الصادق الرزيقي

قرقاش.. عدت يا عيدي بدون زهور


«أ»
تتباعد الأزمنة والمسافات، لكن طعم العيد يبقى كما هو، لا شيء يتغير إلا الناس والشخوص والأماكن والمشاهد والصور، وينثني الزمان كعنان فرس جامح، وتسكن مشاشه مشاهد لا تضيع،

ولحن الحياة يتسارع إيقاعه، لكن.. الدنيا مثل الشعاع الشفيف تلتمع حين يزداد الإشراق وتعتم يوم تتحالك النفوس ويغطي الإنسان روحه ويسدل غلالات سود على ذاته وتنفر منه حمائم المودة الصافية كما اللؤلؤة على ثبج البحر.
في ذلك الفجر والترتيل العذب ينبعث من المسجد القريب، خيوط الفجر تلامس الوجوه، المدينة كلها تستقبل فجر العيد، تتسلل خيوط الضياء من بين فجوات الشجر والسحابات الرقيقة وفوق رهوها العجيب، وعصافير تتوامض في رحلتها من أقصى الغرب نحو أحداق الشمس النشوى وهي ترقص في الأفق الشرقي المكتسي بلونه الأحمر الفاقع.

جلبة وصخب واستعدادات كبيرة، والبيوت وسكانها في فرح غامر كبير والأبواب تفتح وأصوات الأطفال والخراف تعلو هنا وهناك، الذاهبون للصلاة في الساحات والميادين، والثياب المزركشة لأطفال تتلامع مع أشعة الضحى وسط الحي تملأ الطرقات، وكأن الأيام والصباحات الرفيفة تحلب من أثداء الشمس تلك الوضاءة والجمال والصفاء البهيج.

التكبيرات والتهليلات تزدحم هي نفسها على الأفواه والألسنة، مثلما ازدحمت بالخلائق الشوارع الواسعة في حي الوادي بمدينة نيالا أوساط السبعينيات من القرن الماضي. ولا شيء في الدنيا تلك الأيام، إلا جلال المسمع والمشهد والمناسبة والعروج نحو أعاليها السماء.

«ب»
الذي يذكره كل من استذكر تلك السنوات المترعات المشرقات في حي الوادي شرق طاحونة تكتيك، قبسات من عصارة أزمنة متخمة بالجمال، ومن يتذكر لا بد أن يأتيه طيف غريب، عند صباح عيد الفداء من كل عام، فما أن يرجع الناس من ساحات صلاة العيد المنتشرة في المدينة أو على رمال وادي برلي القريب من الحي، حتى يظهر في طرقات حينا الدافئ الكبير، شخوص لا تزول عن الذاكرة ولا يغيب مرأى تجوالهم ووجودهم الطاغي، هم من ركزوا معاني عظيمة لم نزل نحن ننهل ونقتات منها وندخر ونستلهم.

على طول طريق التبلديتين بحي الوادي شرق، يظهر هناك رجل مفتول العضلات مربوع القامة قوي البنية شديد سواد لون البشرة، يمشي مثل فارس مقهور فر من قوس القرون الوسطى ضاعت منه فرسه ونُزعت عنه رماحه وسُلب سيفه وكُسر قوسه، يمشي متمهلاً مطأطأ الرأس حيناً يتمايل كأنه أفرغ للتو دناً من مخمور بلدي في جوفه، على قدميه ثبت بعناية خف قديم أو جزمة «باتا» المصنوعة من البلاستيك أو القماش السميك، أو انتعل « شبط ــ تموت تخلي» المصنوع من بقايا إطارات اللواري القديمة، يحمل جراباً ضخماً.. وأحياناً يعلق حقيبة مربعة الشكل مفتوحة من أعلى صنعت من الخيش أو جولات البلاستيك، يضع بداخلها فأساً قصيرة حادة وساطوراً ضخماً وسكيناً شفرتها أحد من البرق كما يقول هو حين يصفو وينتشي وينتفش كطاؤوس هرم.

يمشي«قرقاش» في صمته المريب ليجد بعض أهل الحي قد جهزوا له خرافهم وأضحيتهم لذبحها وسلخها، وحده يحمل الخروف مهما كان وزنه ويتله على الأرض ويثبته عليها ويذبحه في ثوانٍ قصار، ويبدأ في عملية السلخ، له عود رقيق مخصص لصنع مسار وثقب في الجلد لنفخ الخروف من رجله الخلفية اليسرى أو اليمنى، ووحده يعلق الخروف على شجرة أو على باب المنزل أو على شِعب راكوبة أن وجدت، ولا تمر دقائق حتى يسلم الناس اللحم مجهزاً مصنفاً وقد كسرت فيه العظام وفصلت عنه الأحشاء.. ثم يأخذ «قرقاش» الرأس وأرجل الخروف وما يعطونه له من لحم، ويحمل الجلد، ليتجه لبيت آخر، وخلال ساعة أو تزيد قليلاً يكون قد جمع أكثر من عشرة من رؤوس الخراف وأكثر من أربعين رجلاً وعشرة جلود ولحماً يساوي ما حصلت عليه كل أسرة ذبح لها وسلخ بعد أن ضحوا ضحاياهم وسالت دماؤها.

ثم يتجشأ، ويذم شفتيه ويأكل من الشواءات التي حُضِرت ويكوّم الجلود ويربطها جيداً، ويأتي بجوالين أو اثنين يحمل فيهما ما غنم من مغانم اللحوم، ويختفي مع ظلال الضحى حين تتعامد الشمس في كبد السماء، ويتوارى في شوارع الحي حين يحاذره الأطفال وتخافه الصبايا من الفتيات، ولا تجد له ذكراً ولا خبراً عقب أيام عيد الفداء، ولا يسمع به أو يبصر إلا وهو بعيد هناك في أقصى حي الجبل شرقي المدينة يفاوض أصحاب المدابغ البلدية، وقد وضع أمامهم في حفر المدابغ على الأرض عشرات الجلود التي كسبها في أيام العيد من رزق حلال وهبته له شفرة سكينه ونصلها الحاد وفأسه القصيرة وساطوره الأسطوري الضخم وضحكته المجلجلة.

«ت»
يتزامن مجيء قرقاش في الحي وأمام البيوت، مع مرور يشبه المواكب السلطانية والملكية القديمة، حيث تأتي «حاجة بانا» وهي من رموز الحي والمدينة تضع على ساعدها مصلاة الصلاة، وتنزل من عربة كارو فخمة مخصصة لحملها لمكان الصلاة، وبحجمها الضخم وطلتها المهيبة ووجهها الذي تلوح فيه خبرة العمر والسنوات الطوال والحكمة والصلابة وتحمل الهم العميق، تطرق كل بيت في الحي مثل ما يفعل الرجال وتنادي بصوتها العالي على أهل البيت مباركة لهم العيد السعيد، ونحن الصغار نمشي خلفها مثل الجوقة الإمبراطورية التاريخية الخالدة، ونحفظ منها عبارتها الأشهر في العيد التي صارت مثل التمائم على صدر المجوسي «العيد مبارك عليكم.. العفو لله والرسول، سيد الخير الله يزيده وسيد الشر الله يمحا ..» ولا تمكث إلا برهة في هذا المنزل أو ذاك.. تطوف البيوت ولا تأكل شيئاً أو تتذوق… إلا التمر، وتختم جولتها على كل الجيران والأهل والأحباب وتنثر لنا نحن الأطفال ما تُعطى من حلوى وتمر، ولديها تحت ثوبها الأبيض، فستان له جيوب تملأها بجيد التمور وأنواع من الحلوى وعملات معدنية، ثم تتهادى في مشيتها المائلة المتمهلة نحو بيتها الذي تعلو فيه آنئذٍ ألوية دخان الشواءات ورائحة التقلية عين الديك وأقداح العصيدة يتزاحم حولها الضيوف من رجال ونساء.

والزمن العجيب يقف هناك عبر الفجوات والفلوات يهذى بكلمات عبد العزيز المقالح:

والتقينا
لم يعد في العين شيءٌ من بريق
جف نهر الحب
أغفى في صقيع الليل محموم الحريق
نغم الأمس الذي هدهدنا
سكنت أوتاره.. الصوت عتيق
قد مللنا ولكم سرنا فما
ملّت العين ولا طال الطريق
غرقت في الضفة الأخرى حكايانا
فماضينا غريق لم تعد أهدافنا واحدة
ورفيق العمر ما عاد الرفيق
حطم الكأس لكم قد صدئت
شفتاها.. فقد اللون الرحيق
٭٭٭٭
الشعرة البيضاء
يكبر الحزن ونكبر
كل عام نتشظى نتكسر
جرحنا النّغار ينمو يتخثر
أمسنا مات.. غد لن يتأخر
أي شيءٍ حولنا لا يمطر الموت، وفي أعماقنا لا يتبخر
طفلنا جف.. تحجر
أنكرت لثغته الشمس.. ووجه الأرض أنكر
وفتانا.. احترقت أقدام عينيه تعثر
كان أصغر
كانت الصخرة أكبر
أي شيءٍ سوف يبقى بعدُ أخضر؟
فلماذا تزرع الحزن خطانا؟
تتكسر … تتفجر …

«ث»
عند منحى الشارع نلمح آدم حماد وهو «ضباح» ماهر آخر لم يعطه «قرقاش» فرصة للتمدد في بيوت الحي ذابحاً وسالخاً وغانماً، نراه يحمل بعض عائدات الذبح والسلخ، وطاقيته التي سودت على رأسه التي ما خلعها أبداً ظلت تشرب من عرق رأسه الراشح وهي شاهدة عليه مذ هو يلعب «الضالة والسيجة» لخمسين سنة ما وهن، وما ضعف نظره أو سمعه، ولا فلتت من أصابعه مهارة اللعبة وفنونها، نراقبه يعود بغنيمته القليلة وهو يردد أبياتاً من شعر شعبي لم نستطع تبين ألفاظه ومعانيه إلا النزر اليسير، لكنه بلا شك يلعن الدنيا بترنيمة:

«الفقر مالك بقيت لي أفزر
أنا سعيت الجداد ماتن لي في قعور الشدر»
ويتوارى وراء بيته ويدلف إلى قطيته الوحيدة، ولون قصبها الرمادي المسود يحجب عنا دمعات الرجل الحزينة لعمر أفناه وحيداً حتى شاب ودنا من حافة الحياة وهاويتها.. لوثته المأساة كما كانت في قصيدة «الطريد» لعبد الوهاب البياتي:

حلمت أني هارب طريد
في غابة في وطن بعيد
تتبعني الذئاب
عبر البراري السود والهضاب
حلمت والفراق يا حبيبتي عذاب
أني بلا وطن أموت في مدينة مجهولة
أموت يا حبيبتي
وحدي بلا وطن

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة


تعليق واحد