جعفر عباس

مقارنات بين الحاضر وما فات (9)


(المقال التاسع)
هل تذكرون قلم الكوبيا؟ كان خشبيا بداخله شريحة مستدقّة لونها أزرق، ولكي يكون الخط أكثر وضوحا كنا نبل سِنّة ذلك القلم باللعاب )باللحس باللسان(، وكانت المستندات المكتوبة بالكوبيا معترفا بها رسميا، لأن أقلام الحبر كانت قليلة الاستعمال، ولا تتوافر إلا لدى نخبة الصفوة من المتعلمين، وبالطبع لم تكن المستندات المكتوبة بقلم الرصاص تحظى بالاعتراف الرسمي لأنها قابلة للمحو والجرح والتعديل، ودالت دولة الكوبيا، الذي لم يكن محبوبا أصلا لأنه ارتبط في الأذهان بالمعاملات مع الأجهزة الحكومية، وينشأ العربي وهو يعتبر الحكومة خصما له في كل شيء.

في الصف الثالث من المرحلة الابتدائية، )في السودان على الأقل، وكان النظام التعليمي السوداني يقوم وقتها على أسس متينة(، كانت المدارس تزود التلاميذ بريشة نحاسية مغروزة في عود مخروطي رفيع، يتم غمسها في وعاء يحوي حبرا سائلا، ويسمى »المَحْبرة«، ثم أكرمنا الله ووصل إلينا اختراع القلم الذي حبره منه وفيه، أي تملأه بالحبر فيعمل مثل السيارة إلى أن يصبح »التانك« فارغا فتعبئه مرة أخرى، ثم حدثت أروع طفرة في عالم الكتابة بظهور ما يسمى القلم الجاف، وكما بات معروفا فقد كان منها ما يصمد شهرا كاملا، وما يدوم شهورا طويلة، ثم جاء الكمبيوتر، وراحت على جميع أصناف الأقلام، وبقيت الأقلام الجافة وشبه سائلة الحبر تستخدم فقط للتوقيع على المستندات.

في هذه اللحظة، هناك على يساري طابعة إلكترونية، وإذا أردت طباعة نص، أضغط على زر »اطبع« في الكمبيوتر فتطبع، وتطيع الطابعة الأمر حتى في غياب وصلة سلكية بينها وبين الكمبيوتر. هذا سحر أم شغل شياطين والعياذ بالله؟ تقول الإرشادات الموجودة على الطابعة إنه لا حاجة بي إلى جسر من السلك، يربط بين الطابعة والكمبيوتر، طالما لدي في البيت والمكتب خدمة الإنترنت اللاسلكية، المسماة وايرلس واي فاي )قالت سيدة لصديقتها إنها تشك في أن زوجها متزوج سرا بأخرى، لأنه يتردد كثيرا على شقة سكنية معينة، بحجة أن له صديقا يقيم فيها، فقالت لها الصديقة: روحي معاه العمارة اللي فيها الشقة، ثم انظري إلى هاتفه الجوال وإذا لاحظت أن الواي فاي شبك مع الهاتف، فمعنى ذلك أن لديه شفرة استخدام الإنترنت هناك، مما يؤكد أنه متزوج بمن تقيم هناك، والأصدقاء لا يتبادلون رموز استخدام الإنترنت اللاسلكي خوف الاختراق والتهكير، ويقال إن إبليس سمع هذا الكلام وهتف: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله(.

وسبحان الله وأحمده كثيرا، فهذه الطابعة تجعلني قادرا على إرسال فاكس من الكمبيوتر مباشرة إلى أي رقم فاكس في أي جهة في العالم بمجرد وصلها بخط الإنترنت، وكان جهاز النسخ التصويري الـ)فوتو كوبي( هو زينة المكاتب سنوات طويلة، وتجده جاثما بهيكله الضخم مثل أبي الهول في أجزاء معينة في المكاتب، وتضغط على »أمر الطبع« على الكمبيوتر ثم تتوجه إلى حيث جهاز النسخ لتحصل على المادة المطبوعة )لأنها ضخمة الحجم والثمن فقد كان القليل منها يخصص لاستخدام مجموعات كثيرة العدد من الناس(، واليوم صارت الطابعات الإلكترونية الصغيرة متاحة بأسعار زهيدة نسبيا، وتتفوق على الناسخات الكبيرة لكونها »تمسح« المستندات وتعطيك منها نسخة طبق الأصل بجودة أعلى من جودة الفوتو كوبي، وتستطيع ان تحتفظ بها في قرص الكمبيوتر الصلب )هارد دِسْك(.

وكفاعل خير فإنني أنبه أبناء وبنات جيلي حاملي الهواتف الذكية إلى أن هذا النصف من الهواتف به »سكانر«، أي خاصية مسح وتصوير المستندات بدقة أعلى من دقة كاميرا الهاتف لأنك تستطيع بعد المسح، ضبط زوايا وأطراف المستند بحيث تأتي النسخة تماما طبق الأصل بكل تفاصيله، وقيمة هذه الخاصية هي أنك تستطيع أن تحمل معك جميع مستنداتك المهمة )البطاقة الشخصية ورخصة قيادة السيارة إلخ( معك أينما ذهبت، وتبرزها عند اللزوم.
نفعكم الله بعلمي »الغزير«، وسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.

زاوية غائمة
جعفر عباس