تحقيقات وتقارير

يواظب علي عبدالله على ممارسة فن خياطة الجلابيب بإتقان لكنه يتحسر بشدة على أفول نجم حرفة الترزية! “نهاية وشيكة”


عندما تطأ قدماك أرض الطابق الثالث في عمارة الضرائب القديمة الواقعة عند تقاطع شارع الحرية مع البلدية، وقبل أن تنحرف في مسيرك شمالاً مع الممر الطويل، تجد على يمينك (علي عبدالله البدوي) ينكب على مكنته العتيقة داخل محل صغير تطل شرفته على مبان عتيقة تجاهد لحجب مستشفى سنت ماري للنساء ومدرسة الراهبات وإطلال منزل الفنان متعدد المواهب وليم أندريا.
سنوات طويلة قضاها علي عبدالله يفصل ويخيط الجلابيب الرجالية، حين يسترجع بعضاً منها يبدو متأثراً، وتكاد الدموع تتحجر في مآقيه حزناً على اقتراب أجل ونهاية حرفة الترزية التي كان لها صيت ومهابة قبل أن يتساقط أساطينها الكبار.

وفاء وتبجيل
يعمل علي عبدالله يومياً بهمة على ماكينته ويضع أمامه ماكينة أخرى يتأملها بين الحين والآخر يقول عنها إنها ماكينة مبارك السماني. هكذا يحدثك عن هذا المبارك السماني وكأنك تعرفه، وحين تستدركه: من هو مبارك السماني يا شيخ علي؟ يوقف عمله تماماً لكي يجيبك بأنه أستاذه في المهنة الذي لم يبخل عليه بالصنعة، حين جاءه صغيرا يمني نفسه بأن يصير ترزيا، فاحتضنه بحنان أبوي وعلمه فنون الخياطة وأبجديات التعامل مع الزبائن واحترام خصوصياتهم والأمانة والنزاهة والإخلاص في العمل.
لم ينته علي عبدالله من حديثه عن معلمه كما يصفه إلا ليقودك للحديث عن عصر ازدهار الخياطة، حين كان الترزي هو مركز السوق، ودكانه عبارة منتدى يلتقي عنده الجميع من كل حدب وصوب، كما يصف.

تاريخ ناصع
لا يكتفي علي عبدالله بسرد تاريخ ناصع لحرفته المحببة، إنما يبدي حزنه جلياً على اهتزاز عرش مملكة الترزية، واندثار الإرث العظيم الذي شيد بنيانه رجال أفنوا عمرهم خلف الماكينات. وأضاف متألما “لم يكن الواحد يدخل هذا المجال رغبة في أكل العيش، بل كان تعلم الخياطة هواية محببة غرسها في نفوسنا ونحن صغار الترزية الكبار الذين كانوا يظهرون بمظهر رائع يليق بالرجال”. واستطر “كان التلميذ يدرب أولاً بالأعمال الصغيرة كتركيب الزراير وعمل الكفة، وفي بعض الأحيان يسمح للتلميذ بالجلوس على الماكينة في حين يذهب المعلم للصلاة مثلا أو لمشوار صغير والويل لمن يمس جلابية دون أن يغسل يده جيدا بالصابون”.

اقتراب النهاية
يسقط علي عبدالله الماضي على الحاضر، وهو يتأمل الواقع من داخل محله الذي رغم ضيقه، يسع الزبائن والزوار وجيران العمل كقلب صاحبه، ويتنبأ بناهية وشيك لحرفة الترزية بقوله: “قريباً سوف ينعدم الترزية وتصير الجلابية من ذكريات الماضي، لأن عدد الترزية القادرين على العطاء أصبح معدوداً ومحدوداً وبتوقف عطاء هؤلاء سوف تتلاشي المهنة، لأن اليوم لا يوجد تلاميذ، كما في السابق يرغبون في تعلمها”.

لا يتوقف حزن علي عبدالله على عدم وجود تلاميذ يمثلون جيل المستقبل، إنما يظهر حزنا أكثر على أن الرجال صاروا لا يهتمون بأناقتهم كما كان في السابق. وأشار “صرنا والله نفرح حين يأتينا شخص بقماش يليق بالجلابية، ونفرح أكثر حين نرى رجلاً كامل الهندام، يرتدي الجلابية بكامل ملحقاتها، عراقي، وسروال، وجزمة، وساعة، وعمة وملفحة”.

ويختم بحسرتين أولاهما أنه خلال الموسم كله لا يأتيه أكثر من عشرة أشخاص بقماش جلابيب راقية وثانيتهما التجاهل الكبير الذي يلاقيه الترزية الكبار الذين صار بعضهم لا يقوى على العمل، ولكن لا يجد من يمد له يد المساعدة لا من الدولة ولا الجهات الخيرية الاجتماعية.

الخرطوم – محمد عبدالباقي
صحيفة اليوم التالي