الصادق الرزيقي

عوض الله عريبي.. إنت يا الصابر عند الله جزاك


«أ»
كأنما مدينة الصخب والضياء والمال والشهرة والسياسة الدولية والمطامع والنجوم، تظلم الآن، يلفها لون الموت الكالح وسواده البهيم ..

ارتدت نيويورك منذ الأمس ثوب وشاح حزنها، رغم انها مدينة بلا قلب ولا دموع، تحسو كل ما في الكؤوس من دفء وما في الأفئدة من ايمان ونقاء وصفاء، لكن تعلمت أمس البكاء وغالبها الدمع وانفطر منها الفؤاد ..
مات عوض الله بشير عريبي، أعلي هامة في نيويورك وأسمق جبين، راقد على سرير المرض أكثر من ربع قرن، لكنه بإيمان شامخ يناطح ناطحات سحابها وبريق عينيه الصافيتين يفوق شعلة تمثال الحرية علواً وارتفاعاً ..
الجمنا خبر رحيله وهو صابر يرجو ربه ونعماءه وفضله، لا نستطيع الكتابة عنه اليوم، فقط نعيد ما كتبناه عنه في مطلع أكتوبر ٢٠١٤م عندما زرته في مشفاه في نيويورك .
> كل معالم نيويورك، سمائها وصخبها وناطحات سحابها وبناياتها العالية، وأضواء ميادينها وساحاتها، ونجومها وحياتها الضاجة السريعة المتعجلة، وجسورها وقطاراتها وأسواقها ومشاهيرها وتكنولوجيا الحياة الرغدة وأسواقها ومتاجرها وفناراتها ومنائرها، كلها لا تساوي شعاع الضوء المنبعث من غرفة في الطابق الثالث من مستشفى في نهاية الجزء الشمالي من مانهاتن «مستشفي هنري كارتر للنقاهة» Henry Carter nursing facilty ــ 122 st ــ park eve»، وسط أغلى وأغنى بقعة في العالم الفسيح ومجمع عصب الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية.

> ينبعث نور عرفاني وضياء إيماني بهي ساطع من نوافذ غرفة مجهزة بكل التقنيات الطبية، لرجل مريض، ظل هكذا قرابة خمسة وعشرين عاماً لا يتحرك منه إلا لسانه وإيماءات خفيفة برأسه وحركة من يده اليمنى، كل نيويورك وبهجتها وزحامها وإيقاعاتها وجمالها ونظامها ونظافتها ومظاهرها العصرية المتقدمة، من هذه الغرفة الصغيرة المرتبة المنظمة يتوسطها سرير طبي خاص مزود بلوحة تتحكم في حركته علواً وهبوطاً وتتحكم في كل الأجهزة الملحقة به وبالتجهيزات الطبية المختلفة.
> يرتفع السرير بظهر المريض إلى الأعلى على هيئة الجلوس تقريباً، ووسطه توجد طاولة وضعت في مستوى رأسه في مواجهة وجهه، وعلى الطاولة ثبت جهاز حاسوب لوحي «آي باد» ووضع هاتف متوسط الحجم، وأمام السرير على الجزء الأيسر من الغرفة كرسي متحرك خاص بأحدث التجهيزات التي تتحكم في حركته، وعلى الحائط على اليمين علقت أوراق عليها أرقام هواتف مختلفة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وعلى منضدة قريبة توجد بعض الاحتياجات الخاصة من أكواب وأطباق ومستلزمات أخرى، وعلى طرف من الغرفة في محاذاة السرير الطبي، دولاب من جزءين، مغلق بإحكام فيه متعلقات شخصية وعطور وملابس.
> لكن الجو كله في الغرفة يضفي عليه وجود هذا الرجل الصبور بهاءً غريباً، وأكثر من ذلك الدعاء والمرح الفياض زيارات الناس من كل جنس ولون من شتى بقاع العالم والمسلمين منهم خاصة المسلمين الأمريكيين السود، وكأن الغرفة هي منهل من مناهل الإيمان وبقعة من الصلاح نادرة في فجاج ظلماء.

«ب»
> يرقد في هذه الغرفة التي تلغي كل بديع ومدهش وجميل من نيويورك، السوداني الصبور «عوض عريبي» أشهر معلم من معالم نيويورك، فهناك تمثال الحرية الذي يزوره السياح وزوار المدينة وساحة تاميز إسكوير ومنطقة غراند زيرو منطقة برجي التجارة العالمية اللذين فجرا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م، والبرج الجديد الذي شيد في مكانهما ومتحف الحادثة وضحاياها، وهناك برج الأمبير ستيت، والبرودوي والوول ستريت وعشرات المتاحف والمسارح ودور العرض، ومبنى الأمم المتحدة، لكن طبقت الآفاق شهرة المريض السوداني الأكثر مكوثاً في المستشفيات النيويوركية.
> ولا تنقطع زيارات العرب والمسلمين والآسيويين ومن أمريكا اللاتينية عن زيارة الرجل، للدعاء لهم فهو عندهم من رجال الله الصالحين لو أقسم على الله لأبره، ينضح الإيمان العميق والصبر على الابتلاء من وجهه الضحوك وابتسامته المرتسمة على وجهه وهو راقد في مكانه لربع قرن تقريباً من الزمان.
> وتجد عنده الدعاء الصادق والإيمان العجيب بالابتلاء.. يتزودون منه، تتضاءل الدنيا في أعين من يعوده، يتلقى كل من يرتاده درساً في حقيقة الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

«ت»
> ولد عوض عريبي في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي في منطقة شبشة الشيخ برير بولاية النيل الأبيض، وهاجر إلى دول عربية قبل أن يستقر في الولايات المتحدة نهاية عقد الثمانينيات في مدينة نيويورك، جاء بأحلامه وطموحاته للعالم الجديد، ونفسه مملوءة بقين وروحه متوثبة للعمل والكد والمثابرة.
> لكن قدر الله نافذ، فبعد سنتين من وصوله نيويورك في عام1991م بينما هو يقطع أحد الطرق في منطقة بروكلين الشهيرة، شعر بعمى مفاجئ ثم صوت سيارة مسرعة نحوه، وحدث حادث مفجع ورهيب فقد ألقته السيارة عند اصطدامها به في الجانب الآخر من الطريق، وطار في الهواء لمسافة عشر أمتار تقريباً ليرتطم بسيارة أخرى.. ولم يجد نفسه إلا بعد أيام طويلة وليالٍ في مستشفى، وآفاق من غيبوبة طويلة امتدت لأسابيع، ليجد نفسه يعاني من كسر في عموده الفقري سبب له إعاقة وعجزاً كاملاً وضربة في العنق.. ولا يتحرك أي طرف من جسده.
> وهو على هذه الحال منذ عام1991م حتى اللحظة، يتلقى العلاج من تلك اللحظة، ولم يتعافَ من الإعاقة الكاملة في جسده، والإصابة في العنق والصدر سببت له ضيقاً في التنفس حيث لا يستطيع التنفس إلا بمده بالأوكسجين بشكل مستمر.. وليس لديه طرف يتحرك إلا رأسه ولسانه الذاكر لله الحامد له المستغيث به لا سواه، وأصابع يده اليسرى التي يحركها ببطء ليضغط على أزرار الهاتف ليتصل أو يلمس بها لوحة التحكم على السرير، ولديه أداة أطول من قلم الرصاص فقليلاً يمسكها بأسنانه يحرك بها أيقونات الحاسوب اللوحي «الآي باد» ليفتح برامج القرآن الكريم والتلاوة وكتب الفقه والحديث، ويستطيع من جسده كله تحريك يديه ورأسه يمنة ويسرة، ولسانه الذي ينطق به.
> لسانه طيلة هذه الفترة كما يقول هو.. لم يتحرك إلا بذكر الله وقراءة القرآن والسلام على الناس ورد التحية، لم يغتب أحداً أو يذكر إنساناً بسوء ولم يتطرق بما يشين لأي من الناس.
> ما يقرب الخمسة وعشرين سنة.. لا يذكر في الدنيا غير الخالق البارئ المصور العزيز الجبار اللطيف الخبير، لا يقرأ غير كلامه، ولا يتأمل إلا في بديع صنعه وخلقه، ولا يراجع إلا حديث رسوله وحبيبه المصطفى «ص».. فما النتيجة؟!

«ث»
> يقول عوض عريبي.. ويا لها من تذكرة لمن أراد «إنني بهذا الابتلاء.. أرقد هنا منذ عام1991م، أعيش في نعمة من الله لا أستطيع أن أعددها ولا أوفيها، فتح الله عليَّ وأنعم بما لا أتصوره ولا تعرفونه ولا يعرفه أحد …».
> وهناك من يزوره ويذرف الدمع على حالته، فجسده ضمر ويداه تيبستا على العظام ولا يظهر منه غيرهما ورأسه ووجهه.. فيقول لمن يبكي وتطفر دموعه: «لماذا تبكون.. أنا أفضل منكم جميعاً.. أحسن حالاً.. وأعلم وأرى من الله ما لا تعلمون ..» ثم يضحك ملء فيه وتظهر علامات الرضاء على وجهه الباسم.
ويقول: «لم أجد طوال حياتي نعمة من نعم الله عليَّ، مثل نعمة الابتلاء الذي أنا فيه..»!!
> ولا تلبث وأنت معه أن تشعر بالغرفة تمتلئ وتمتلئ الممرات بالزوار من الجنسيات الأخرى وعارفي فضله.. العرب الخليجيون بمختلف مقاماتهم يحرصون على زيارته ويطلبون منه الدعاء لهم.. فيدعو الله بصوت مرتفع للجميع، المسلمون من الأمريكيين السود ..لا يفارقونه.. يطلبونه في التضرع ويسألونه في مسائلهم، ويوفق بينهم في خصوماتهم، ولسانه يدعوهم للخير والصلاح والفلاح والنجاح.. جنسيات أخر من مسلمي آسيا وأندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان وآسيا الوسطى وإيران وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.. لا ينقطعون عن زيارته.
> السودانيون يجتمعون عنده كل ساعة وكل يوم وليلة، من البعثة الدبلوماسية
والجالية والمقيمين في نيويورك وبقية أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية، كل منهم ينسى الدنيا غلظتها وضغوطها عنده عندما يقف عند حافة السرير الطبي لديه.

«ج»
> عوض عريبي.. وهو طريح الفراش لعقدين ونيف من الزمان، لا يرى في حاله إلا نعمة من نعم الله عليه، يظل في مدينة مثل نيويورك وما أدراك ما هي؟ قريباً من الإله.. قلبه أوسع من هذه المدينة والدنيا بأكملها.
> وعندما يقول لك أنا في نعمة من الله وفضل، تنبع وتنبعث من عينيه ومضات غريبة!! ويلوح بريق وضيء لماع وعيناه في جحريهما تتوالد الأبعاد من أبعاد.. هناك فتوحات ربانية تتراءى أمامه.. يحس بها زواره لكنهم لا يرونها.. أعطاه الله هذا الصبر.. وقد وصف الرحمن الصبر بأنه جميل، فجمال الصبر على الابتلاء في وجه هذا الرجل النادر.
> إذا كانت الولايات المتحدة بكل تقدمها الطبي التكنولوجي وتقدم العلوم في مجال الطب.. لم تستطع تعويضه وعلاج حالته، فإن الآفاق التي يتحرك فيها.. والسماء التي تحلق فيها روحه بحناحين هما الصبر والدعاء.. هي دليل على أننا كبشر ما أوتينا من العلم إلا قليلاً.. وأن وراء الصبر وحمد الله وشكره الفوز والخلاص.. وأمر المؤمن كله خير.. ومن أراد أن يتعلم ذلك ويشاهد هذه المعاني.. ويقاربها ويقارنها.. فليتعلم من هذا الرجل الرباني العجيب.

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة