تحقيقات وتقارير

فشلت في ملف النظافة الخرطوم.. التلوُّث البصري يتمدَّد


مواطنون : عربات النفايات تعمل معنا بطريقة “غيب وتعال ”

هيئة النظافة: 65% من سكان العاصمة لا يدفعون رسوم النفايات

وزارة البيئة: تراكم النفايات يؤدى إلى الكثير من المخاطر الصحية

تجار بالأسواق: عملية النظافة تبدو جيدة مقارنة بالماضي

مدير هيئة النظافة بالولاية: عملنا محصور الآن في المحطات الوسيطة والمرادم

“بتين نشوف الخرطوم نضيفة زي بقية عواصم الدول”،ما أن عبرت شابة تبدو في العقد الثاني من عمرها عن أمنيتها هذه،إلا وشاركها ركاب الحافلة التي أقلتنا من الحاج يوسف إلى الخرطوم ذات الأمنية.غير أن شاباً ثلاثينياً استبعد حدوث ذلك ، قاطعاً بنبرات جادة باستحالة مبارحة العاصمة لمحطة التردي البيئي وتراكم النفايات ،وواصل حديثه بعد أن أنصت إليه الركاب مشيراً إلى أن الجهات الحكومية ينحصر جل همها في تحصيل الجبايات دون أن تقدم مايوازيها من خدمات معتبراً أن عقلية الإيرادات التي سيطرت على الخدمة المدنية من أبرز أسباب التردي في كافة الخدمات. ولم ينس الشاب الغاضب تحميل المواطنين جانباً من المسئولية ،معتبراً أن سلوك الكثير منهم “فوضوي” – هكذا قالها – ويختم حديثه قائلاً “نحن محتاجين شغل كتير عشان النضافة تكون من أولوياتنا “.

تشعب الاتجاهات
وقبل أن ينهي الشاب حديثه التقط رجل خمسيني يبدو أنه نال حظاً وافراً من التعليم – من واقع حديثه المرتب – قفاز الحديث وأشار إلى أنه يتفق مع الشاب بأن سلوك المواطنين من الأسباب المباشرة لتراكم النفايات والتردي البيئي الذي تشكو منه العاصمة حتى أوصلها مرحلة تفشي الإسهالات المائية والملاريا وغيرها من أمراض تتسبب فيها “الوساخة” ـ كما قال ـ غير أنه رأى أن الحكومة تتحمل المسئولية كاملة لجهة عدم توفيرها خدمة النظافة كما هو سائد في عواصم الدول الأخرى ،وأضاف: في معظم الأحياء بالخرطوم فأن عربة النفايات لا تحضر كثيراً وهذا يسهم في تراكم النفايات داخل المنازل ولا يجد المواطن حلاً غير التخلص منها بشتي الطرق ليسهم بذلك في كافة أنواع التلوث بما فيها البصري. وأضاف:أعتقد أن استقرار خدمة مرور عربات النفايات على الأحياء يسهم في ترقية سلوك المواطن ومن ثم حرصه على وضع النفايات في مكانها المحدد وعدم اللجوء للتخلص منها عشوائياً.

تناقض
منطق الخمسيني لم يرق لشاب كان يجلس خلفي ورأى أن التدهور العام الذي تشهده البلاد انسحب علي كل شئ بما فيها أعمال النظافة ،معتقداً باستحالة انتظام خدمتها في ظل الفوضي الإدارية التي تضرب بأطنابها على مرافق الدولة وغياب الخطط والإستراتيجيات وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وبدا الشاب مصراً على رأيه بأن الجزء من الكل وأنه في ظل التردي الحالي الذي يجزم بأنه يسيطر على البلاد فلا يمكن أن ينصلح حال النظافة، وختم حديثه بالاتفاق مع الشاب الذي انتقد سلوك الإنسان السوداني ورأى أنه لدى الكثيرين ليس حضرياً ولايتسق مع متطلبات الحياة الخالية من التردي البيئي ،وأضاف: لا يزال الكثيرون منا يضعون نفاياتهم في أي مكان ويهتمون فقط بنظافة منازلهم ولايعيرون الشارع أدنى التفاتة رغم أنه يفترض أن يكون جزءاً أساسياً من اهتماماتهم لخطورة إهماله.

نقطة ضعف
(الصيحة) سجلت جولة واسعة على أنحاء متفرقة من الخرطوم مع التركيز علي الأسواق التي يمكننا التأكيد على أن عملية نظافتها وجمع نفاياتها تمضي بوتيرة جيدة من المحليات وهيئة نظافة الولاية ،رغم أن الأداء ليس بالمستوى المطلوب ولكن جهد هذه الجهات لايمكن نكرانه أو غض الطرف عنه. تجولنا على أسواق بحري ،سوق ستة ،الشهداء ،الشعبي أم درمان ،سوق ستة الحاج يوسف والسوق العربي فوجدنا أن مظهر تراكم النفايات بدأ في الاختفاء فجمع النفايات ونقلها يبدو جيداً غير أن الثغرة التي تبدو واضحة تتمثل في عدم استمرار عمليات النظافة طوال ساعات اليوم بهذه الأسواق ،فالعمال يؤدون مهامهم في معظم الحالات التي وقفنا عليها في الساعات الأولى من يوم العمل ولكن عقب صلاة الظهر فأن وجودهم محدود وما يؤكد تراجع دورهم تراكم النفايات عقب صلاة الظهر الى منتصف الليل.

سهام متعددة
غير أن عدداً من التجار بالأسواق التي زرناها أكدوا على أن عملية النظافة ورغم أنها لم تصل إلى المستوى المطلوب إلا أنها تبدو جيدة مقارنة بالماضي، وقال أحدهم بسوق بحري “على الأقل العربات بتجي يومي تشيل النفايات “،بيد أن ذات الرجل مارس نقداً ذاتياً حينما حمّل التجار في الأسواق مسئولية تردي البيئة، وأشار إلى أن الكثيرين منهم يلقون بالنفايات دون اكتراث ولايحرصون علي وضعها في المكان المخصص أويجمعونه داخل الأكياس حتى تمر العربة لحملها ،جازماً بأن السبب المباشر لتراكم النفايات بالأسواق “ووساختها ” كما أكد سلوك بعض التجار بالإضافة إلى عدم انتظام عمليات النظافة طوال ساعات اليوم .

غيب وتعال
في أكثر من عشرة أحياء تجولنا فيها فأن آراء المواطنين حول خدمة النفايات تفاوتت، فالبعض أكد انتظامها خاصة في الإحياء المصنفة ضمن فئة الدرجة الأولى ،فيما أكد مواطنون أن عربات النفايات تعمل بطريقة “غيب وتعال ” وأنها قد تختفي في بعض الحالات لأكثر من شهر ثم تعود مجدداً ،إلا أن المواطنين اتفقوا على أن عربات النفايات لا تغيب عن المرور بالطرق الرئيسية وأنهم في كثير الأحيان يستأجرون وسائل نقل صغيرة لإيصال النفايات إلى الطرق الرئيسية ،وأيضاً اتفقوا على غياب خدمة النظافة كلياً عن معظم الأحياء التي يتم تصنيفها في الدرجة الثانية ، ويتساءلون عن أسباب حصرها على الأحياء الراقية . وذات الجولة بالأحياء كشفت لنا عن استمرار عمليات نقل النفايات وفي ذات الوقت تراكمها بأنحاء متفرقة من ذات الأحياء .

الأمطار تفضح حكومة الفريق
في ولاية الخرطوم تأكد تماماً عدم إمكانية استمرار خدمة جمع وترحيل النفايات في فصل الخريف ، فأحياء المايقوما والوحدة بالحاج يوسف والكلاكلة والسلمة بجبل أولياء وعدد من حارات الإسكان التي تجولت فيها الصيحة عقب الأمطار الغزيرة التي اجتاحت الخرطوم في الأيام الماضية لم تزرها عربات النفايات منذ هطول أو ل”مطرة” حيث وجدنا النفايات تحتل معظم الطرقات الداخلية ، وقال لنا عثمان بالمايقوما أن عربة النفايات في الخريف تتوقف تماماً عن المرور داخل الحي وذلك بدعوى رداءة الطرق، معتبراً هذا مبرر غير مقنع ولا علاقة له بالموضوعية وأنه مجرد شماعة تريد هيئة النظافة والمحليات تعليق فشلها عليها ،مؤكداً أن عدداً كبيراً من أحياء العاصمة وبحكم تواصله مع مواطنين فيها تعاني من تراكم النفايات في فصل الخريف ،ويرى أن الإفراز المباشر لغياب خدمة النظافة في الخريف ظهور الأمراض، وتخوف من تفشي الإسهالات المائية.

ضعف في الأداء
من المعلوم أن المحليات هي التي تتولي عمليات النظافة ونقل النفايات إلى محطات الوسط ثم يبدأ بعد ذلك دور هيئة نظافة ولاية الخرطوم المتمثل في نقل النفايات إلى المرادم النهائية والتخلص منها. ويعتقد مختصون أن أداء المحليات يشوبه الضعف ويحتاج إلى إعادة نظر ،ومن هؤلاء مدير إدارة الرقابة البيئية بوزارة البيئة والغابات على محمد الأمين فله رأى واضح فى عمل المحليات. وقال إنها تستخدم عمالة رخيصة الأجور فى جمع النفايات وهى غير ثابتة فى نفس الوقت ،وقال إن هدف العاملين الأساسى من العمل فى جمع النفايات هى النفايات نفسها وأنهم يعمدون الى فرزها حال جمعها فى أكياس أخرى لبيعها خاصة قوارير البلاستيك ( الكريستال ) للتكسب من ورائها، منتقداً المحليات فى عدم توفير شروط خدمة أفضل لعمال النفايات بدخل ثابت حتى سن المعاش .

أضرار صحية
و يمضي مدير إدارة الرقابة البيئية بوزارة البيئة والغابات على محمد الأمين في حديثه موضحاً أن عملية حرق النفايات داخل الأحياء لها أضرار بيئية بالغة خاصة وأن النفايات تتكون من 85% من البلاستيك المصنوع من مادة بليمور والتى عندما تتعرض للحرق تنتج غاز الدايكسين وهو مادة مسرطنة سواء كانت أبخرة أو بقايا الحريق نفسه والتي تسلل إلى داخل التربة لذلك يمنع حرقها نهائياً لأضرارها الكبيرة على سلامة وصحة المواطنين. كما اتهم المحليات بالتسبب فى تلوث البيئة الناتج عن تراكم النفايات. وأكد وجود قصور كبير فى مسئولياتها خاصة فيما يتعلق بالنظافة ونقل النفايات وعدم توعية المواطنين بمخاطر هذه النفايات. وقال إن حماية البيئة من السلطات المشتركة بين الوزارات الاتحادية والولائية بحسب دستور عام 2005م، موضحاً أن دور السلطات الاتحادية حماية البيئة أما الولائية فأن دورها هو ضبط التلوث.

المواطنون والمسئولية
ولم يعف الأمين المواطنين من مسئوليتهم فى تراكم النفايات، وقال يساهم السلوك الشخصى فى تراكمها ، مؤكداً أن سلامة البيئة مسئولية الجميع ولابد أن تشرع السلطات قوانين لضبط ومعاقبة المخالفين ، فيما أرجع القصور فى التوعية إلى الجهات الرسمية. وأضاف أن تراكم النفايات يؤدى إلى تحللها وانبعاث غاز ( الميثان ) منها والذى يؤدى إلى الاحتباس الحرارى كما يساهم تراكم النفايات فى التفاعل ويصبح مرتعاً خصباً لكل المتحللات ويفضي إلى تلويث المنطقة. وتفشى الأمراض المنقولة بالذباب والقوارض والحشرات الضارة ، وألمح إلى وجود نفايات أكثر خطورة من النفايات الصلبة وهى النفايات الطبية، وقال هى أكثر خطورة وتنقل الأمراض والأوبئة الخطرة إذا لم تنقل بطريقة صحيحة وسليمة.

فشل خرطومي
من ناحيته قال وكيل وزارة البيئة والموارد الطبيعية عمر مصطفى إن وزاراته وفرت آليات ومعدات نقل نفايات لولاية الخرطوم بمبلغ 15 مليون دولار عبر منظمة “جايكا” اليابانية منذ عامين للمساهمة في نظافة ولاية الخرطوم، مشيراً إلى أن الآليات كان مخططاً لها نظافة أكثر من (60%) من النفايات بولاية الخرطوم، وقال إن وزارة البيئة تنتظر منذ عامين رؤية الآليات ومعدات النظافة للعمل في ولاية الخرطوم إلا إنها لم تر بعد أي تأثير لهذه الآليات في نظافة الولاية بالرغم من أنها كان مخططاً لها نظافة حوالي (60%) من النفايات بالولاية.

في “وش” المدفع
ما إن يأتي الحديث عن التردي البيئي جراء تراكم النفايات إلا ويتم توجيه أصابع الاتهام صوب هيئة نظافة ولاية الخرطوم التي تبدو أيضاً غير راضية عن واقع البيئة في العاصمة، وهذا ما كشف عنه نائب مديرها العميد الرشيد الأمين عثمان، الذي أشار في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن عملهم ينحصر حالياً في المحطات الوسيطة والمرادم عبر نقل النفايات والتخلص منها. وقال إن العمل في المحليات من اختصاص إداراتها ،لافتاً إلى أن عمل الهيئة الآخر فني بحت يتمثل في تقييم أداء عمل المحليات في النظافة بالإضافة إلى دور آخر يتمثل في توفير الآليات من الولاية وتوزيعها علي المحليات ، مبيناً أن عدم انتظام مرور عربات النفايات على الأحياء يعود بشكل مباشر إلى الأعطال التي تتعرض لها ،موضحاً أن العربات العاملة في مجال النفايات بالعاصمة تبلغ 600 عربة غير أن خروج بعضها عن الخدمة وإخضاعها للصيانة يؤثر سلباَ على نقل النفايات .

عدم رضاء
ويكشف العميد الرشيد الأمين عثمان إلى أن عملية صيانة العربات تكلف أموالاً باهظة في ظل ارتفاع أسعار قطع الغيار، وأضاف:رغم ارتفاع تكلفة التشغيل ألا أن المواطن وبسبب عدم رضائه من الخدمة فانه لايلتزم بسداد ماعليه من رسوم ،حيث لاتتجاوز نسبة التحصيل في القطاع السكني 35% ،وتعتمد الهيئة بشكل أساسي على موارد القطاع الصناعي والتجاري ،وقال إن الهيئة والمحليات تقدمان الخدمة في 104 وحدة إدارية بالولاية ورغم ذلك فأن الهيئة ترى أن الخدمة ليست في المستوى المطلوب وتبدو غير راضية عنها ،إلا أنه يؤكد على أن الوضع الراهن هو الذي أسهم سلباً في عدم وصول خدمة النظافة إلى المستوى الذي ينشدونه ، ويعتقد أن حل مشكلة النظافة بالعاصمة يعتمد بشكل أساسي على دخول القطاع الخاص المقتدر “كرر كلمة المقتدر مرتين”. للاستثمار في هذا المجال ، مؤكداً على أن سلوك المواطن في أحياء بالعاصمة وأسواقها لا يساعد على الوصول بخدمة النظافة إلى المستوى المطلوب ،مؤكداً عدم رضائهم عن المحليات ،معتبراً أن التلوث البصري في فصل الخريف يوضح أن العمل ليس في المستوى المطلوب.

الخرطوم:صديق رمضان
صحيفة الصيحة