تحقيقات وتقارير

“وداعاً بت أحمد إبراهيم” احتشد السودانيون في مسجد لندن الكبير وصلوا على جثمان فاطمة السمحة.. فيما يبقى السؤال: كيف ستشيع الخرطوم اليوم المرأة التي دافعت عن النساء والطبقة الكادحة؟


العاشرة بتوقيت الصباح، ستكون الخرطوم على موعد أخير، مع واحدة من سيدات الوطن، إنها فاطمة أحمد إبراهيم التي ستمر من هنا، أو لمزيد من الدقة (الصندوق) المحاط بالعلم والمغلق على خمسة وثمانين عاماً من البذل، سيهبط في (المطار)، وستكون هي المرة الوحيدة التي تلتقي فيها (فاطمة) بشعبها دون أن ترفع أصابعها ملوحة بعلامة النصر، ودون أن يستطيع صوتها النداء بأنشودة الزمان (عاش نضال المرأة السودانية، عاش نضال الحزب الشيوعي وقبل كل ذلك عاش نضال الشعب السوداني) فاطمة التي طالما حملت الشعب وقضاياه بين جوانحها يحملها الموت الآن لدار أخرى.
“1”
إنهم يرحلون بذات الطريقة، ومن ذات المكان، ليعودوا إلى نقطة العشق الأولى، قبل ثلاثة أعوام كان مضيف الخطوط البريطانية يعلن عن وصول الطائرة إلى أجواء الخرطوم، يعلن ساعتها عن درجة الحرارة بالخارج التي كانت ساعتها حوالي (32) درجة، لكن ما لم يعلمه المضيف ساعتها أن الأرض كانت تغلي بـ(حزن) الدواخل، فالجميع كان ينتظر جثمان محمد إبراهيم نقد، ويتكرر المشهد منذ الصباح، ستجلس النساء السودانيات فوق نيران حزنهن لن يأتين وحدهن، سيكون معهن الرجال والشباب والصغار، فاليوم هو الميقات المعلوم لعودة جثمان أخت صلاح محمد إبراهيم، وذلك بحسب ما أعلنت اللجنة الخاصة بتشييع الراحلة إلى مثواها الأخير.
“2”
قبل وصول الجثمان، إلى مطار الخرطوم ستتوقف الطائرة في القاهرة قبل مواصلة مسيرتها التي ستغادرها عند الثامنة إلا عشر دقائق، وتهبط في السودان عند العاشرة صباحاً وبعدها ستنطلق مسيرة التشييع للتوقف في دار الحزب الشيوعي بالخرطوم (2) قبل أن تصل إلى آخر المحطات حيث ميدان الربيع بأم درمان، حيث تقام صلاة الجنازة ومنها إلى مقابر البكري مروراً بالعباسية، وفي مقابر البكري سترقد فاطمة رقدتها الأبدية قريباً من الزعيم إسماعيل الازهري، بعد أن كتبت سيرتها في سجل الخلود الوطني بيضاء مثل صحن الصيني دون شق أو طق، في لحظة ربما يردد فيها البعض أنشودة الراحل محجوب شريف (شبر في البكري ولا الفلل الرئاسية) وهي العبارة التي تمثل أحد ردود الأفعال على الرفض المعارض لمبادرة رئاسة الجمهورية في توفيرها طائرة لنقل جثمان الراحلة، وإعلانها إقامة جنازة رسمية لها، بحسب ما أعلنت وكالة السودان للأنباء. “3”
في المملكة المتحدة أنهى السودانيون، ما يليهم في ما يتعلق بتكريم فاطمة، حيث تمت الصلاة عليها في مسجد لندن الكبير، واحتشد الكثيرون في وداعها بحسب ما نقلت وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه في المقابل بقي سؤال آخر: كيف تنتظر الخرطوم أول امرأة نطقت بلسان تاء التأنيث في البرلمان، وظلت طوال عمرها ترفع الشعارات الداعمة للنساء وللطبقة الكادحة؟
“4”
وتبدو أولى صور الانتظار هي تلك المتعلقة بالحراك المحموم الذي اختطته عدداً من النساء السودانيات، وهن يقمن بالترتيب لوداع يليق بأيقونة قضايا المرأة في السودان، وهو الأمر الذي بدا ماثلاً في حراك مبادرة (لا لقهر النساء)، والتي بدأت مكوناتها في التنسيق وتحديد آليات الاحتفاء بـ(ست فاطنة) وفي هذا السياق فإن الدكتورة إحسان فقيري اكتفت بترديد عبارة أن فاطمة فتحت لنا طريق تحقيق الغايات، وأن المسيرة التي ابتدرتها لن تقف، فيما شاهدت (اليوم التالي) عضوات المبادرة وهن يقمن بإنجاز الترتيبات الأخيرة الخاصة بالشعارات واللافتات التي تمجد فاطمة أحمد إبراهيم باعتبارها أنموذجا يحتذى به في ما يتعلق بالنضال من أجل إنجاز الحقوق، ومشهد الاستعدادات لا يبدو حكراً على مبادرة (لا لقهر النساء)، ففي دار الحزب الشيوعي يمضي الزملاء في تسريع خطوات برنامج تشييع يليق بالسيدة فاطمة وبما قدمته للوطن طوال مسيرتها الظافرة.
“5”
في منزل الراحلة بالعباسية، تم نصب خيام العزاء، حيث احتشد الناس وهم يتبادلون التعازي، لم يكن الأمر ليكتمل دون أن توضع صورة كبيرة لفاطمة أحمد إبراهيم، هنا في هذا المكان لطالما سطر التاريخ مواقف لصاحبة الصورة لم تكن مواقف تخصها وحدها كامرأة، وإنما تخص حيا بأكمله كانت فاطمة جزءا من حراكه العام، لذلك لم يكن مفاجئاً أن يكتب بالطباشير على سبورة سوداء (نعي أليم)، ينتهي التوقيع عليه بحي العباسية الأمدرماني وعلى مقربة من طلمبة عابدين حيث يحتفظ الأرشيف بهتاف فاطمة ضد جعفر نميري (يسقط حكم العسكر).
“6”
الخرطوم كعادتها، لا تترك أحداثها تعبر دون أن تختلف حولها، فلم يكن الاتفاق حول (سودانية) فاطمة وقيمتها الوطنية ليمنع الناس حق الاختلاف حول من أحق بفاطمة، وكان قرار السلطة برسمية التشييع وجد ردة فعل معارضة غاضبة، ويقول الرافضون لتشييع فاطمة عبر السلطات الرسمية إن فاطمة لم تكن ملكا للسلطة التي واجهتها، وبالتالي فإن الامر لا يعدو كونه محاولة (للمتاجرة) لا أكثر ولا أقل، وهو الأمر الذي دفع باللجنة لإصدار بيان تعلن من خلاله أن كل إجراءات التشييع والتجهيز ستتم عبر هذه اللجنة، وأنها لا تسمح بتدخل الحكومة أيا كان نوع هذا التدخل، مؤكدة أن مثل هذا الحدث يعيد أسئلة تظل مكتومة.. مثل: أين كانت السلطة وهي التي تدفع بالمعارضين لمغادرة وطنهم؟ وهو الأمر الذي يجعل عملية التجمل بعربة نقل الموتى لا يليق باللحظة، وما على النظام إلا أن لا يقترب من فاطمة، لكن حالة الرفض المعارض تقابلها في المقابل حالة لتعزيز الخطوة التي تجعل من الحكومة ممثلة في رئاسة الجمهورية واقفة في خط واحد من كل السودانيين، وأن مسؤوليتها تتطلب منها هذا الخطوة وأن الرفض المعارض لا يتجاوز كونه أيضاً حالة متاجرة لا تليق بقدسية الموت.
“7”
ولكن لحظة قدسية الموت نفسها، لم تمنع البعض من عرض بضاعتهم في السوق الخرطومي وهو ينتظر جثمان فاطمة أحمد إبراهيم، ليأتي صوت مزمل فقيري المنسوب لجماعة أنصار السنة المحمدية في الأسافير معلناً عن (تكفير) فاطمة أحمد إبراهيم، ويبرر مزمل لمستمعيه بأن التكفير جاء نتيجة علاقة السيدة بالمنظومة الشيوعية في السودان، ولرفضها تطبيق الشريعة الإسلامية، ولدعوتها للمساواة بين الرجال والنساء، وفي المقابل وجدت الحملة التكفيرية ردود أفعال رافضة لها وأن (القيم) التي كانت تحملها ابنة إمام المسجد يفتقدها الكثيرون من دعاة الإسلام السياسي الآن، فيما طالب آخرون بتجاوز مثل هذا النوع مما أسموه (الترهات) وافتراض البعض امتلاك حق الإيمان والتكفير وتوزيع صكوك العفو وفقاً لما يراه هو، وفي السياق ردت إحدى الشابات بالقول: “الإيمان والكفر أمور بين الإنسان وخالقه، ولكني لو سئلت لمنحت فاطمة درجة الإيمان القصوي بما كانت تفعله وهي تستهدف تحقيق تطلعات السودانيين والسودانيات في حياة خيرة، ولهذا الأمر سأكون هناك، في استقبال جثمانها فقط سآتي لأقول لها شكراً لحياة وهبتها لنا من أجل أن نعرف قيمة الحياة”.

الخرطوم – الزين عثمان
اليوم التالي