الصادق الرزيقي

الدلنج.. صُبْ لنا وطناً في الكؤوس ..!


«أ»
تتساقط الأضواء والظلال، ويطول مطال الليل في قرية «طيبة» قرب الدبيبات عند حافة جنوب كردفان الشمالية، والرمل و« القوز» كالضنى جفاه المرقد، والأخ العزيز والزميل الكريم يوسف عبد المنان،

وهو يشد لجام الحديث عندما دخلنا ليلاً قريته الوادعة، والطاهر ساتي يتساءل في حيرة وارتباك عن مسرحية « الملك لير» لوليم شكسبير، وهو قليل الانشغال بالثقافيات من الشؤون، العتمة المشرقة و«طيبة» تتحدث في حديث هامس عن الطرق والخدمات والكهرباء وسوق الحاجز أكبر أسواق الإبل والمواشي في البلاد وظلال الأشجار والبيوت نهشتها مخالب ضوء السيارة التي أقلّتنا من الخرطوم إلى الدلنج.

لم تكن الأشجار ولا التلال الصغيرة والجبال غافية، عندما مررنا عبر السنجكاية والفرشاية ودخلنا مدينة الدلنج عروس الجبال، الليل والسمار والأشجان يصطخبون في صمت الطرقات ونور القمر الفضي الذي يشع في الشتاء.

الأخ جمال الشريف الكاتب والباحث الكبير، صاحب السِّفر المثير « الصراع السياسي على السودان 1840ـ 2008م» وهو يجيد الإصغاء ويحترف السكوت المبين، دلق على ثياب الليل تلك مواجد وعباراتٍ مثل قلائد الأميرات في رائعة شكسبير «الملك لير» التي كنّا نذكرها قبل حين، وكانت الدلنج قد تراءت له ونحن نعبرها والقمر يحمر في غرة الدجى، كما عنواننا الرئيس المأخوذ من قصيدة منسية للشاعر محمد الثبيتي:

أدرْ مهج الصبح
وصبْ لنا وطناً في الكؤوس
يدير الرؤوس
أدرْ مهج الصبح واسفح على قلل القوم قهوتك المرة المستطابة
أدرْ مهج الصبح ممزوجة باللظى
وقلِّب مواجعنا فوق جمر الغضا
وهات الربابة
هات الربابة..

«ب»
قبل أن يهدأ هدير الذكرى وتهمى غمامات من أقاصيص قديمة لا تصدأ لدى يوسف عبد المنان، راح في انبهار صوفي مرهف وشفيف يحدثنا عن تبلدية جعفر محمد عثمان، ومعهد التربية الدلنج الذي صار جامعة لا يكاد يطوي صحائف بريقه، وصوت يوسف يقول مردداً قصيدة الشاعر الكبير جعفر وهي مملوءة بالترميز والوجد العنيف:

ذكرى وفاء ووُدِّ عندي لبنت التبلدي
في كل خفقة قلبِ وكل زفرة وجدِ
فيا ابنة الروضِ ماذا جرى لمغناكِ بعدي؟
ما زلتِ وحدكِ إلفي يا ليتني لكِ وحدي
لا تحـــزني إن تعرّت لدى المصيف فروعك
أو إن يبســــت فبانت من الـــذبول ضلوعك
فدون ما راع قلـــــبي من الأسى ما يروعك
أنا لن يعـــــود ربيعي لكن يــــــعود ربيــعك
******
وكم تلّفت خلفي بحـــــــــــــــــيرة والتياع
الركب يمضي بعيداً عن حالمات البـــــقاع
وللغصون الأعالي في الريح خفق الشراع
كأنها منك كفٌّ قد لوّحت في وداعـــــــــي

«ت»
في تلك اللحظة من ساعات الليل، ونحن في الدلنج، بدأنا نطلّ عبر مشكاة التاريخ على المدينة التي يقول الرحالة الألماني جوستاف ناختيغال الذي دخل دارفور عبر سلطنة ودّاي عام 1874م إنها كانت مركزاً حضرياً تجتمع فيها قبائل النوبة والعرب وبها نظارات الأجانج والنمانج والحوازمة وسكنتها قبائل غرب السودان المختلفة، وسُميت على اسم قبيلة الدلنج التي تنحدر من الأجانج.

تاريخ المدينة العريق كمركز تجاري وزراعي ومنطقة تلاقي وتلاقح بين ثقافات شتى ومشارب عرقية مختلفة تصاهرات وتجارب حياة، لم تنقطع أبداً عن مساهماتها في بناء التاريخ الحديث للبلاد، حيث تقاطر إليها الناس من مختلف الاتجاهات والمظان والمناهل والمنابع، وتشكلت بوتقة اجتماعية قلّ أن توجد، وصاغت إنساناً متسامحاً مسماحاً. ونشأت فيها مشاريع الزراعة الآلية من عقود طويلة تعتبر الثانية بعد القضارف حيث توجد رئاسة مشاريع هبيلة للزراعة الآلية محالج القطن، ونشأ فيها معهد التربية لتدريب المعلمين عام 1948، كصنو لمعهدي بخت الرضا وشندي ودرس فيه وتخرّج فيه أفذاذ وقيادات التعليم في السودان.

«ث»
وتزاحم عبر تاريخ المدينة الطويل وفي ممرات الزمن أسماء وشخوص مثلوا فسيفساء التجانس الاجتماعي من الأقباط من أسرة يوسف شامي والمك جبر الدار وعائلة الصول وعبد الرحمن خالد ومحمد إبراهيم حماد القيادي المخضرم في حزب الأمة وإبراهيم عبد الصادق، وكل هؤلاء عاشوا في كنف مدينة ترتكز على ما يشبه الأثافي العتيقة التي ظلت تحميها من اللهب الحارق وتنضجها على نار التجانس الهادئة وهي نظارة الأجانج بقيادة الأمير الأمين علي عيسى وبعده الأمير عبد الحميد ونظارة النجمانج الاما بقيادة الناظر كندة كربوس والآن الأمير رمضان طيارة ونظارة الحوازمة بقيادة الناظر حماد أسوسا والد الأمير الحالي محمد حماد، كما لا تزال في المدينة ومحيطها في صورتها القديمة «مجلس ريفي شمال الجبال» تذكر الرموز السودانية التي عاشت فيها مثل القاضي الشاب في سبعينيات القرن الماضي علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية، وقديماً القاضي أبورنات ومحمد الأمين القرشي أحد الدعاة الكبار ومن نشروا الإسلام في جبال النوبة والشيخ البرناوي شيخ الطريقة المكاشفية القادرية والشيخ سعد أحد الذين دعموا الدعوة والجهاد في المنطقة، والتاجر محمد مختار وإبراهيم أحمد والأستاذ عبد الرحيم أبو الغيث الذي كانت له خطبة كل يوم جمعة في المسجد الكبير وأحمد نكولا وشيخ كبيدة إمام المسجد الكبير من الستينيات حتى السبعينيات، ومئات المعلمين من دهاقنة التعليم في البلاد مثل حسن عثمان عميد معهد التربية الدلنج والمدرسة الريفية في السبعينيات وأبوبكر عبد القادر، والمرحوم البروفيسور غبوش الضاوي أحد أعظم أساطين الطب واللغة في السودان، والبروفيسور التجاني حسن الأمين والبروفيسور حماد عمر بقادي والفريق أول المرحوم تاور السنوسي وحبيب سرنوب الضو، وتروي حكايات ومرويات كثيرة عن المدينة ومن عاش فيها واستوطن وزار.

«ج»
مع خيط الفجر صحونا والنفح الشتائي يلفح الوجوه والمدينة تصحو مشرقة العينين، وتدب الحركة والحياة في سوقها الكبير ومواقفها وأحيائها «قعر الحجر والملكية والتومات والرديف والمعاصر والطرق وحي الشيخ أب زيد وحي المطار» والجبال حولها تعانق شعاعات الصباح الجديد.
وما الذي جاء في معيّة الشعاع بقصيدة « أنا والمدينة» لأحمد عبد المعطي حجازي، معفرة بالتراب تتنزى شوقاً وحسرة وقلقاً:

هذا أنا،
وهذه مدينتي،
عند انتصاف الليل
رحابة الميدان، والجدران تل
تبين ثم تختفي وراء تلّ
وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم
ضاعت في الدروب،
ظل يذوب.. يمتد ظل
وعين مصباح فضولي ممل
دست على شعاعه لّما مررت
وجاش وجداني بمقطع حزين
بدأته، ثم سكت
من أنت يا.. من أنت؟
الحارس الغبيّ لا يعي حكايتي
لقد طردت اليوم
من غرفتي.. وصرت ضائعاً بدون اسم
هذا أنا،.. وهذه مدينتي!..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة