الصادق الرزيقي

د. إبراهيم.. نجوم يسري بها الساري


(أ)
في تسارع الأزمة وفجوات التاريخ، أناس منسيون، أو يغفل عنهم الناس عمداً أو بلا سبب، ونتيجة لتواضعهم الجم الذي يخجل الشمس التي تختال في مداراتها، يضيعون فرصاً وسوانح نادرة كان يمكن أن تجلسهم على هامة المجالس ويصبحون تيجاناً على رؤوس الزمان،

فإذا كان الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قد قال إن شيمة العلماء التواضع، فما بالنا بهؤلاء المتواضعين العلماء الذين يتسربون من أمام مساقط الأضواء ولواقط الأصوات كما الضوء الشارد والعطر الشرود، وكنفح الأزاهر مثل النسيم الطلق يرحل لطيفاً خفيفاً شفيفاً، بينما يقبع في الواجهة الدجالون والمتزلفون والأفاكون والكذابون.. والبعض اللزج من دمامل الحياة.. فيسمو العلماء بعلمهم ويبرق أصحاب الزيف برهةً ثم يغيبون خلف ظلام الفراغ الأهوج والأعمى الذي جاءوا منه، وبعض هؤلاء العظماء والعلماء وهم وهج الحياة وزينتها وروحها يقبعون في الأرصفة بعيداً عن الزحام.

(ب)
في مطلع السنوات التسعين من القرن الماضي، حملتنا طائرة متهالكة إلى مدينة الفاشر، وكان عمدة رحلتنا وتاجها الأستاذ البحاثة الشهير المغفور له الطيب محمد الطيب، صاحب البرنامج الشهير على المرئي أو (المرناة) كما أصل لكلمة (التلفاز) العقيد الليبي الراحل معمر القذافي (صور شعبية) الذي كان يقدم على تلفزيون السودان ويبث أثيرياً على إذاعة أم درمان، وفي الطائرة رهط كبير من المثقفين من أبناء دارفور والسياسيين، والإنقاذ لم يمض على بزوغها إلا ثلاث سنوات، لم نمكث في المطار والفاشر إلا سويعات حتى اعلتينا ظهر بص قديم من عربات الشحن (النيسان) وتوجه بنا الى مدينة كتم الجميلة، ومنها الى الشمال الغربي في بطن الصحراء بعيداً عن الحضر والمدن عند واحة ظليلة كثيفة الأشجار تحاصرها الرمال من كل جانب هي (رهد الجنيق) بشمال دارفور، وعلى مقربة منه جبل متوسط الحجم مجوف من الداخل له فوهة ضخمة في قمته يلقي منها السجناء، ويعرف الجبل باسم سجن (شرنقو) وهو سلطان قبائل الخزام العربية الذي حكم تلك البطاح قبل (510) سنوات، ولديه قصة مشهورة في تاريخ عرب دارفور وكردفان تعرف بقصة (ناقة فني) كتب عنها ووثقها الأستاذ الكبير حسين محمد حامد النحلة في كتاب له بهذا الاسم، وبجانب الجبل السجن يوجد جبل (العريقي)، وربما سمي بهذا الاسم نسبة الى قصة ناقة فني نفسها، وهي تمثل أيقونة تراث قبائل دارفور العربية.

وفي هذا المكان حضرنا مؤتمراً حول تطوير الرحل، وكانت أيام لا تنسى تذكر بأيام العرب القدماء، حيث تجمع الرحل من كل مكان بإبلهم ونشروا خيامهم وضربوا أوتاداً في الرمال وبيوتهم من البروش في كل فج، وحلت الظعائن والهوادج عند منعرجات الرمال وبين ضفاف الرهد الكبير .. وآلاف الإبل والخيول تملأ وجه الأرض بلا حد ولا عدد، المؤتمر ورهد الجنيق قصة أخرى لها ميقات قصها .. ولا علاقة لها بما نود ذكره هنا.

(ت)
عدنا بعد ثلاثة أيام الى مدينة الفاشر في معية الطيب محمد الطيب، ولما كان الرجل يطأ باقدامه لاول مرة اباطح دارفور وعرصاتها وفيافيها ومهامها ومفاوزها، ويدلف مطرقاً فاشر السلطان، ما أن هجعنا ظهراً من سفرنا الذي لقينا فيه نصباً، وأقمنا في قصر الضيافة.. حتى راح الأستاذ في سبات عميق أفاق منه بعيد صلاة العصر، وبعد أن عدل طاقيته فوق رأسه المنهك، سألنا وهو مازال يتثاءب في تمهل وهو يتمطى عاقداً يديه أعلى كتفيه:

(هل في الفاشر زول نتونس معاه؟).
غشيتنا حالة من الانقباض على مظنة أن السؤال فيه نوع من الاستعلاء، لكن صفاء قلب الرجل ونيته البيضاء أزالا ذاك الانقباض، قلنا له هناك رجل عظيم الفائدة غزير العلم في جامعة الفاشر، وكانت يومها تسمى (جامعة الفاتح من سبتمبر) فاردف بسؤال آخر:

(عنده حاجة .. عنده علم ..عنده شيء يستفاد منه ..؟)
قلنا له أنا ورفيقي محمد عبد الكريم عبد الغني رد الله غربته:

(يا أستاذ الطيب فلنذهب وأحكم بنفسك).
تحركنا قبيل المغرب، وصلينا الفريضة في مسجد الجامعة ودخلنا على البروفيسور إبراهيم آدم إسحاق نائب مدير الجامعة، وهو من أعظم علماء فقه اللغة واللسانيات في بلادنا، حجب نفسه بالتواضع وانزوى عن الإعلام وساحاته إلا لماماً، في السابعة إلا خمس دقائق كنا مع البروف في مكتبه في ذلك المساء، ولم يلبث الأستاذ الكبير الطيب محمد الطيب الذي جاء متحفزاً لقتال وسجال معرفي، أن رمى رميته الأولى، وسأل البروف قائلاً:

(يا دكتور إبراهيم .. ما علاقة دارفور وأهلها بحرف الكاف، أسماء الناس كلتوم وأبكر وكورينا وكاكوم .. وأسماء المدن والبلدات كتم وكتيلة وكبكابية وكلبس وكاس وكرولي وكالوك تنج ..؟!!).
ثم أسند استاذ الطيب ظهره الى المعقد مبتسماً كأن طعنته النجلاء بلا رد …

هنا صمت البروف إبراهيم آدم إسحاق برهة وابتدر كلامه بقوله: (الكاف من الحروف الحلقية الجافة ..)، ثم أبحر بنا في عالم اللغة وفقهها والالسن وفضاء اللغات، والبروف يتحدث كما عرفنا اثنتي عشرة لغة من لغات العالم، وحرف الكاف محل السؤال فتح آفاقاً، فكنا من باب الى باب ومن ساحة الى ساحة، يتدفق العلم الغزير كما تهمي السحاب.. من الساعة السابعةً مساءً لم يتوقف البروف حتى الحادية عشرة بحديثه الهادئ ونبرته وصوته العميق، والأستاذ الطيب محمد الطيب فاغر فاه يستمع في دهشة وينتفض أحياناً كالملدوغ .. وعندما عدنا الى مقر الإقامة ثم الى الخرطوم كان الطيب محمد الطيب مشغولاً بما سمع ويقول دائماً:

( لم أر مثل هذا الرجل في حياتي .. مكانه ليس هناك ( ..!

(ث)
كنا كمن ركب مركبة فضائية وساح بها في عالم بعيد في سماوات اللغة والتاريخ والفقه وعلم الاجتماع وتراكيب الكلمات وما يسمى التصويت وكيف عرفت الألسن البشرية تركيب الكلمات من الأصوات وعلاقة البيئة باللغة، وكيف انتظمت الحروف في كل اللغات من اصواتها المحكية مع الطبيعة بموجوداتها ومخلوقاتها والأفعال والرياح والسحب وهزيم الرعود، عالم فسيح بديع، جال بنا فيه ثم حط بنا عند اكتف حرف الكاف أخيراً، موضحاً ومعلقاً على علاقة اللسان الدارفوري عربيه وأعجميه ورطاناته وعاميته بحرف الكاف.

كان تاريخ السودان في ممالكه وسلطاناته وحضاراته القديمة حاضراً على مرويات ولسان البروف إبراهيم آدم إسحاق، حكى عن اللغة النوبية القديمة والهيروغلفية والألفاظ والعبارات التي تسربت من السنسكريتية العربية والفارسية اللاتينية القديمة والأردية ومن لسان الآشوريين والكنعانيين والفينيقيين إلى اللسان السوداني القديم، ومنه الى لهجة اهل دارفور العامية التي الف البروف فيها معجماً من عدة أجزاء يعد تحفة علمية ومعرفية نادرة.

(ج)
يعد البروفيسور إبراهيم آدم إسحاق من أعظم اللغويين في السودان، ولد في حلة بابكر على مقربة من مدينة الفاشر التي درس فيها المرحلة الأولية والوسطى والثانوي بمعهد الفاشر العلمي، ثم كلية الآداب بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وتخرج فيها نهاية الستينيات من القرن الماضي، وعمل مدرساً بالمدارس الوسطى والثانوية، ثم حصل على درجة الماجستير في عام 1975م، وابتعث لنيل الدكتوراة في جامعة عين شمس بجمهورية مصر في فقه اللغة عام 1988م، وعاد ليعمل أستاذاً لفقه اللغة بجامعة أم درمان الإسلامية، ثم نائباً لمدير جامعة الفاتح من سبتمبر (جامعة الفاشر)، ثم عاد لجامعة ام درمان الإسلامية ومنها للمملكة العربية السعودية، وله عدة مؤلفات في موضوعات لغوية وتاريخية منها (الأصول العربية للهجة دارفور العامية/ مقدمة في دراسة النحو العربي/ مشكلة التأنيث والتذكير في الدواوين السودانية/ الخلوة والكتاب في دارفور رسومها وآدابها/ هجرة الكلم وسياحة الألفاظ / من مزالق التعبير بالفصحى في الصحف والدواوين السودانية/ معجم اللهجات العامية في دارفور)، وله العديد من البرامج الإذاعية والتلفازية، وأُجريت معه حوارات مرئية ومسموعة وصحفية منشورة في الصحف.

وما يميز البروف الزاهد العابد، أنه صورة تجسد قيم التواضع والابتعاد عن مباهج الدنيا وزيفها، يخدم العلم والمعرفة في تجرد وإخلاص نادر بلا تزيد وتنطع وتباهٍ، خافضاً جناحه للأنام كافة، وكل من يعرفه يعرف عنه هذه الخلال والسمات، بصمته المهيب وصوته الواثق الخفيض وعلمه البحر، فتواضعه تاج يزين حياته وهو ما يرفعه فوق كل الهامات، فهو أبعد الناس عن التكبر والغرور، لو وجدته لحسبته من غمار الناس، وعندما يتكلم تجده أحق الناس بصدور المجالس، فقد نال العلو والشرف.

وأمثال البروف إبراهيم آدم إسحاق، هم النجوم الحقيقيون في حياتنا، تنبعث منهم شعاعات العلم والمعرفة والعطاء، ليسوا مثل النجوم المزيفة التي تملأ حياتنا بلا معنى ولا رصيد.. وأمثاله كُثر في مسارات الدنيا.. فهل نجعلهم هم القدوة والمثال ومحل الافتخار والزهو؟

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة


تعليق واحد

  1. تقول ان الطيب كان فاغر فاهو كالمدوغ… و السؤال.. كيف يغغر فاه كالملدوغ.. و هو قد استمع لدكتور عبد الله الطيب حتى الثمالة…. مع احترامنا ل دكتور ابراهيم… ف لبس هناك من تفغر الافواه ل حديثه غير د. عبد الله الطيب…
    ثانيا لا يمكن لاي انسان اجادة اكثر من 3 لغات بالاضافة للغته الام… ما زاد عن ذلك يكون الماما فقط…
    مع وافر الاحترام لك ولادبك الجم…فانا من متابعيك في حادية الانفصال الانتباهة… حيث اني انغصالي حتى النخاع… ( علي كيفي !!!)