زهير السراج

عصابات خطف النساء !!


* ليس هنالك سوى تفسير واحد فقط، لكمية الشائعات الهائلة التى سيطرت على المجتمع السودانى خلال الاسبوعين الماضيين عن وجود عصابات تخطف المواطنين للمتاجرة بأعضائهم أو ما يماثل ذلك، رغم سذاجة وضحالة الفكرة، ووجود الملابسات التى تؤكد أن الجرائم التى نُسبت الى هذه العصابات، ليست سوى جرائم عادية أو خلافات أسرية أو ما شابه ذلك!!

* وكان من الغريب أن يشارك فى تداول الشائعات وترويجها عدد هائل من المثقفين والمتعلمين تعليما رفيعا، لدرجة ان بعض الاطباء بثوا رسائل صوتية على وسائل التواصل الاجتماعى ونشروا مقالات فى مواقع إلكترونية، يسيرون فيها مع التيار الهادر ويقفون مع الشائعات بإعطائها مصداقية طبية باعتبار أن نزع الاعضاء والاحتفاظ بها الى حين استخدامها أمر سهل (بوضعها داخل إناء وتغطيتها بالثلج) ــ وقد يكون الأمر كذلك، ولكن ليس بمثل هذه السهولة والسذاجة التى رسموها فى رسائلهم الصوتية ومقالاتهم!!

* ولقد اسهمت تلك الرسائل باعتبار أن مصدرها أصحاب التخصص والرأى، فى زيادة الارتباك وبث المزيد من الفوضى فى المجتمع، لدرجة أن أية فتاة أو إمرأة يتحرش بها بعض سائقى العربات الفاسدين اخلاقيا، صارت تتوهم أن الذى او الذين يتحرشون بها ما هم إلا عصابة تريد اختطافها، فتصاب بنوبة من الهلع المرضى الشديد، وما يتبع ذلك من أعراض وتصرفات وملابسات تزيد من إلتهاب الشائعات .. والدليل على ذلك الفيديو المنشور على وسائل التواصل الاجتماعى (والخبر المنشور فى بعض الصحف) لفتاة قيل أنها تعرضت لمحاولة اختطاف، وانقذتها مجموعة من ستات الشاى الى حين وصول عربة الشرطة التى حملتها وهى فى حالة إعياء واضحة، بينما هى ليست سوى حالة نفسية حادة نتجت من الخوف الذى انتشر فى المجتمع بوجود عصابات تخطف الناس لانتزاع اعضائهم وبيعها !!

* حالات كثيرة مماثلة وقعت فى نهاية تسعيينيات القرن الماضى، ولكنها تختلف عن الحالات التى نشاهدها حاليا، كونها استشرت بين الذكور دون الإناث، بسبب شائعة سرت كالنار فى الهشيم آنذاك، عن وجود بعض الاشخاص الأجانب (من دول غرب أفريقية) لديهم المقدرة على نزع الرجولة (الفحولة) من الرجال بمصافحتهم أو حتى مجرد ملامسة ايديهم، فملأ الهلع قلوب الكثيرين وامتنعوا عن مصافحة الأغراب، كما إمتلأت المستشفيات بالرجال الذين قصدوها لاستعادة (رجولتهم المنزوعة)!!

* ولقد كنتُ شاهدا بشكل شخصى فى أحد شوارع أم درمان على بائع فواكه رفع جلبابه فجأة، وفتح سرواله بلا أدنى شعور بالخجل أمام المارة، وأخذ يصرخ بأعلى صوته وهو يشير الى عورته: ” (شالو منى، كتلونى) .. الى أن وصلت عربة الشرطة وحملته الى المستشفى وسط دهشة وذهول الحاضرين، وعندما مررت بالمكان فى اليوم التالى وجدت الرجل واقفا فى محله، يحكى قصته لبعض الناس عن كيفية انتزاع فحولته، ثم عودتها إليه، وما هى إلا محض حالة نفسية عانى منها كثيرون آنذاك، أو توهموها مثل التى نشاهدها هذه الايام .. نفس الحالة، ولكن مع اختلاف الملابسات والوقائع والوسائط الناقلة.!!

* التفسير الوحيد لهذه الشائعات وما ترتب عنها، هو الهشاشة الشديدة التى صار عليها المجتمع، وتحوله الى بيئة خصبة لانتاج واستيلاد وترويج الشائعات، حتى وسط أكثر الناس ثقافة وتعليما، لدرجة ان أكثر الشائعات سذاجة صارت تجد اذنا صاغية، بل يروج لها ويدعمها من كان من المفترض أن يكونوا خط الدفاع ضدها الشائعات وغيرها من الأفكار الشاذة، ولكنهم بدلا عن ذلك شاركوا بفعالية فى إعادة انتاجها والترويج لها، وهو ما يعكس بجلاء شديد مدى الهشاشة التى وصل إليها المجتمع!!

* الغريب أن الوسيلة التى تستخدم لنقل الشائعات وترويجها، هى آخر ما توصلت إليه تكنولوجيا الاتصال التى فتحت المجتمعات البشرية على بعضها البعض ومكَّنت أى شخص من الاطلاع على ما يحدث حوله فى أى مكان فى العالم، من تطور فى مجال العلوم والفنون والآداب وغيرها، ما كان يجب أن يجعل المجتمع أكثر تطورا وأكثر تماسكا، وأكثر حماسة للإقتداء بالمجتمعات المتقدمة، ولكن ما حدث هو العكس تماما، فصار المجتمع السودانى أكثر تخلفا، وأكثر انعزالا عن العالم المتطور، وأكثر تفككا بداخله، وأكثر هشاشة وتقبلا للشائعات والأفكار المتخلفة، وهو ما يجعل أى شخص عاقل يتساءل عن جدوى هذه الوسائل الحديثة بالنسبة للمجتمع السودانى، إذا لم تكن تسهم فى نهضته وتطوره!!

* سبب الهشاشة هو اليأس الذى يعيشه المجتمع من جراء الانهيار الشديد فى كل مجالات الحياة والضغوط الشديدة الواقعة عليه، وفقدان الأمل فى المستقبل، الأمر الذى جعله سهل الانقياد للخرافات والشائعات، والترويج لها واعادة انتاجها، وهو ما يفرح ويسعد بعض الجهات ويجعلها تسهم عن عمد فى خلق الشائعات والترويج لها لخدمة مصالحها وأهدافها، وإلهاء الناس عن التخلص من المشاكل التى يواجهونها بعلمية وموضوعية تضع حدا لهذا الانهيار، وللذين تطاولوا فى البنيان وأوصلونا الى ما نعانى منه !!

مناظير – زهير السراج
صحيفة الجريدة