رأي ومقالات

قصة سبقٍ صحفي


-1- مهندسُ الكهرباء بمطبعة (السوداني) عبد الله محجوب خوجلي، يُوقظني من النوم، ما بعد الرابعة صباحاً، ليُخبرني بمقتل خليل إبراهيم، وقد اطَّلع على الخبر من شريط قناة الجزيرة الإخباري.
ما بين المنزل ومباني الصحيفة بشارع البلدية، وموقع المطبعة بعزبة بحري، تتسارعُ خُطانا بأقدام مُخدَّرة بالتعب والإرهاق وعيون تُقاوم سطوة النعاس، لإخراج طبعة ثانية.
الماكينات تعمل إلى التاسعة صباحاً، وأكشاك الصحف تُقدِّم للقراء صحيفة طازجة وساخنة من فرن المطابع.
-2-
قبل يومَيْن مدير التحرير الشاب التَّقي الورع الغيور، عطَّاف محمد مختار، ينتظر موعد صلاة الفجر، ما بين مسبحته ومتابعة آخر الأحداث، يعثر على خبر إلغاء حظر سفر السودانيين إلى أمريكا.
جهازُ الموبايل يُطلق أنغام التنبيه لاتصالات ما بعد منتصف الليل.. عطَّاف مختار على الخط، قلت: (يا ساتر، يا ساتر، إن شاء الله خير).
يُخبرني عطَّاف بخبر الإلغاء، فكان القرار إصدار طبعة ثانية – بغضِّ النظر عن التكاليف والمتاعب – والهميمُ النبيلُ مازن برِّي مديرُ المطبعة ومهندسوه وطبِّيعِوه من السودانيِّين والفلبينيِّين، كانوا على العهد بهم في كل الأوقات، همَّةً ونشاطاً وسرعة إنجاز.
-3-
المُضحك أنه حينما حضر مازن وعطَّاف إلى الصحيفة لكتابة وتصميم الخبر الجديد – ما بعد الرابعة صباحاً – وجدوا الأبواب مُغلقة، والحارس المُسلَّح (الضَّو)، لا يُجيب على نداء الهاتف.
كان القرارُ على الفور واللَّحظة، تسلق الحوائط العالية والقفز إلى داخل الصحيفة، وتوقُّع أسوأ السيناريوهات.
هذه هي الروح التي تُسيطر على كُلِّ العاملين بالصحيفة، صغيرهم قبل كبيرهم، من أجل تقديم خدمة صحفية لمصلحة القارئ، ولوجه الله والوطن.
-4-

سألني بعض الأصدقاء، عن سرِّ احتفاء جهات عدَّة، من مسؤولين ومواطنين ومؤسسات، بانفراد صحيفة (السوداني) بالخبر.

قالوا لي: هذا ليس هو السبق الوحيد للصحيفة، في اللحاق بأخبار الساعات الأولى من الصباح، وإخراج طبعة ثانية في الوقت الحرج، فما الجديد؟
صحيح أنه سبَقَ لـ(السوداني) في مرَّات عدَّة، منذ انطلاقتها الأخيرة في مولدها الثالث 10/10/2010، تحقيق تميُّز صحفي بالانفراد بأخبارٍ ذات أهمية عالية، وفي مرَّات كانت تُشارك صحيفة أستاذنا الجليل/ أحمد البلال الطيب (أخبار اليوم)، ثمار مطابع الساعات الأولى من الصباح.

(السوداني) حقَّقَت السبق الصحفي في مقتل دكتور خليل إبراهيم، وإقالة صلاح قوش، وتحرير هجليج، وكشف الانقلاب المنسوب لـ(ود إبراهيم).
(السوداني) الصحيفة الوحيدة في الشرق الأوسط، التي خرجت بخبر فشل الانقلاب العسكري الأخير في تركيا.
-5-
ذكرتُ لأصدقائي من المستفسرين، عدة أسباب وراء الاهتمام واسع النطاق بانفراد (السوداني) الأخير:
الأول/ سبب سياسي، وهو أن قرار إلغاء حظر سفر السودانيين إلى أمريكا، قيمته ليست في ذاته، ولكن في دلالته، فهو يُعطي مؤشراً قوياً بأن واشنطن عازمةٌ هذه المرة على رفع العقوبات عن السودان.
القرار أكمل ما بدأه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وهو كسر الحاجز الذي كان يقف أمام كل الإدارات الأمريكية في التعاطي الإيجابي مع السودان ويمنعها بقوة تأثير اللوبيات المناهضة للخرطوم من اتخاذ قرارات إيجابية.
-6-
السبب الثاني/ – وهو الأهم – مهني، مُتعلِّقٌ بالتحديات التي تُواجه مهنة الصحافة الورقية، وصراعها من أجل البقاء بقوة وفاعلية وتأثير في ماراثون السباق الإخباري.
مع ثورة الاتصال والمعلومات، تراجعت أسهمُ الصحافة الورقية في سباق الأخبار وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تخلط المعلومات بالشائعات وتطلق الأخبار المفبركة.
الصحافة سلعةٌ سريعةُ التلف، تُراهن على وقتٍ معلومٍ ومحدودٍ في إنتاج الأخبار وطباعتها وتسويقها.
أذكر حينما كُنَّا صحفيين بالعزيزة (الرأي العام)، في العام 2003، اضطرَّت إدارة التحرير لإصدار أربع طبعات للحاق بخبر بداية الهجوم على العراق، وبيان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (الصدمة والرعب).

-7-
من الواضح أن مجلس الصحافة والمطبوعات، بقيادة الأستاذَين الجليلَين فضل الله محمد وعبد العظيم عوض وأركان حربهما؛ انتبه بذكاء مهني رفيع لدلالة لحاق صحيفة (السوداني) بالخبر في توقيت حرج ودقيق، ما بعد الرابعة صباحاً.
مجلسُ الصحافة لم يُرِدْ فقط تكريم (السوداني) بتلك الشهادة الذهبية، ولكنَّه أراد التأكيد على أهمية الصحافة الورقية، ومقدرتها على الإفلات من عقارب ساعة الطباعة.
وأراد كذلك المجلس تحفيز وتشجيع بقية الصحف للمُثابرة من أجل تحقيق السبق الصحفي، والانفراد بالأخبار المُهمَّة وترك الأخبار البلاستيكية الباردة.
-أخيراً-
السبب الثالث/ لاهتمام القراء بخبر (السوداني) هو سببٌ نفسيٌّ، مُتعلِّقٌ بالرغبة في الحصول على أخبار سعيدة ومُفرِحة، تُوفِّرُ جرعاتٍ لمُقاومة الإحباط، وسط زخم الأخبار السيئة التي وصفتها الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي: (أخبار تبيعك تذكرة للهروب من الوطن).

بقلم
ضياء الدين بلال


تعليق واحد

  1. سوف تكتفى أمريكا برفع حظر سفر السودانيين وسوف يستمر الحظر الاقتصادى لسنه أخرى على الاقل وريما أكثر .