جعفر عباس

التخبيص فن وموهبة


في مدينة سودانية عملت بها في بداية حياتي العملية، لفت نظري شاب يملك قدرات خطابية عالية، لا يتلجلج أمام الميكروفون، ومن ثم فقد كانت خطبه السياسية تستقطب جمهورًا كبيرًا، ما جعله نجمًا مرموقًا في صفوف الحزب الذي كان ينتمي إليه، ولكنني لاحظت انه يتلاعب بالحقائق والأرقام والتواريخ، ولا يتردد في القول إن حدثًا مهمًّا وقع في اليوم الحادي والثلاثين من فبراير، بل كان -مثلاً- »يوثق« كلامه بتأكيد أن الزعيم السوداني الكبير اسماعيل الأزهري )رافع علم استقلال البلاد في الأول من يناير من عام 1956(، خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة في تمام التاسعة صباحًا بتوقيت الخرطوم في الخامس من مارس من عام 1939م طالبًا الدعم لإخراج الإنجليز من السودان.

وكان الناس يعجبون بذاكرته الفذة التي تختزن تفاصيل الأشياء، ولكن قلة منهم كانت تعرف أنه لم تكن هناك أمم متحدة عام 1939م، وأن التاسعة صباحا في السودان، هي الواحدة فجرا في نيويورك، وهو موعد لا يعمل فيه موظف في الأمم المتحدة، حتى لو تشقلبت الدنيا فوق – تحت، وأن الأزهري لم يسافر إلى نيويورك في تلك السنة ولا بعدها بعشر سنوات، وصاحبي هذا نموذج كلاسيكي للسياسي الذي يتعمد أن »يخُم« الجماهير، بالهدير والحبال الصوتية التي تتدفق منها الأكاذيب، بينما تتقمص الجماهير روح القطيع ويصفق الآلاف عندما يصفق بضع عشرات.

وقد قاطعته مرة منبهًا إياه إلى أن التواريخ التي أوردها غير صحيحة فأفحمني بسيل من الأكاذيب مثل: راجع الطبعة الثالثة من صحيفة نيويورك تايمز ليوم الخميس 6 أبريل من عام 1955م، ولم يكن السيد جوجل قد وُلد في ذلك الزمان، وبالتالي لم يكن في مقدوري أن استوثق من صحة ما يقوله، ثم أخرج من جيبه شريطًا مسجلاً زعم أنه فيه خطبة لزعيم مات قبل اختراع التسجيل الصوتي.

وصادقت الرجل لاحقًا واعترف لي بأن الخطابة السياسية المنبرية تتطلب جرأة في طرح الحقائق والأرقام بغض النظر عن صحتها، واعترف أيضًا بأن الغوغائية سلاح فعال للتعبئة السياسية وكسب الأصوات في الانتخابات، وأنه لا بأس في أن تدرك قلة أنه هجاص وشلاخ وأفاق طالما غالبية مستمعيه مقتنعون بصحة ما يقول، وأضاف: الحكام يكذبون ويحولون العجز في الميزانية إلى فائض، وإذا افتتحوا سوقًا جديدة للعلف زعموا أنه بداية طفرة لتحقيق الأمن الغذائي، وإذا حدث شح في المواد التموينية قالوا إنه مؤامرة إمبريالية »تهدف إلى النيل من المكتسبات الثورية«.

وتحضرني هنا حكاية طريفة عن العالم ألبرت آينشتاين صاحب النظرية النسبية، سبق لي ان تناولتها عرضا في مقالات صحفية، لأنني لم أكن متأكدا من صحتها، ولكنني وجدتها مؤخرا في موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت، وخلاصتها أن آينشتاين سئم تقديم المحاضرات بعد أن تكاثرت عليه الدعوات من الجامعات والجمعيات العلمية، وذات يوم وبينما كان في طريقه إلى محاضرة، قال له سائق سيارته: أعلم يا سيدي أنك زهجت وقرفت من تقديم المحاضرات وتلقي الأسئلة، فما قولك في أن أنوب عنك في محاضرة اليوم، وخاصة أن شعري منكوش ومنتف مثل شعرك، وبيني وبينك شبه ليس بالبسيط، ولأنني استمعت إلى العشرات من محاضراتك فإن لدي فكرة لا بأس بها عن النظرية النسبية، وسارت المحاضرة على ما يرام إلى أن وقف بروفيسور متنطع، وطرح سؤالاً من الوزن الثقيل، وهو يحس بأنه سيحرج آينشتاين، هنا ابتسم السائق المستهبل وقال للبروفيسور: سؤالك هذا ساذج، لا يطرحه حتى طالب المرحلة الثانوية، بدرجة أنني سأكلف سائقي الذي يجلس في الصفوف الخلفية بالرد عليه. وبالطبع فقد قدم »السائق« الجالس وسط جمهور المستمعين، ردًّا على السؤال جعل البروفيسور يتضاءل خجلاً!
‏‏‏‏

زاوية غائمة
جعفر عباس