الصادق الرزيقي

الأمير الأحمر ..


قبيل انطلاق المؤتمر العام رقم (19) للحزب الشيوعي الصيني الذي يبدأ غداً، كان يوم أمس حافلاً في العاصمة بكين ، التي بدت بغيمها وزينتها وبهارجها ونظافة شوارعها وتنظيم طرقاتها وممراتها وساحاتها كأنها عروس تتحضَّر ليوم زفافها.

فالحدث كبير يجري كل خمس سنوات في أكثر أنظمة الحكم الشيوعية استقراراً وتطوراً في العالم وإثارة للدهشة والانتباه، حيث يفصل الحزب الشيوعي الصيني ما بين السياسة والاقتصاد، وربما تلك هي النسخة الصينية من مفهوم العلمانية ، حيث تركت التجربة الصينية كما يبدو « ما للسياسة للسياسة وما للاقتصاد للاقتصاد « فالسياسة هنا تقوم على الأيدولوجيا الاشتراكية ونظامها، والسوق والاقتصاد يعتمد نهجاً هجيناً فائقاً ومتفوقاً ما بين الرأسمالية وبقاء القطاع العام قوياً منافحاً يصارع الأجيالا، يعبر عن اشتراكية خضعت لتجارب الهندسة الوراثية..

> قبيل التئام المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني، كانت بكين صباح أمس تستقبل رؤساء اتحادات صحافية ومنظمات إعلامية من (67) دولة من قارات العالم المختلفة، جاءوا لحضور مؤتمر أكبر الأحزاب الشيوعية وأرسخها قدماً في التاريخ، جلس ثلاثون منهم وهم قادة للإعلام والصحافة ببلدانهم في منتدى نظمته رابطة صحافيي عموم الصين، وهو أرفع تجمع إعلامي تشهده بلاد الجنس الأصفر، للمناقشة والمدارسة حول دور الإعلام في مبادرة الحزام والطريق التي طرحها الرئيس الصيني ( شي جين بينغ ) لإحياء العلاقات التجارية التاريخية والاقتصادية بين الصين ودول طريق الحرير البري والبحري على أساس جديد، تحفزه روح الصين الحديثة وتطلعاتها في تحقيق نهضة تضعها على قمة العالم الاقتصادية وهي الآن ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة وربما تتخطاها بعد حين قريب، والمبادرة التي أطلقها الرئيس الصيني تعني بفتح المسارات والطرق الجديدة وخطوط السكك الحديدية على طول طريق الحرير القديم الذي ينطلق من الصين حتى قلب أوروبا ومن الموانئ الصينية عبر البحار والمحيطات الى أوروبا والغرب وقارات العالم المختلفة، بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي وتبادل المنافع التجارية وتحقيق الكسب والفوز المشترك كما يقول شي جين بينغ، وتلتقي شعوب أكثر من (29) دولة يمر بها طريق الحرير البري و(69) دولة تغشاها مبادرة الحزام والطريق البحري، وبتكلفة تبلغ مئات المليارات من الدولارات تحملت الصين جلها، تصرف على تأسيس المحطات التجارية التي قامت وأُنشئت ما يزيد عن العشرين منها بالإضافة للطرق والسكك الحديدية والمطارات والبنوك وغيرها من البني التحتية اللازمة لتصدير فائضات الصين من المواد الخام والإنتاج الصناعي واستقبال صادرات الدول الأخرى في أكبر عملية للتبادل التجاري لم يشهدها العالم من قبل بهذه الكيفية والتنظيم والعزيمة الجبارة .

> اذا كان الرئيس الصيني قد ابتدع هذه المبادرة وأطلقها لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية، فإن مبادرة الحزام والطريق تحقق غايات ثقافية وسياحية وتواصل وثيق بين الشعوب المختلفة وتؤسس للنفوذ الصيني عبر القوة الناعمة وليس الجيوش او الحروب او التفوق العسكري بما لا يخطر على بال، فاستلهام التاريخ القديم وحقنه بمصل حديث ومعاصر من الأفكار الخلاقة الضخمة والملهمة، هو عبقرية صينية جديدة سيكون لها أثرها السريع والقادم على النظام العالمي كله في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية وفي ربط الشعوب مع بعضها البعض وتأهيلها للتواصل وتبادل المنافع، فقد تسابقت دول العالم الى توقيع مذكرات التفاهم والاتفاقيات مع الصين للاستفادة من هذه المبادرة وتكفل بكين بإنجاز البنيات التحتية ودعم اقتصاديات الدول التي يعبرها طريق الحرير وتوفير الطاقة والخدمات، هذه في ذاتها تعتبر عند بعض الدول هبة من السماء هبطت عليهم مع بنات أفكار الرئيس الصيني، الذي يحكي تاريخه عن عقلية ونمط قيادي فريد سيحدث انعطافاً هائلاً في مفاهيم متنوعة ومتعددة، ويعطي بلاده فرصتها لتجلس على قمة أعلى من (همالايا) كما كانت تحلم بعض الأساطير القديمة .

> ويذكر ( شي جين بينغ ) قراء العربية ومثقفيها، برواية بسيطة للكاتب المبدع اللبناني مارون عبود، لمارون قصص بديعة وبسيط كتبها لتغذية الخيال الشعبي وفتح أذهان الناشئة على العالم السحري لما وراء الحياة والطبيعة ومستوحاة من الحياة الريفية اللبنانية نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، له رواية تسمى( الأمير الأحمر ) ، يجسِّد فيها التطلعات والآمال وصراع الخير والشر، فمن المصادفة الغريبة أن الرئيس الصيني الذي ولد نشأ في أقصي الريف الشمالي الفقير، هو الرئيس ربما الأصغر سناً ما بين الرؤساء السبعة الذين حكموا الصين منذ ثورتها 1947 بقيادة ماو تسي تونغ، هو مولود بعد ست سنوات من انتصار الثورة الصينية، والده كان من قادة الثوار المعروفين من رفقاء الزعيم التاريخي ماو تسي تونغ، وتربى (شي) في كنف الثورة وشعاراتها ونضالاتها الكبيرة وكفاحها المرير لتغيير صورة الصين، مربط الفرس في هذا .. إن أبناء القادة الكبار من الثوار الصينيين أطلق عليهم في كل مراحل أعمارهم ( الأمراء الحُمر ) باعتبار أنهم رضعوا روح الثورة الحمراء من أثدائها وخبروا ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فهذا (الأمير الأحمر) الذي يحكم الآن القوة الثانية في العالم الصاعدة الى الريادة والقيادة، وإن كان في مجال الاقتصاد، يمضي بقوة نحو الأهداف التي تحددت ومبادرته التي طرحها.. سيفوز بلا شك فوزاً مشتركاً مع شركاء الصين وأصدقائها ودول الحزام والطريق..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة