رأي ومقالات

(أمنجي)!


-1- قبل فترة ليست بالطويلة، كتبت رئيسة القسم السياسي بهذه الصحيفة، الأستاذة لينا يعقوب، في عمودها تحت عنوان (فوبيا الأمن).
لينا أوردت مشهدَيْن طريفَيْن عن خوف الصحفيين والكُتَّاب، من الاقتراب من حِمى الأجهزة الأمنية.
طلبت لينا من المُحرِّرة معها في القسم السياسي، إيمان كمال الدين، إعدادَ تقريرٍ حول الجدل الذي أثارته زيارة عددٍ من رؤساء التحرير والصحفيين لأكاديمية الأمن العليا، واستعراض وجهات النظر حول المنح الدراسية المُقدَّمة من الأكاديمية للصحفيين.
ما دفع لينا لاختيار الموضوع، النقاشات الساخنة في وسائل التواصل الاجتماعي حول الصورة الجماعية المُوثَّقة أمام مباني الأكاديمية، لعددٍ كبيرٍ من الصحفيين والكُتَّاب مع قادة الأكاديمية.
البعض تعامل مع الصورة الجماعية باعتبارها دليلَ إثبات قوياً على (عمالة) كُلِّ الصحفيين الموجودين داخل إطار الصورة لجهاز الأمن.. (جواسيس يعني).
-2-

المُفارقة الطريفة، أن المُحرِّرة إيمان قامت بسحب اسمها من التقرير، ونسبته للقسم السياسي، وهي “عادةٌ” يلجأ إليها الصحفي في حالات مُختلفة، أهمُّها حينما لا يقتنع بالمادة التحريرية التي كُلِّف بإنجازها.
سألت لينا المُحرِّرةَ إيمان: “ما كاتبة اسمك ليه؟”.
تبسمت إيمان وتعلثمت وردَّدت كلماتٍ كان معناها: “ما عايزة اسمي يتكتب في تقرير ناس أكاديمية الأمن”!
وذكرت لينا أنها حينما حضرت الجلسة الافتتاحية لورشة لجنة أجهزة الأمن والمخابرات الإفريقية “السيسا”، مرَّ من أمامها مصور يلتقط صوراً للمُشاركين، فاستأذنها قائلاً: “ممكن أصوِّرك ولا ما بتحبي تتصوري في الجهاز؟”.
وبرَّرت كاتبة العمود كُلَّ تلك التصرفات والتعليقات على النحو الآتي:
إن مُجرَّد زيارة مباني جهاز الأمن أو تغطية أنشطة الجهاز، يُعَدُّ سبباً كافياً لكيْل الاتهامات والتشكيك في نزاهة الصحفي، وهو ما دفع بعض الصحفيين الذين زاروا الأكاديمية، إلى العزوف عن التقاط أيِّ صورة لهم.
-3-

في أيام احتلال هجليج من قِبَلِ دولة الجنوب في طفولتها الطائشة، عَقَدَ الفريق أول محمد عطا مدير جهاز الأمن والمخابرات مؤتمراً صحفياً بمباني الجهاز، عن سير عملية تحرير هجليج.
عقب المؤتمر سعيتُ ومعي صديقي العزيز عادل سيد أحمد خليفة رئيس تحرير صحيفة (الوطن) وقتذاك، على هامش المؤتمر الصحفي، لأخذ تصريحات من مُدير المخابرات.
الفريق محمد عطا، تعامل معنا بلُطف وود رغم امتناعه عن تقديم أي معلوماتٍ خارج ما أدلى به في المؤتمر.
مُصوِّر الصحيفة سعيد عباس، التقط لنا صوراً مع مُدير المخابرات، ضمَّت شخصي والعزيز عادل سيد أحمد.
-4-
سكرتير التحرير، رجل التجويد والدقة، مجدي الخليفة، استشارني قبل تصميم مادة المؤتمر الصحفي بطريقة حذرة: (يا أستاذ ننزِّل ليك مع المادة صورتكم مع محمد عطا؟).
عرفت مغزى السؤال، قلت له: (طوالي يا مجدي نحن في الصحافة، ما نخشى أن يطَّلع عليه القُرَّاء يجب ألا نفعله في الأساس).
(الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس).
المُهم، نُشِرَ تقريرٌ رصد المؤتمر الصحفي للفريق أول محمد عطا في النسخة الورقية؛ وفي موقع الصحيفة تم نشر التقرير والصورة التي جمعت الفريق وعادل وشخصي غير الضعيف.
منذ ذلك الوقت إلى اليوم، درج بعض مُعارضي الأسافير على إعادة نشر الصورة باعتبارها دليلَ إدانة على تورُّطنا في علاقة آثمة مع الأجهزة الأمنية.
-5-
أذكر فرحتي، ونحن في بداياتنا الصحفية بفرصة أتاحها لنا، صاحب الأخبار غير القابلة للنفي، المرحوم عمر الكاهن، لالتقاط صورٍ مع الفريق صلاح قوش، عندما كان مُديراً عاماً لجهاز الأمن، في أيام سطوته وغموضه.
كنتُ أضحك في كُلِّ مرَّة، حينما أجد أحدهم في لحظة غيظ أو غضب يستخدم تلك الصورة – مع الفريق محمد عطا – باعتبارها صورةً مُسيئةً لمهنيَّتي الصحفية.
أضحك من غباء الاتهام وسذاجة الكيد.

وهؤلاء إما لجهلهم وضعف معرفتهم بطبيعة العمل الصحفي، لا يعلمون أن الصحافة مهنة علنية، للشفافية والوضوح؛ أو أنهم يعلمون، ولكن يفعلون ذلك على سبيل الكيد والتشويش على البسطاء وغمار الناس.
الصحافة ليس فيها من السرية إلا ما تقتضيه حماية المتعاملين معها والمصادر أو المعلومات التي تتطلَّب المصلحة العليا للدولة وضعها في حيِّز السرية.
-6-
ما لا تعلمه الزميلة لينا يعقوب، ومن هم في عمرها، أن (فوبيا الأمن) حالة سودانية، مصدرها ما كان يُكتب ويُروى من قصصٍ عن فترة حكم الرئيس جعفر نميري والإنقاذ في سنواتها الأولى.
حكاياتٌ وقصصٌ اختلطت فيها الحقائق بالشائعات.
يكفي فقط أن يُقال لك (أمنجي)، حتى يفرَّ منك القريب، ويعزف عن الاقتراب منك البعيد.
-أخيراً-
أتمنى أن تنصبَّ أول جهود أكاديمية الأمن العليا، بمبانيها الفخيمة، على البحث عن كيفية تصحيح وتعديل الصورة الذهنية المرسومة في مخيلة الكثيرين عن الأجهزة الأمنية.
عندما يحدث ذلك سيصبح التقاط الصور مع قيادات الأجهزة الأمنية، أكثر جاذبية من التقاطها مع مشاهير السياسة ورُوَّاد عالم كُرَة القدم والغناء.
وسيصبح القول لشخص بأنه (أمنجي) وصفاً مهنياً جديراً بالاحترام والتقدير، وليس إساءة.

ضياء الدين بلال