سياسية

التسول في الخرطوم .. تخطيط وراء الظاهرة


-توصلت فرق بحث ميدانية مشتركة بين شعبة الظواهر السالبة بشرطة أمن المجتمع والرعاية الاجتماعية بولاية الخرطوم، إلى معلومات خطيرة حول ظاهرة التسول التي تديرها شبكات متخصصة في تهريب البشر واستغلال النساء،

فضلاً عن دخول طالبات جامعيات في دائرة التسول المنظم.. (الإنتباهة) ومن داخل غرفة عمليات مكافحة التسول بشرطة أمن المجتمع بالمقرن، رصدت أكبر حملة قادتها السلطات بغرض التصدي للظاهرة وتفكيك شبكات التسول بعد القبض على أكثر من (500) متسول غالبيتهم العظمى من الأجانب، بينهم حوالى (80) طفلاً تتراوح أعمارهم بين (6 أشهر و5) سنوات.
من داخل غرفة العمليات
عند المدخل الشمالي لشرطة أمن المجتمع بالمقرن، تقف ثلاثة دفارات محملة بالنساء والأطفال، وهي ثلاثة أفواج تم حصرها وتصنيفها استعداداً لتحريكها صوب محكمة النظام العام، لا تجمع بينهم لغة ولا لون ولا علاقات واضحة، فالدفارات تحمل مجموعات نساء لا تعرف بعضها، من دول إفريقية وعربية لا يجمع بينهم إلا امتهان التسول، أما في الصالة الرئيسة يقف النقيب شرطة مالك أبكر علي رئيس شعبة مكافحة الظواهر السالبة بأمن المجتمع، تحيط به المتسولات من كل جانب، مجموعة كبيرة من الأطفال يلعبون في براءة منقوصة ما بين الحراسة والصالة دون أي رقيب، أحد الباحثين علق قائلاً: (فرحة هؤلاء الأبرياء بسبب ايوائهم من هجير الشمس وشربهم للماء البارد بلا مقابل).
داخل مكتب الضابط المناوب وهو من أكبر مكاتب أمن المجتمع حوالى (6) باحثين اجتماعيين من الجنسين، كل منهم يجلس إلى مجموعة بمعاونة مترجم، وفي الناحية الجنوبية للمكتب تستلقي على الأرض إمرأة مصابة بالصرعة، وتقف على رأسها إمرأة اخرى تحمل رضيعاً يصرخ بلا توقف، تزداد صرخاته كلما شعر بالجوع أو تزايدت صرعات أمه الغائبة عن الوعي.
حملات مكثفة
النقيب شرطة مالك أبكر رئيس شعبة الظواهر السالبة بأمن المجتمع أفاد (الإنتباهة) بأن الحملات استهدفت محاصرة الظاهرة انفاذاً لخطة وضعتها شرطة الولاية وشرطة أمن المجتمع، نسبة لنشاط هذه الظاهرة خلال العشر الاواخر من رمضان، وقال انهم اي المتسولين يتمركزون في أماكن محورية بالخرطوم وعند التقاطعات والاسواق، وبعد تكثيف الحملات على الشوارع الرئيسة واماكن التجمعات انتقلت الظاهرة للاحياء وطرق الابواب، وقال إن الخطورة تكمن في أن معظمهم أجانب قادمون من دول افريقية وعربية، دخلوا البلاد بطرق غير شرعية مما يشكل خطراً صحياً وبيئياً على العاصمة، موضحاً أن الحملات مشتركة وبالتعاون مع ادارة الرعاية الاجتماعية التي تقوم بمهمة البحث العلمي والتصنيف، وفي ما يتعلق بالتسول المنظم قال مالك: تجرى الآن عمليات تحرٍ دقيقة لمعرفة إن كان هذا التسول منظماً أو غير ذلك، ولكن ظهور بعض الحالات الغريبة كدخول بعض الطالبات الجامعيات يشير الى أن هناك تخطيطاً وتنظيماً وراء الظاهرة. وأكد أن حملات أمن المجتمع المشتركة ستتواصل لمحاربة ظاهرتي التسول والتشرد، واضاف قائلاً: قمنا بحملة الاسبوع الماضي تحت شعار (الخرطوم خالية من التشرد) واسفرت الحملة عن توقيف اعداد مقدرة من المشردين، وبدأنا الحملة الثانية بمحلية الخرطوم بمشاركة أمن المجتمع في كل من منطقتي الديم والخرطوم شرق، وأسفرت الحملة عن فتح (440) بلاغ تسول، ومازالت الحملة مستمرة بالتنسيق مع الرعاية الاجتماعية، وتم تشكيل غرفة عمليات داخل أمن المجتمع المقرن. وسألنا رئيس الشعبة حول ما هية التصنيف، فقال إنها عملية توضح وتحدد نوعية المتسول وجنسيته، وعلى ذلك يتم اتخاذ القرار بأن يذهب للمعسكرات الخاصة بهم إما ببلاغ أو بنصح وارشاد، وحول ما اسفرت عنه الحملة الاخيرة قال: بالدفارات ثلاثة افواج في طريقها للمحكمة الامر الذي يشير الى تصنيفهم ببلاغات.
الأطفال بالشوارع
يعاني أطفال التسول من مرارات شديدة وهم يستغلون في الشوارع لجمع المال عن طريق التسول، وقال النقيب مالك: تم فتح اكثر من (176) بلاغاً بهذا الخصوص خلال يومين، وتمت كتابة تعهدات وتسليم الاطفال لاسرهم، فيما تم تحويل بعض منهم الى المعسكرات.
استغلال الأطفال القصر
الباحث النفسي عنايات بابكر عمر التابعة لمركز حيدر الإدريسي الوحدة الميدانية، كشفت عن تطور الظاهرة وسط الأجانب وقالت لـ(الإنتباهة) إن أخطر ما في التسول استغلال الأطفال والفتيات والقصر، وأشارت الى بيئات سيئة ومخاطر تحيط بهؤلاء الصغار، وقالت الظاهرة في تطور خاصة بعد ظهور حالات غريبة، كطالبات الجامعة، فسألنها ما الغريب في الأمر، فقالت لم نعهد طالبة جامعية تمتهن التسول، وقد أجرينا بحثاً مع طالبة والتزمت الرعاية الاجتماعية بحل كل إشكالاتها من رسوم وسكن وإعاشة وغيرها : للأسف رغم ذلك (نزلت للشارع تتسول)، مما يشير الى امتهانها للظاهرة واحتياجها لعلاج قد تطول مدته.
الباحثة(ن/أ)، قالت إنها بحثت مع قاصرة أنجبت طفلين سفاحاً واعترفت بكل هدوء أن لكل طفل أب مختلف وأن ما فعلته من جريمة لا تعتبره عاراً، وهذا يشير الى واحدة من البيئات السيئة، وأشارت الى تفشي أوبئة وأمراض خطيرة بين هذه الفئات.
معالجات بحثية
جلسنا ايضاً الى الاختصاصي النفسي عبد الله حسن حمد النيل التابع لفريق البحث الميداني بوزارة التنمية الاجتماعية الادارة العامة للرعاية الاجتماعية، وقال: تمت هذه الحملة بالشراكة لايجاد معالجات وتقديم خدمات متعلقة بالرعاية الاجتماعية للمتسولين، واجراء الرصد والتحليل في ما يتعلق بالظاهرة، كاشفاً عن مهمتهم البحثية الخاصة بالتصدي للظاهرة، وقال: ترتفع ظاهرة التسول وبشكل خاص في شهر رمضان، حيث اتضح ومن خلال البحث ان الغالبية اجانب من دول النيجر ونيجيريا وسوريا واليمن، وهذه دول تشكل نسبة تسول عالية بالخرطوم، ويعمل التصنيف على تحديد المتسولين والمشردين عن طريق الدراسة والتحليل للقياس، واضاف انهم يعانون من اشكالية اللغة، حيث أن الغالبية تتحدث بلهجات افريقية مما يتطلب الاستعانة بمترجمين لهذا الغرض.
تسول منظم
دار سؤال حول تقييم ظاهرة التسول ما بين الحاجة والفقر والعمل الاجرامي المنظم الذي تقوده شبكات تهريب البشر، فقال احد الباحثين فضل حجب اسمه: التسول المنظم موجود بالسودان، ويدار بافراد خارج الاطار المتعلق بجمع المال والشراكات، فالتسول العشوائي والعادي يراعي فيه المتسول مصلحته فقط، اما المنظم فإن المتسول يعمل لصالح جهات بالمقابل، وأكد الباحث أن معظم المتسولين الأجانب جاءوا عبر مستفيدين آخرين بالتعاون مع الوجود الاساسي في السودان، ومن اهم اعمالنا تفكيك هذه الشبكات، كما اكتشفنا من الرصد أن عدداً كبيراً من المتسولين بالعاصمة قادمون من الولايات وعدد أكبر من خارج السودان، والغريب في الأمر لأول مرة ظهور طالبات جامعيات يمددن أيديهن، واعداد كبيرة جداً من الاطفال لا علاقة تربطهم مع بعض، مما يشير الى انهم يستغلون لاستدرار العطف، فالأطفال مسألة أساسية في التسول.
معلومات خطيرة
كشفت تحريات وبحوث دقيقة عن إجراء عمليات لتوزيع الأطفال واستلافهم للعمل في التسول، واتضح أن هناك ممارسة خطيرة حيث يتم تحديد سعر الطفل المحمول والطفل الراجل لاستدرار العطف، وأن هناك جهات تعمل على توزيع المتسولين في الشوارع والتقاطعات لتحقيق ربط معين من المال، وحين تحقيق هذا الهدف يتم تحفيز الطفل بعشاء خاص، وامتيازات أخرى لم يتوصل التحري لها بعد.
قانون بلا ردع
طالب مراقبون بضرورة مراجعة التشريعات وإيجاد أحكاماً رادعة لحسم ظاهرة التسول التي باتت تشكل خطورة على الأمن المجتمعي والاقتصادي، إذ تُدار عمليات التسول المنظم بمليارات الجنيهات وهي أموال غير مقوَّمة تدخل في عمليات غسل الأموال والتأثير على الاقتصاد القومي، وكشف قانوني أن السادة القضاة محاصرين بأحكام ضعيفة رغم علمهم بخطورة الظاهرة حيث تتراوح الغرامات ما بين (50- 100) جنيه، وقال سبق أن حكم قاضٍ على متسول بغرامة (13) جنيهاً فقط،
تسول في الظلام
من خلال رصد ومتابعة غرفة عمليات مكافحة التسول اتضح أن الأجانب السوريين أكثر الفئات تسولاً بإلحاح شديد، وانتشار على الطرقات الرئيسة والمساجد، وتشغيل الفتيات في مقتبل العمر، الأمر الذي قد يثير فتناً، وسط الشباب، كما أنهن ينتشرت في أوقات متأخرة من الليل.
مع الطالبة المتسولة
بينما هممت بالخروج من غرفة العمليات فإذا بشاب يبدو حزيناً، ومنفعلاً اغرورقت عيناه دمعاً وهو يسأل عن قريبته الموقوفة بالحراسة، ويطلب مقابلتها، وعرفت إنه من ذوي الطالبة الجامعية التي تتسول في طرقات الخرطوم، فسألته: هل كنت تعلم أنها تمارس التسول؟ فقال لا، قلت وماذا أنت فاعل بعد أن عرفتها؟ قال لا أعلم مازلت مندهشاً فهي لم تك في حاجة تستدعي مد يدها للآخرين، ساعتها حرصت على مقابلتها، لأسمع منها وما هي دواعي ذلك، وتمكنت من ذلك فكانت إجاباتها غريبة وبعضها صامت بلا رد، تقول الطالبة (م)، إنها تدرس المحاسبة بجامعة (…)، تعلمت التسول من خالتها التي لا يعلم أحد من الأسرة بمهنتها، وتخرج للشارع (مبلمة) أي مغطاة الوجه، وقالت إن المهنة مربحة والشعب السوداني شعب طيب وتستطيع جمع مبلغ مالي يتجاوز الـ(100) جنيه في اليوم و(مرات أكثر من كدا)، سألتها لماذا لم تقتنعي بمعالجة الرعاية الاجتماعية فصمتت ولم ترد. طالبة أخرى بجامعة في إحدى ولايات الشرق جاءت مع والدتها خصيصاً لممارسة التسول في الخرطوم وقالت إنها اعتادت أن تتسول في هذا الموسم بالخرطوم لأنه موسم (زكاة الفطر)، ووالدتها على علم بعملها.
زعيم الهوسا… معلومات مثيرة
غالبية الذين تم توقيفهم في هذه الحملة يسكنون منطقة مايو وهم من قبائل تنحدر من دول الجوار، وكان من ضمن المتابعين لهذا الملف زعيم الهوسا بالخرطوم خليل إبراهيم بروس وقد أفاد (الإنتباهة) بأن معظم هؤلاء المتسولين ضحايا لشبكات الاتجار بالبشر، وهم قادمون من نيجيريا والنيجر، تم تهريبهم بعد خداعهم بأنهم بالقرب من مكة المكرمة، فيحملونهم على ناقلات كبيرة وبينهم أطفال ويتركونهم في السودان، فتنقطع بهم السبل بعد أخذ أموالهم وجوازاتهم، فيلجأون للتسول أما فرادى او تتلقفهم شبكات التسول بالسودان، وهي شبكات مجهزة بمكاتب واستشاريين وموظفين. وقال هناك عدد كبير منهم توفوا بسبب الإهمال او الغرق في البحار، ويرى بروس أنهم يبحثون عن طرق تعيدهم الى ديارهم ويمكن أن يتم ذلك بالتنسيق مع السفارتين.

الانتباهة