مقالات متنوعة

الاهتمام بمراكز التفكير


لقد بحثت بكل إهتمام عن الكيفية التى تجعل من الأعمال والنشاطات ، ذات بعد إيجابي لتؤتى أُكلها ، وتتضاعف فائدتها ، فما كان أمامى إلا أن أغوص بعمق فى بعض الدراسات التى أثبتت أن الدول العظيمة ، والمجتمعات التى ضربت الرقم القياسى فى التطور والحضارة ، وجابت ذرى المجد قد كان حاديها وهاديها هو إهتمامها البالغ بعقولها المفكرة ، وذخيرتها العلمية ومستودع ومجموع ثروتها الفكرية التى لا تقدر بثمن فى العلماء ، والبحاثة ، والمفكرين ، والمبدعين ، والموهوبين ، كما لم يكن الإتجاه أن توضع الخلاصات التى أنتجتها هذه العقول فى أرففٍ ، أو تجد تسفيهاً وتهميشاً من الذين يتخذون القرار.
فرجل الأعمال الناجح ، لا يلج مجالاً وفقاً لهوىً ، أو مزاج ، أو يقلّد آخر بسبب أنه لاحظ نجاحاً ، أو ساوره إنطباع بأنه سيكتسح هذا المجال ويحظى إنتاجه بالرواج ، وإنما لابدّ له أن يدرس بكل تؤده وتأن ما ينوى إقامته من مشروع ، وألا يعتمد على دراسات أولية ، أو معلومات غير ناضجة ، وإنما هناك ما يسمى دراسة الجدوى للمشروع ، وهى الدراسة التى تستند على حقائق ، ووقائع ، وإحصاءات ، ونتائج إضطلع بها مختصون ، وراجعها من هم أكثر إختصاصاً ، فأجيزت ووثقت بتوصيات لعالمين وعارفين ، ثم من بعد ينشأ المشروع على أسس علمية ، ورؤى اقتصادية ، وهنا لا ينتج المشروع فكراً وإنما عائداً ، بينما ينتج الفكر مشروعاً ، وليس العكس هو الصحيح .
ومراكز التفكير ، هى المستودع الذى يحوى ثمرات العقول ، ومنابع الحكمة ، والمشكاة التى تنير السبل ، وتمهد الطرق ، وتزيل من المسارات ما يعيقها ، ومن القنوات ما يُسّهل تدفق المياه من خلالها .
والذين يركبون الصعب بإبتدار حديث لم يفكروا فيه ، أو عملٍ لم يسبقه تصور وخطة محكمة ، فإنهم بذلك يصيبهم التوهان ، ويبتلع الجهل ما إدخروه ، ويصبح المال سبّة عليهم ، والكثيرون من هؤلاء ، غاض الماء فى مزارعهم ، وتبخر أملهم ، وتناقص رأس مالهم ، إن لم يكن قد آل إلى أصفارٍ تلو أصفار ، فضربوا كفاً بكف ، وتحول ما بُنى من مشروع بلا تقدير ولا تفكير ، إلى مبانٍ ينعق فيها اليوم ، وماكينات ألقيت فى جميع الأركان ، خردة لا تصلح حتى لإعادة التدوير والتصنيع .
والدول التى ضربت شأوا عظيماً فى مضمار التقدم ، لا تسمح لهيئة أو وزارة ، أو أى جسمٍ ، لينشأ ، دون أن تقول مراكز التفكير كلمتها فيما سيسند لهذا الجسم ، أو ذاك من مهام ووظائف ، فتسبق الفكرة العمل ، ويتقدم العقل على المزاج ، وتستجيب السلطة لما أثبتت الدراسات جدواه ، وأقر العلماء عن الذى سيكون نتاجاً له ، حيث لا معنى ولا مغزى لجهلٍ أن يسود على من لبسوا تاج العلم ، وتمنطقوا بالذى يعصمهم من مجاهيل الجهل ومصير الجهلاء .
والتفكير ليس حصراً على المشروعات والأنشطة المادية ، لكنه ديدن ، وسلوك صاحب كل رسالة ، وضرورة قصوى لمن يريد ان يتحدث ، أو يحاضر ، أو يلقى كلمة فى جمهور ، او أمام شريحة من الشرائح ، كلها يتحكم التفكير فى ضبطها ، وحسن صياغتها ، وبلاغة لغتها ، وقيمة مضمونها ، وهذا هو الإحسان فى القول والعمل ، إذا جاز التعبير بأن ذلك هو المصطلح الذى أريدت به كلمة إحسانٍ وإتقان .
ورئيس أمريكا ، تلك الدولة التى يهابها العالم ، بسبب قوتها ، لم تبلغ هذا المدى ، وتفرد جناحيها على الدول والمجتمعات والأنساق الإقليمية إعتباطاً ، وإنما نتيجة لقوة الفكرة التى ترجمت إلى سياسات ، فهو عندما يهم بإلقاء كلمة للجمهور الأمريكى ، أو للعالم لا يمسك القلم بمفرده لكتابة إنطباعات ، أو أفكارٍ حامت بعقله ، ليوجهها لجمهور مستمعيه ، وإنما يحيل مثل هذا الأمر لمفكرين مقتدرين معتقين شابت برؤوسهم تجارب السنين ، وقد شاهدتهم يتجولون فى البيت الأبيض الأمريكى ، أعمارهم تتراوح بين الستين والسبعين ، هم الذين يعدون الخطابات ، ويودعون فيها أقيم المعلومات ، وأثمن المضامين ، وهم جزء من مراكز ضاربة القدم ، عميقة الجذور فى التاريخ الأمريكى بل تكاد تلازمه إذ تأسست عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية فى مبتدئ خطواتها على سلم التطور المادى ، وهؤلاء هم الذين أرسوا القواعد وأقاموا عماداً لدولة مدنية حضارية مادية التوجه والسياسات ، لا تأبه ولا تعبأ بغير عمل ليس من ورائه خبرات ، وجهد يبذله مفكرون تشكلت عقولهم ، وجرت فى دمائهم عُصارات الفكر المتجدد ، وليست شطحات يشطح بها المزاجيون .
والدولة التى تعتمد المرجعيات الفكرية ، وتتكئ على الدراسات العلمية ، تستبين لديها مناحى القوة ، وجوانب الضعف ، فتتسارع الخطى نحو تعزيز القوة ، والمحافظة على صلابتها ومتانة ما تقوم عليه من ركائز ، فلا تغفل عن عيب ما دام هناك مراقبون ومشرفون ومفكرون يرصدون ما يحتاج إلى تقويم وتصحيح ، كما أن الضعف ، لا يعالج بضعف مثله ، وإنما لا يأتى الضعف إلا عندما يغيب التفكير ، وتُهمل المراجعة فلا يستفاد منهما ، إذ لا يفلح الطالب ، وهو لا يراجع ما تلقاه من محاضرات ودروس .
ولقد لاحظت أن بلادنا تزخر بخامات عقلية نادرة ، وأن معظمها أو عدداً منها غير يسير قد هاجر إلى بلادٍ تُحترم فيها العقول ، وترصد الميزانيات الضخمة للنابهين والمميزين والموهوبين والمبدعين ، وأبلغ مثال لذلك هو أولئك الذين أكتشفتهم بعض الدول من السودانيين أصحاب العقول الفذة ، والأمخاخ الوقادة ، فأختطفتهم بعروض غالية ، وأثمان مستحقة ، مما يذكرنا بالقول السائد :
كالعير فى البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
* فنحن فى السودان ينبغى أن نستثمر عقول أبنائنا فى خير ومنفعة بلادنا إن أردنا أن نلحق بركب التقدم والحضارة ، ولا ينبغى لنا أن نضحى بأثمن ما لدينا ليحصد الآخرون ثمرةً زرعنا شجرتها ، وأنبتنا بذرتها ، لكنها أُكلت من قبل الغرباء
* وهذا هو الذى يدعونا بضرورة رعاية مراكز التفكير ، والإهتمام بالمفكرين.

د. ربيع عبد العاطي عبيد – الصحافه