جعفر عباس

3 مقارنات بين الحاضر وما فات (3)


يتعامل جيل الشباب مع المخترعات مستجدات التكنولوجيا بعقلية »عادي«، ولا يعتبرونها مفاجأة أو طفرة، لأنهم كبروا ونشأوا والطفرة التكنولوجية في بداياتها، وبالتالي فإن الأجهزة الحديثة لم تجعلهم يصيحون »واااو«، كعادتهم للتعبير عن الدهشة والإعجاب، ولكن بالنسبة إلى جيل الآباء والأجداد فإنهم ظلوا في حالة »واااو« منذ نحو ربع قرن.

أي ربع قرن، الله يهدينا ويهديكم؟ فعندما نرى جهاز الطبخ بالغاز أو الكهرباء، نتذكر الفحم والحطب، والقدور، أي قدور؟ قدر واحد، ما عدا في المناسبات الكبيرة، جالس في فناء البيت، أو داخل غرفة شتاءً، لأن معظم بيوتنا لم تكن قد سمعت بـ»المطبخ«، وكانت في كثير من البيوت غرف يجوز تسميتها »مطابخ«، ولكنها كانت أيضا تضم أماكن للرقاد والجلوس وتستخدم لتخزين المؤن الغذائية الجافة )لأن ما هو غير جاف منها كان يؤتى به يوميا ويستهلك خلال ساعات(.
يا عزيزي حتى إشعال النار كان مشكلة، وبعض العائلات لم تكن تحصل على الكبريت أو لم تكن قد سمعت به، ولهذا كانت كثير من البيوت لا تطفئ نارا، بل تتركها مشتعلة يوما بعد يوم بإضافة كتل خشبية كبيرة إليها تجعل الجمر يبقى متقدا تحت كومة من الرماد، وعاشت جدة زوجتي عمرا طويلا وهي تطبخ طعامها بنفسها على الفحم، لأنها كانت تجد الطعام المطهو على الغاز سيئ الرائحة، وبتناول الطعام الذي تطبخه تلك السيدة، أدركت فعلا أن الطبخ على الفحم يجعل الطعام طيب المذاق، ثم سمعت الطباخين المحترفين يقولون إن الطعام المطهو على نار هادئة، أفضل مذاقا من ذاك المطبوخ بألسنة لهب شديدة الاتقاد.

وقبل أن نستوعب أمر طباخ الغاز/ الكهرباء، ظهر فرن المايكروويف، الذي يختصر مدة طبخ أي شيء بنسبة 75%، ولكنني وبصراحة لا أسمح لأي شيء تم طبخه بـ»إشعاع« أن يدخل بطني، ونستخدم المايكروويف في بيتنا فقط لتسخين شيء مطبوخ سلفا، وخاصة أنه ما زال محفورا في ذاكرة كل فرد من أسرتي، يوم قرر العبقري الجعفري سلق البيض بالمايكروويف، ووضع بيضتين في وعاء زجاجي حشره في المايكروويف، ثم ضبط الفرن على دقيقة واحدة أو أكثر قليلا، ثم وقف جانبا في انتظار انقضاء تلك المدة، ولولا لطف الله لانقضى أجلي في تلك اللحظة، فقد انفجر الفرن وتطايرت واجهته المصنوعة من الزجاج السميك المقوى بشبكة معدنية، واخترقت شرائح الزجاج المتطاير خزانة خشبية، وتطايرت قواي العقلية شظايا، وكأنني نجوت من حادث سقوط طائرة، وهرع عيالي إلى المطبخ، وما إن علموا بسر الانفجار حتى قالوا –بلغة ملتوية، أي غير مباشرة– إنني غبي، حيث شرحوا لي أن الغازات والسوائل المضغوطة داخل البيض، تتمدد وتصبح لها قوة تفجير هائلة عند طبخها في وعاء محكم الإغلاق، و»عشان كدا يا بابا يتم سلق البيض في وعاء مفتوح«. وأنظر إلى مطبخ بيتي اليوم وأتذكر أنه صار يشبه مطابخ البيوت الفخمة التي كنا نراها في أفلام هوليوود ونحن صبية ثم شباب، فهناك جهاز يسمونه فود بروسسر )يسميه العرب بحسب الجهة المصنعة له: كينوود/ براون/ مولينكس إلخ(، يفرم اللحم ويحول الدقيق/ الطحين إلى عجين، و-سبحان الله- يحول الفواكه إلى عصير، ويسحن/ يطحن البهارات، ويمكن استخدامه لصنع السجق/ النقانق )ولكن في حكم النادر أن تجد من يستخدمه لهذه الغاية فطالما هناك سجق جاهز الصنع فلماذا التعب والقرف؟(

آآآخ والثلاجة، أعظم المخترعات، فالكهرباء وهي طاقة حرارية شديدة »الحرورية«، تجعل كل شيء يدخل تلك الخزانة المصنوعة من المعادن واللدائن باردا، وكانت أول ثلاجة تدخل بيتنا ماركة جيبسون، ويتم فتح بابها بالضغط على »أُكرة« تشبه مقبض باب السيارة، ووالله والله صمدت تلك الثلاجة عشرات السنين، بعد إغلاق المصنع الذي كان ينتجها، ثم انظر إلى ثلاجات عصر التكنولوجيا التي لا تصمد إلا سنوات معدودة، لأن من يصنعون مختلف موديلاتها يتعمدون أن تكون قصيرة العمر، وكثيرة الأعطال كي تشتري أخرى جديدة وقطع غيار لـ»القديمة«.

زاوية غائمة
جعفر عباس