منوعات

خليل فرح.. عندما يهيج الصدر بعاطفة الوطن


مثلما سجل قيس بن الملوح حالة عشق فريدة عندما جنّ بليلاه حتى سمي بـ”مجنون ليلى”، ومثلما جنّ جميل ببثينة وقيس بن ذريح بلبنى وعروة بعفراء وكثيّر بعزة وروميو بجوليت، شكّل خليل فرح حالة عشقية نادرة عندما جنّ بوطنه الذي جعل له رمزاً أطلق عليه عزة، وعرفت العازة عند العامة بزوجة صديقه المناضل علي عبد اللطيف، بينما تشير الإشارات النقدية إلى أن عازة الخليل هي السودان ذلك الوطن الأيقونة الذي عشقه حتى الثمالة.

الشاعر الخالد ..خلود الوطن

وخليل فرح المولود بـ”دبروسة” الواقعة بالقرب من وادي حلفا أقصى الشمال (1894-1932م) يشكل حالة عشقٍ فريدة للوطن، فرغم عمره القصير فقد قضى دون الأربعين معتلاً بداء الدرن، إلا أنه يعتبر من أشهر الشعراء الذين غنوا للوطن وخلدتهم أعمالهم العظيمة.. وقد أشار لذلك القاص على المك في مقدمة ديوان خليل فرح الذي حققه ونُشر في عام 1977 م قائلاً: “خلود خليل فرح من خلود وطنه، هذا أمر محتوم، لكون خليل يُذكر حين يُذكر الوطن”.

عبقرية اللغة

المعروف أن خليل فرح رغم أنه عربي مستعرب- بحكم لغته الأم النوبية – إلا أنه امتلك ناصية العربية بحكم قراءاته العميقة في أشعار العرب، ونلمح في أشعاره أنفاس الملك الضليل وبشار بن برد والأمير ابن المعتز وأبي العلاء المعري وغيرهم من الشعراء المجيدين، كما ساعد في نبوغ لغته دراسته في كلية غردون التذكارية التي كانت تزخر آنذاك بطلاب من كل مدن السودان وأريافه، كما ساعده في صقل لغته حفظه لأشعار شعراء شعبيين أمثال ود الفراش وقصائد الحاردلو وغيرهما.

تعليمه

درس خليل عزة في باكر صباه بخلوة قرآنية في جزيرة صاي بشمال السودان، ثم انتقل منها ليدرس بكلية غردون التذكارية في قسم البرادة الميكانيكية في الفترة ما بين (1908-1913م )، وليعمل بعد تخرجه فيها موظفاً بقسم الصيانة في مصلحة البوستة والتلغراف من عام 1913م وحتى استقالته في عام 1929م.

العوّاد الأول

يعتبر خليل فرح أول من استعمل العود في الغناء السوداني، وذلك عندما رآه محمولاً عند ضابط سوداني، وقبله عند منشدي الطريقة الأحمدية بمصر عند إنشادهم للمولد، وقد أشار حسن نجيلة إلى أن خليل فرح أفندي أول سوداني أتقن العزف على العود، كما يعتبر كثير من النقاد الموسيقيين أن خليلا أحد الذين طوروا الألحان في السودان، حيث حولها من ألحان بدائية إلى ألحان حديثة تسبقها مقدمات موسيقية، ويظهر ذلك في رائعته “عازة في هواك” التي استوحى مقدمتها من ألحان غرب السودان، وقد صار لحن الأغنية بعد ذلك مارشاً عسكرياً.

أشعار خالدة

لعل قصيدته الخالدة عازة في هواك” هي القصيدة الأشهر في حب الوطن بأبياتها التي يحفظها الكثيرون وهم يرددون أبياتها بيتاً .. بيتاً مع الفنانين الذين تغنوا بمقاطعها الخالدات، وهم يرددونها بحب منقطع النظير للوطن:

“عزة ما سليت وطن الجمال ولا ابتغيت بديل غير الكمال..

وقلبي لي سواك ما شفته مال خذيني باليمين وأنا راقد شمال”

ويتعمق الشاعر في مناجاته للوطن.. الحبيبة التي يهيم بسحر هواها وبعذاب الهوى، ولكن يكفيه أن حبيبته أم درمان تزداد عظمة وجلالاً

“عزة في الفؤاد سحرك حلال ونار هواك شفا وتيهك دلال

ودمعي في هواك حلو كالزلال تزيدي كل يوم عظمة أزداد جلال”

وتظهر علامات الهوى وعذاباته التي تظهر في نحول جسده وتشتت عقله عندما يندب حظه ويقول:

“عازة جسمي صار زي الخلال وحظي في هواك صابو الكلال”.

ولا يخفى على القارئ الحصيف نظره ها هنا إلى أبي الطيب المتنبئ في مبالغته:

روح تردد في مثل الخلال إذا أطارت الريح عنه الثوب لم يبن

كفى بجسمي نحولاً إنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني

والخلال عود رقيق تخلل به الأسنان.

الوطن.. القدوة.. النيل

كثير من أشعار خليل فرح بدت فيها وطنيته ظاهرة جلية نحو قوله :

نحن برانا نحمي حمانا نحن نموت ويحيا النيل

ما بننداس وما بنتوصى نحن نكيل برانا نشيل

أما في رائعته “ما هو عارف قدمو المفارق” فتظهر محبوبات أخرى بجانب الحبيبة.. الوطن حيث يظهر البطل القدوة الذي يمثله محمد أحمد المهدي – على حد زعم علي المك – .. ويظهر ذلك في المقطع:

في يمين النيل حيث سابق

كنا فوق أعراف السوابق

الضريح الفاح طيبه عابق

السلام يا المهدي الإمام

كما تظهر الطبيعة متمثلة في النيل الذي يشق وادي النيل:

يا بريد الجو فوقي حالق

ميل عليّ الروح ليها خالق

عدت سالم قول وإنت عالق

مقرن النيلين كيلو كام

الصيحة