تحقيقات وتقارير

ظاهرة لم يألفها المجتمع السوداني أطفال الـ(آكشن).. احتيال تحت إطارات سيارات النساء


يخرجون فجأة من بين المقابر ليرتطمون بالسيارات
مقابر (فاروق والبكري والصحافة) أبرز نقاط ارتكازهم

إحدى الضحايا: قمت بدفع (5) آلاف جنيه مقابل لا شيء
اجتماعي: الدول النامية تستورد أساليب الجريمة من الإعلام العالمي

في يوم سبت تلبّدت فيه الغيوم وكاد الغيث ينهمر .. واتسم الطقس بهدوء نسبي وانعدام للمارة، وفي السابعة مساءً كانت د. أمل الفادني استشاري الطب النفسي تقود سيارتها متجهة من الشمال إلى الجنوب بشارع (محمد نجيب) وبالقرب من مقابر فاروق توقفت بسبب إشارة المرور.. فجأة ودون سابق إنذار وفي مشهد سينمائي أدهشها وسلب عقلها لمحت جسداً (طائراً) أمامها واصطدم بالزجاج الأمامي لسيارتها وأحدث به بعض الكسور، ثم قفز إلى الأعلى وسقط مغشياً عليه بالقرب من (الترتوار)، ترجّلت أمل من السيارة مذعورة لتكتشف أن من ارتطم بزجاج سياراتها هو طفل في الثالثة من العمر.

دم الغزال
روت الدكتور أمل لـ(الصيحة) عبر اتصال هاتفي كيف تعرّضت لعملية نصب واحتيال تم تنفيذها على طريقة الفيلم المصري (دم الغزال) الذي تناول ظاهرة الإرهاب بالشوارع مركزاً على أسبابها)، فقد ارتفعت وتيرة حالة الجمود والهلع التي أصابتها بعد أن وقع نظرها على نقاط الدم المنهمرة من على أنف الطفل لدرجة أنها حسبته من (الأموات)، وفي ظرف ثوانٍ تجمّع حشد من المواطنين وبدأت هي تتساءل بهستريا من أين جاء هذا الطفل؟ الذي ظهر أمامها بغتة، وفي ظل الارتباك والخوف تجمع أفراد آخرون أثاروا نوعاً من الربكة في المكان وطلبوا منها إسعاف الطفل بمستشفى (إبراهيم مالك)، حيث خضع هناك لإجراء صور (أشعة ومقطعية) تبين وجود (شج) بسيط في (الفخذ) الأيسر فأجريت له (جبيرة) وقرر الطبيب إخراجه.

خطة محمكة
اطمأن قلب (أمل) لأن الطفل على قيد الحياة، فمسحت بكفها الأيمن على وجهها في انتظار المشهد الآخر.. رأت ضرورة الذهاب إلى القسم حتى تخلي طرفها بعد الاطمئنان على صحة الطفل ـ ولكن صوت (أجش) من بين المرافقين ظهر صداه طالباً عمل تسوية، ويقول لا داعي للأقسام وفتح البلاغات و(سين وجيم) مدعياً أنه على صلة بالطفل، وبعد مشاورة تمت بينه وعدد من الأفراد طلب مبلغ (سبعة) آلاف جنيه حتى إذا ساءت الحالة الصحية للمصاب يتم إسعافه مرة أخرى فعرضت عليهم خمسة آلف جنيه لا غير.. لكن الطبيب المعالج أخبرها أنهم عصابة تستهدف (البنات) اللاتي يقدن عربات بالليل وهذه الحالة العاشرة التي تمر على المستشفى وبذات السيناريو والتفاصيل، ودائماً تنتهي بتسوية وابتزاز، كما أخبرها أن ذلك الطفل قام بأدوار مشابهة قبل شهرين في شارع ( الملك عبد العزيز) بالخرطوم، وفي كل مرة تحصل العصابة على مبالغ كبيرة، وفي بعض الأحيان ينتهي الأمر بتدوين بلاغات في القسم الجنوبي.

وتضيف أمل أنه تبين فيما بعد أن الطفل محترف جرائم الاحتيال ويعمل لمصلحة عصابة يقودها عدد كبير من المشردين كبار السن، وأن المجموعة التي نفذت عملية النصب ضدها اتخذت من مقابر فاروق متنفذاً لها، تنطلق منه وتنتشر في الشارع المعني لتبدأ النشاط اليومي المتفق عليه، وأبدت أمل تخوفها من خطورة الظاهرة التي تهدد المجتمع وتثير الخوف في قلوب الفتيات وطالبت بالتصدي لها قبل أن تتطور.

منافذ الانطلاق
في ضاحية راقية بالخرطوم يتم التخطيط لعملية الاحتيال واصطياد الفتيات وغيرهن من النساء وتحديد الشوارع المستهدفة في مبنى غير مكتمل التشييد يتوسط حي(….)، ثم يتم توزيعهم على بعض المواقع وهي مقابر البكري بأم درمان ومقابر الصحافة وفاروق فقد اتخذتها هذه المجموعات أوكاراً ينطلقون من داخلها بعد أن يحل الظلام، تجوّلت (الصيحة) بين المواقع الثلاثة حيث اتضح وجود ممر يربط مقابر فاروق ومبنى الكهرباء تحتله فئات عمرية محددة من المشردين بشكل كامل يفترشون (الكراتين) بالنهار ويتوزعون على الشوارع ليلاً، أما مقابر البكري فهي مهيأة تماماً لأن تكون مخبأ للصوص ومأوى للكلاب، أما مقابر الصحافة فحدث ولاحرج فالشوارع الرئيسية المحيطة بها تربط عدداً من المدن السكنية الراقية ويسهل صيد الفتيات فيها وارتكاب الجريمة التي تنفذ بواسطة أطفال تتراوح أعمارهم بين التاسعة والثالثة عشر من العمر يجيدون التمثيل جيداً ويعرفون كيف يحمون أنفسهم من الإصابات الخطيرة، تسخرهم عصابات لتنفيذ الجريمة، وعلى امتداد الشوارع المستهدفة يقف بعض من أفراد العصابة الكبار في السن لمراقبة المرور وتحديد لون ونمرة العربة لمعرفة نوع الضحية وذلك عبر اتصالات هاتفية، وآخرون ينتظرون أمام المستشفيات المتفق عليها (إبراهيم مالك بالخرطوم) ومستشفى (أم درمان التعليمي) لتكملة باقي (الخطة)، ودائماً يختارون الشوارع الرئيسية بالعاصمة.

الحذر واجب
عدد من الفتيات اللاتي يقدن سيارات استطلعتهن الصحيفة حول الظاهرة منهن اللواتي تعرضن للسرقة من مجموعات مشابهة داخل سيارتها، وأخريات تم الاحتيال عليهن لكنهن حسمن القضايا داخل أقسام الشرطة ولم يدفعن أي مبالغ مالية، من بينهن (عايدة إدريس المكاشفي) تسكن (حي الزهور) بالخرطوم وقد أبدت دهشتها لفنون التمثيل التي باتت تجيدها بعض العصابات للحصول على المال، وقالت إنها تعرضت لمثل هذا النوع من الاحتيال قبل شهر تقريباً وأن الحديث عن انتشار العصابات المعنية جعلها تحمل معها سلاحاً لإخافة من يحاول سرقتها أو الاحتيال عليها، وذلك بعد تعرضها لنصب من مجموعة مشردين ظهروا من داخل مقابر البكري بأم درمان وهي قاصدة منزل الأسرة بالخرطوم ولم يمهلوها حتى فرصة استيعاب الأمر، فقد قام أحدهم بنظافة زجاج السيارة وأثناء تحركها أدخل أطراف أصابع رجله تحت (اللستك) الخلفي وأطلق صراخاً، فنزلت لتستوضح الأمر فوجدته مصاباً وتجمع حوله مجموعة ملامحهم متشابهة، وحتى لا يأخذ الموضوع منحى آخر قامت بمنح المصاب مبلغ (500) جنيه حسب طلبهم ثم اختفوا من أمام نظرها، ومنذ ذلك الوقت بدأت تتحسب لأي ظرف سرقة طارئ.

دور الضحية
ومن بقالة مطلة على مستشفى (ابن سيناء) أكد المواطن (إسماعيل أبو شوك) تعدد الحوادث بالشارع، وأن الطفل (آدم ) الذي يمثل دور الضحية دائماً معروف لدى أصحاب المحلات التجارية والسوبر ماركت المنتشرة على امتداد شارع (محمد نجيب)، ويضيف أنه وقف على عدة حالات لكنه لم يكن يفهم ما يدور حتى علم فيما بعد أنها عصابة تشارك موتى مقابر فاروق السكن، وفي حالة تدخلهم أو التصدي لهم يتربصون بأصحاب المحلات و(يسرقونا على عينك يا تاجر)، أما في حالة اللجوء إلى أقسام الشرطة فإن البلاغات غالباً ما تدون ضد مجهول، وحسب رأيه فإن الظاهرة خطيرة ومنتشرة بالخرطوم جنوب وقد ارعبت عدداً كبيراً من النساء والفتيات وأدخلتهن في مشاكل مالية كبيرة، وطالب بأهمية مراقبة المقابر وزيادة عدد الخفراء بداخلها لحماية حرمتها وحماية الأسر القاطنة بالأحياء القريبة منها من مثل هذه المجموعات التي تسرق وتقتل وتعود إلى مخابئها دون أن يتصدى لهم أحد خاصة وأنها صارت مهدداً أمنياً، ولفت إلى أن المنطقة الممتدة من مقابر فاروق وحتى الصحافات مأهولة بالمشردين وغيرهم من مرتكبي الإجرام والجهات الأمنية تعلم ذلك تماماً ولا تحرك ساكناً.

قضية خطيرة
ولم تختلف (حليمة حسن) وهي تسكن حي الديم مع الرأي السابق حين قالت إن العصابات انطلقت إلى داخل الأحياء ويقومون بنفس الأدوار وباتت مهدداً أمنياً للجميع، والغريب حقاً أن وزارة الداخلية تعلم بهذه الظاهرة وتوجه الضربات المتلاحقة لمن يديرونها لكن انتشارها خلال الفترة الأخيرة يتطلب مجهوداً من نوع مختلف، ووضع خطة شاملة لصيد هذه العصابات ومنعهم من التجمع داخل حرم (مقابر) الولاية فلم يعد من المقبول أن تكتفي السلطات بمجرد تسجيل القضية فيجب أن تتخذ أبعاداً أخرى.

ظاهرة مخيفة
في تحليله للظاهرة حمّل الدكتور أيمن غبوش استشاري علم الاجتماع مسؤولية تكرار تلك الجرائم إلى شرطة المباحث والشرطة الشعبية باعتبارها تلعب دوراً فعالاً في محاربتها، والحد منها بتشكيل كمين على المقابر التي عرفت بأنها مخابئ للعصابات المتشردة، ويضيف بأن هذه السلوكيات المدفوعة بعوامل اجتماعية ثقافية ونفسية وفقر وغيرها بحاجة إلى التوقف ليست لتضخيم المشكلة أو تعميم الحالات بل لأنها ظاهرة مخيفة، كما أن ممارسة السلوك نفسه يعني تعميم الفكرة التي أوجدته على مجتمعات أخرى، ولفت إلى أن المقابر أصبحت مكبات للنفايات ومأوى للكلاب الضالة ومن الطبيعي أن تتحول إلى أوكار لارتكاب الجريمة طالما أن هناك نوعاً من الإهمال وعدم المراقبة والمتابعة من الجهات المعنية بالأمر ، وتوقع محدثي بروز ظواهر أخرى إلى السطح من خلال ما تعرضه وسائل الإعلام العالمية من أفلام وقصص وحكايات وكأنها تصدر للدول النامية أحدث الأساليب في ارتكاب الجرائم.

تفشي الظاهرة
من ناحيته لم يخف الخبير الاقتصادي محمد زين حامد تخوفه من تفشي الظاهرة وغيرها من الظواهر السالبة التي تهدد أمن المجتمع والتي نتجت لدوافع الحاجة والجوع والفقر الذي يعيش تحت وطأته 90% من الشعب السوداني مع عدم وجود أي نوع من المشاريع التنموية المستمرة التي يمكن أن تساهم في القضاء على كل الجرائم، بالتالي الأمر يتطلب المزيد من الجهود المشتركة بين الأجهزة الأمنية ووزارة الرعاية الاجتماعية لجمع هؤلاء المشردين الذين يرتكبون جرائم منظمة ومدروسة، ويجب أن تقوم المنظمات المسؤولة عن القبور بالتعاون مع وزارة الأوقاف بمحاربة الظاهرة وذلك من خلال تقنين بيئة القبور وحمايتها.

بعد العرض
يتضح من ثنايا التحقيق أن المقابر تحولت من أماكن لتواري أجساد الموتى إلى مخابئء للصوص والمجرمين.. فظاهرة الاحتيال بهذه الطريقة لم يألفها المجتمع السوداني من قبل.. خاصة أنها تثير المخاوف وتحدث فوضى بالشوارع المستهدفة في قلب العاصمة (الصيحة) تضم صوتها للأصوات المطالبة بالتصدي للظاهرة ومحاربتها بشتى الوسائل والمحافظة على بيئة دفن الموتى.

تحقيق : إنتصار فضل الله
صحيفة الصيحة


تعليق واحد

  1. ووين الدوريات بتاعت الشرطة والشرطة الشعبية وغيرها … متكين البكاسى داقين الحنك فى الفارغه ومشغولوين بالوطوطه على الجوالات؟