبه بالحلزون لكل منهم قوقعته وطعامه.

يلقي التوتر النفسي والشد العضلي بظلاله على السحنة الملتقطة رغم الجهد المبذول والمكشوف في التقليل من آثاره. استفزاز الكاميرا يبلغ مداه اﻷقصى ويكون اصطناع ابتسامة باهتة ومضحكة أحد الحلول التمثيلية غير المقنعة حيث تكون اليد أبعد ما يمكن عن الوجه وتكون زاوية الالتقاط غالباً من فوق لتحت بشكل يبالغ – من دون قصد – في إظهار مستوى القزامة والضآلة.

إنها واحدة من تسليات المهاجر الذي ألقت به تصاريف القرعة في كامب منعزل وتحت رحمة قاض جرماني عبوس تتوقّف على كلمة تخرج من بين شفتيه إقلاع سفينة “لمّ الشمل” من وراء البحار حيث الضفة الباليوليتيكية للمتوسط.

السيلفي هو الحل الوحيد في إحدى غابات كولن، أو على أحد جسور فرانكفورت، أو حتى في احتفال وطني عام في برلين حضره بالصدفة “ابن البطة السوداء” الذي لا يعرف كيف يقول باﻷلمانية: “إذا سمحت التقط لي صورة أرسلها إلى أهلي كي يروا كم أنا سعيد في ألمانيا”.

ابن البطة السوداء الذي لا يجرؤ على لمس كتف ألماني خشية أن يكون الملموس من ذوي القمصان السود ولا التبسّم ﻷلمانية خشية أن يتهم بالتحرّش، فتراه يتخذ زاوية استراتيجية تظهره في قلب الكادر ومن خلفه أكبر عدد من اﻷجانب والخواجات والتماثيل ونوافير المياه ويقول “يامو… أنا هون”.

العربي الجديد