الصادق الرزيقي

قريب من أمريكا بعيد عن الله..!


توطئة وهذيان سياسي
للرئيس المكسيكي الأسبق بورفيرو دياز (1830- 1914) وحكم بلاده من (1876- 1911 ) ، مقولة خالدة وطريفة، ليتها تُعلَّق قلادة او تعويذة على جيد السياسة السودانية المعاصرة، المُزين بالآمال العراض. وسياستنا هي تخطب وُد السياسة الأمريكية وترتجيها ، فقد قال وهو مملوء بالسأم يوماً وبالقنوط:

« مسكينة هي المكسيك..لبعدها عن الله ، ولقربها من الولايات المتحدة ..»!
في ذات الوقت.. هناك قضايا عصية على الكلام كما قالت أنديرا غاندي في الهند ذات يوم عن شجاعة السياسيين :

« لا يوجد في الهند سياسي شجاع بما فيه الكفاية لأن يحاول شرح أن الأبقار يمكن أكلها ..»
في كلا الحالتين ، يُخيَّل إلينا في حوارنا مع الولايات المتحدة أننا بعيدون عن الله وقريبون من واشنطن ..! وألا أحد من السياسيين يستطيع أن يقول لنا إن بقرة أمريكا يمكن أكلها دون الخوف منها..!

هل كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تعامله مع موضوع رفع العقوبات عن السودان ، يستلهم ما قاله هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ، ونحن جميعاً مشرئبي الأعناق في انتظار قراره ؟، لقد وضع له كيسنجر خارطة طريق تقول :

« السياسة هي فن تأجيل القرارات حتى تصبح بلا جدوى ..» !
> حَفِل الأسبوع الفائت وفاض ، بحادثاتٍ جِسام على المستويين الداخلي والخارجي، انعكس صداهما على الوضع المحلي ، واجتذبا اهتمامات الرأي العام هنا وفي العالم حولنا القريب والبعيد ، وتصدر السودان واجهة الأحداث والأخبار وهو وسط خضم متلاطم من التطورات الجارية دولياً وإقليمياً، وتحولات متلاحقة في المنطقة العربية التي باتت تمشي حافية القدمين فوق سطح صفيح ساخن .. وتزاحمت في هذا الأسبوع قضايا وهموم من تأجيل البت في رفع العقوبات الأحادية الأمريكية ، الى إنهاء حالة التجميد والتعليق لاتحاد كرة القدم السوداني ، ثم تصريحات السيد وزير الإعلام الدكتور إحمد بلال في القاهرة التي عدها البعض كبوة جواد ، و يا له من جواد مطهم عتيق في وقتٍ تتوارى فيه عن الحلبات جياد الأحصنة ..!

وربما يوجد خيط رابط وناظم، لما يحدث في الداخل والخارج ، العالم بات متداخلاً ومتقاطعاً ومتشابكاً أكثر مما نتصور، فهو مثل شبكة الصياد ، ما يحدث في بقعة ضئيلة خاملة الذكر في أي مكان في أصقاع العالم هناك تجد له صدى في بقاع الدنيا كلها كأنك تقرع طبل في حجم كوكيب ضخم يصل صوت القرع الى كل الأسماع ..

في مشهدنا المحلي هناك نقاط لابد من التوقف عندها وقراءتها قراءة متأنية بغض النظر عن ما ستؤول إليه الأمور بعد حين، فضرورات الشأن السياسي في كثير من الأحايين مقدمة على غيرها وما هو دونها او فوقها ، فالسياسة قاطرة تجر خلفها بقية التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها ، ولم تكن بلادنا في حاجة الى قياس تفاعلاتها مجتمعة بمعزل عن ملف العقوبات الأمريكية المفروضة منذ العام 1997 ، وقد تشكل الواقع السوداني في كل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية على خلفية هذه العقوبات التي نخرت في العظم ، ولولا قوة عظم ظهر السودان ، لكان قد تلاشى و انهار كما انهارت دولاً كانت أكثر منه مالاً وعدداً وعتاداً ..

ويكشف ملف العقوبات عن حقيقة العقلية الغربية التي لم ولن تتغير ، وهي عقلية استعلائية جلفة تقوم على المصالح فقط والمنافع ولعبة السياسة من حيث الربح والخسارة ، فمنذ أن أصدر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قراره في يناير ، بتخفيف العقوبات ووضع قيداً زمنياً للرفع النهائي لها في الثاني عشر من يوليو 2017 أي بعد ستة أشهر ، وكان مبررها التأكد من مدى التزام السودان بما تم الاتفاق عليه بين لجنتي الحوار من الجانبين السوداني والأمريكي ، منذ ذلك الحين لم يكن من أحد يتصور أن يكون هناك قراراً آخر غير الرفع النهائي للعقوبات ، بسبب أن الإدارة الديمقراطية المنصرفة بتوجيه من البيت الأبيض جلست الى فريق الرئيس المنتخب آنذاك دونالد ترامب لإطلاعه وأخذ رأيه قبل صدور قرار أوباما بشكل رسمي ، ووافق فريق ترامب على القرار، وعندما تولى السلطة ظلت مؤسسات الإدارة الأمريكية تتواصل مع مؤسسات الحكومة هنا في الخرطوم وزارت فرق أمريكية السودان في إطار عمل المؤسسات المعنية واللجنة المكلفة بالحوار وانخرطت في عمل متواصل لطي ملف المسارات الخمسة ، بما انتهت إليه اللجان المشتركة ، وتم رفع التقارير من مؤسسات الإدارة الأمريكية للبيت الأبيض ووضعت أمام ساكنه الأكبر الرئيس ترامب ، وكان المأمول أن يكون القرار هو استجابة لما جاء في تقارير الجهات ذات الصلة ، لكن الرئيس ترامب فاجأ الجميع بالأمر التنفيذي القاضي بتأجيل القرار النهائي حتى أكتوبر المقبل، ويعود السبب في ذلك الى عاملين مهمين هما :

> شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقراراته المتقلبة والمفاجئة حتى للداخل الأمريكي ، كان لها ظلال قوية على القرار الخاص بالسودان ، فهو يعيش أوضاعاً هشة تهدد وجوده وشرعيته وتحاصره اتهامات من كل مكان ، وتنشط حملات إعلامية وسياسية وقانونية ضده بين الفينة والأخرى . ففي الوقت الذي اقترب فيه موعد الرفع الكامل للعقوبات عن السودان زادت الحملات المسعورة من منظمات وناشطين ومن أعضاء الكونغرس تحركوا ضد رفع العقوبات عن السودان ، فآثر الرئيس أن يخالف توصيات مؤسساته وسبح عكس تيارها مؤثراً سلامة موقفه السياسي عن الحقيقة الساطعة الموضوعة أمامه بأن السودان استوفى تطبيقاً كاملاً لالتزاماته وليس هناك إلا إعطاء صك براءته من أية تهمة باطلة، ورفع العقوبات فوراً .
> لكن الرئيس ترامب المحاصر بمشكلاته الداخلية وتردده وتناقضاته، يركله الموقف الصحيح حيناً فيلقفه الضلال .

> الأمر الثاني أن التركيبة الحالية داخل البيت الأبيض وغياب من يعرفون طبيعة وأهمية العلاقة مع السودان بين الفريق الرئاسي الأمريكي ، وغياب بقية أركان الإدارة والموظفين الفنيين والمراجع في تقدير الحالة السودانية مثل مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقي ومسؤولي ملف السودان في الخارجية الأمريكية ومبعوث خاص وشخص تتوفر لديه كافة المعلومات الخاصة في مكتب مستشار الأمن القومي ، كل هذه مجتمعة جعلت الرئيس ترامب يبدو بأنه على غير إلمام كافٍ بأبعاد الملف بالكامل ، بالرغم من أن الأجهزة الفنية مثل (السي أي ايه) والمباحث الفيدرالية وهيئات الأمن القومي قدمت تقارير إيجابية متعلقة بالسودان ، وجاء قراره منقوصاً متناقضاً ، تشتم فيه رائحة الطبخة غير المتقنة وهو يحاول الموازنة ما بين الأطراف المؤيدة والمعارضة.
بالطبع السودان ليس لديه ما يضيفه او يقدمه ، والإداراة الأمريكية نفسها كما جاء في الأمر التنفيذي للرئيس ترامب ليست في حاجة الى تقارير جديدة ، والرئيس البشير أصدر قراراً بتجميد أعمال اللجنة المناط بها الحوار ، فالأمور ستمضي من الآن حتى أكتوبر ، ربما في هذا الوقت يطرأ طارئ جديد وتدرك الإدارة الأمريكية أنها لابد من قرار ينهي حالة المد والجزر، وترفع العقوبات ويتم التطبيع الكامل للعلاقات ، بمعزل عن ما يدور في الإقليم من محاولات عرقلة مسارها وإبطاء القرار الأمريكي بشأنها، فلابد من صنعاء وإن طال السفر .

تصريحات بلال ..
وزير الإعلام السيد الدكتور أحمد بلال عثمان ، كما يقول مثلنا السوداني الصميم ( (وجد الهوا و ضرا عيشه ) او كما يقول المثل العربي الفصيح (خلا له الجو فباض واصفر ) ، جاءت تصريحات في القاهرة عقب مشاركته في اجتماعات وزراء الإعلام العرب بردود إفعال قوية في الداخل والخارج ، فالوزير في موضوع حساس محل خلاف في العالم العربي قال مقالة تصنف دولته او هو شخصياً في صف ضد آخر بما يتناقض مع موقف الدولة الرسمي وهو الناطق الرسمي باسم الحكومة .

تحدث الوزير عن قناة الجزيرة متماهياً مع الموقف الذي تقفه الدول الأربع التي تقاطع وتحاصر قطر ، ولا غضاضة إن كان جالساً في بيته وخارج إطار وظيفته العامة وقال هذا الكلام ، لكنه يمثل الحكومة والدولة وفي مهمة رسمية لا يمكن أن يفصل الرأي الخاص من الرسمي ، وحتى وسائل الإعلام المصرية التي استنطقته لم تطلب رأيه الشخصي او الخاص، وتعاملت معه باعتباره وزير الإعلام السوداني ، وجرت بسرعة البرق كل وسائل الإعلام المصري والعربية بصيدها الثمين من قول الوزير وبثته على نطاق واسع وضعت فيه الحكومة السودانية في موقف حرج للغاية، يخصم من دورها كوسيط محايد في الأزمة الخليجية، والرئيس البشير سيزور الكويت التي تقود المبادرة والإمارات العربية إحدى أطراف المجموعة التي تقاطع قطر ، وهي ثاني زيارة له الى الخليج بعد السعودية ، في محاولة لإطفاء النار المشتعلة وإصلاح ذات البين ، الوزير وضع فسه وبلاده امام فوهة الاتهامات بأنه متحامل على قناة والجزيرة وغير محايد خاصة أن عباراته كانت واضحة ومحددة وقاطعة لا تحتمل التأويل او التفسير وليست قابلة للتحوير ، ثم زاد من حطب النار المشتعلة أصلاً حديث السيد بلال عن سد النهضة الإثيوبي ، وهو قول منكر مناقض تماماً لموقف السودان وخبرائه الفنيين ومتطابق مع المخاوف المصرية التي لم تُبنَ على أساس علمي دقيق ، وهي مادة الدعاية السياسية المصرية المعدة للاستهلاك المحلي ، فوزيرنا تبنى هذا الموقف المصري وأغضب إثيوبيا وأظهر الحكومة وكأنها تتحدث بلسانين ولها رأيين وتتبنى موقفين ، ولو قيل لأبرع معارضي الحكومة أن يحشر حكومتنا في موقف تُحسد عليه، لما أجاد هذا المسعى وحقق المقصد كما فعله الناطق الرسمي باسم الحكومة السيد الوزير احمد بلال الذي خانته حصافته السياسية وخبراته الطويلة فوقع في الفخ الذي نصبته له وسائل الإعلام المصرية رغم أنه قد تم تحذيره ولا عذر لمن أُنذر..!

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة