الصادق الرزيقي

إسكافي نيالا والواواء الدمشقي!!


(أ)
نشرت مجلة (العربي) الكويتية في عددها الأخير لهذا الشهر أكتوبر 2017م، مقالاً للأكاديمي المصري الدكتور محمد جمال الشوربجي، بعنوان (الإسكافي في عصر سلاطين الملوك)،

تعرض فيه لهذه الحرفة العتيقة والمهمة في عصرها الزاهر في مصر أيام المماليك وتطوراتها عبر التاريخ والحقب، وأثار المقال لدينا شجوناً لن تخمد، رغم الفارق الزمكاني بين مهنة الإسكافي التي تناولها المقال بالتفصيل، وإسكافي آخر في الربع الأخير من القرن العشرين في سوق أم دفسو بمدينة نيالا، عرفناه ونحن ثلة من الأصدقاء، وهو رجل محب للعيش على أهداب اهتماماته الأخرى بالسياسة والثقافة العامة يتعلق بصعوبة على حبال رخوة ومهترئة ليصل بها إلى دوحة الآداب والفنون الرفيعة التي كانت حلية تزدان بها حياة أجيال تلك الأيام.

ولعل كاتب المقال على مجلة (العربي) ذكر ما عايشناه في نيالا مطلع السنوات الثمانين من القرن الماضي، ففي مقاله أفرد فقرات عن مناقب بعض الإسكافية في قاهرة المماليك، حيث كانوا من محبي العلم والفقه ومنهم فقاء مارسوا الفُتيا، ودرسوا الفقه وعلوم القرآن وخالطوا العلماء ونهلوا منهم، ولم تمنعهم حرفتهم من ارتياد حلقات الدرس دارسين أو مدرسين، ولعل صاحبنا في نيالا صورة مقربة من أولئك، وكنا نظن أن الزمان لن يجود بمثله منذ عهد أبي القاسم الطنبوري الشهير، ومنذ أن ضاعت خفي حنين في جاهلية العرب القديمة ولم يعثر عليها حتى اليوم!!

إذا كانت الأيام والسنون تمضي وتمر في تلك المنعرجات مر السحاب، فإنها بالنسبة إلينا كانت كلمح البرق، انطفأ سريعاً كما لمع، وغاب عجولاً كما سطع، لم تمهلنا المواقيت والأزمنة أن نمكث طويلاً على تلال ذاك العمر الغض، والحياة كانت مليئة بأنواع من المتعلمين من معلمين وموظفين وطلاب وحرفيين، كانت حرفتهم الأدب إلماماً ومعرفة وسلوكاً وتزيناً، كم منهم من تزيأ بأجود الشعر وقشيب ثيابه، وحفظ القلائد من القصيد وعِذابه، كانت تلك الأجيال مفتوحة على عيون الشعر العربي والعالمي من آداب وفنون وموسيقى، بجانب اهتماماتهم بالثقافة الموسوعية وإلمامهم بما يجري حولهم في العالم، وكانت الليالي الأدبية عامرة، والمجالس زاخرة والأمسيات والعشيات كما تقول روضة الحاج (مبللة الثياب) من مطر التثاقف والمعارف والعلوم.

(ب)
في أحد الشوارع الضيقة داخل سوق (أم دفسو) القديم، وقريباً من الناحية الغربية من سوق الدجاج البلدي الذي يؤتى به محمولاً على أقفاص من الأغصان الجافة أو معلقاً على جنبات اللواري، ويتعالى صياح الديكة ويتطاير ريش الدجاج المنفوش، عند ممر ضيق في وسط السوق، يوجد دكان أو محل يشبه غيره من دكاكين الزنك، أمامه مظلة عبارة عن باب يفتح إلى أعلى ثبت بأحد العيدان الخشبية، وعلى جنبتي المظلة توجد ستارتان من خيش واقيتين من لفح الشمس، وأمام المحل ماكينة خياطة وأربعة مقاعد خشبية وكرسيان منسوجان من حبال البلاستيك زرقاء وبيضاء، وخمسة بنابر قصيرة، وفي داخل المحل توجد سندالة في وسط المحل مثبتة على الأرض، بجوارها مقعد مخصص لإسكافي ومعدات أخرى، وعلى أرفف المحل أنواع من الجلود المدبوغة والمصنعة بألوانها وقوالب خشبية لصناعة الأحذية والمراكيب وخيوط مختلفة ومخارز وخرز وأنواع من الربل والصمغ والمواد اللاصقة ومسامير (النقالة) الصغيرة الحجم ومشمعات ملفوفة وشواكيش صغيرة ومطارق وكراتين ومواد من الفلين وأصباغ وبعض المواد الكيميائية ومزيلات الألوان وكل معدات الصنعة، وعلى الأرفف وضعت بعناية أعداد من المراكيب المصنعة من جلود النمر والأصلة والثعابين وجلد الأغنام والأبقار والقطط البرية والثعالب، ومن الداخل علقت صور وهي قصاصات من مجلات وصحف قديمة أشهرها اللقطة التاريخية للضربة القاضية التي وجهها الملاكم وبطل العالم الأسطوري محمد علي كلاي لغريمة فريزر في المباراة التي أقيمت بينهما في النصف الثاني من عقد السبعينيات من القرن الماضي بالكنغو، ثم صور لتشييع أم كلثوم وهي صفحة من مجلة (آخر ساعة) المصرية، وتوجد من صحيفتي (الأيام) و (الصحافة) صور لنصر الدين عباس جكسا وعلي قاقرين وهدف قلة التاريخي في مرمى الهادي سليم، وكلها صور أبيض وأسود، بالإضافة إلى صور ملونة قادمة من نيجيريا للرئيس (شيخو شغاري) وصورة كبيرة للرئيس التشادي (فرانسوا تمبلباي).

(ت)
يجلس صاحبنا الإسكافي (ع) وسط محله تناثرت أمامه وحوله صحف ومجلات وأواني الشاي والقهوة، واضعاً على منضدة قريبة منه جهاز راديو ومسجل بسماعتين من ماركة أكاي ظهرت موضة في تلك الأيام بنيالا، ويبدو أنه ترك العمل اليدوي وأصبح لديه عمال يأتمرون بتوجيهاته، بعد أن انتعشت تجارته وذاق نعماء ربحها من بيع مراكيب جلد النمور الغالية والخامات الجيدة من المراكيب الأخرى واستحدث صناعة الأحذية النسائية وهي (الشباشب الخفيفة) و (الجزم) المتقنة الصنع من الجلود المصنوعة من مواد حديثة، بعد أن ترك صيانة الأحذية القديمة وخياطتها.

صاحبنا الإسكافي مربوع القامة، ونوعاً ما أقرب إلى القصر، ممتلئ الجسم، شديد السمرة، حاد النظرات، يضع على عينيه نظارة شفافة للنظر وليست نظارة شمسية، وعلى معصمه اليمين ساعة ذهبية لامعة يتفاخر بأنه اشتراها من مغترب من أقاربه، جلبابه ناصع البياض، يضع عمامته على مقدمة رأسه يكومها فوق جبهته، لا يرتدي إلا مركوباً من جلد النمر، باعتباره (فنجرياً) لا يشق له غبار، وميزته أنه منذ صغره وبعد أن ترك الدراسة في المرحلة الوسطي، التصق التصاقاً بزمرة من المتعلمين والموظفين بالمديرية وبلدية نيالا آنذاك والقاضي المقيم وضباط الجيش والشرطة والمعلمين، وخالط بحكم زبائنه الكثر أناساً متميزين من ذوي الذوق الرفيع والإبداع، فصار متشبهاً بهم إلى حد بعيد، لا يصادق إلا تلك النخبة ولا يتحدث إلا بلغتها، ويقول لك: لو واصلت تعليمي لكنت أرفع من هؤلاء جميعاً، ويتحول محل الإسكافي (ع) إلى منتدى كل ظهيرة عندما يمر عليه بعض الموظفين أو يطلبه الراغبون في بضاعته، أو يتزاور في محله أصدقاءه الذين جعلوا من دكانه مزاراً ومكان التقاء.. فخليط من الناس يجتمعون عنده، وتصبح الأحذية الشاخصة من رفوفها هم الجمهور الأول لمنتدى يومي فيه تناقش القضايا العامة وهموم الحياة، ثم يعرج جميع النقاش إلى الآداب والفنون والشعر والسينما والقصة وضروب الثقافة الأخرى.

(ث)
عرفناه ونحن ثلة من طلاب المرحلة الثانوية لدينا اهتمامات أدبية وقراءات محدودة في بداياتها مع تحذلق طائش وجرأة على نثر ما في كنانتنا البائسة، فعنده وجدنا بعض أساتذتنا من المعلمين، وكنا نروغ ونتزاوغ منهم، لكن مع مرور الوقت في أيام العطلة الصيفية نجلس على مقربة منهم بحجة أن لدينا أحذية وعمل مع صاحب المحل أو تلامذته من الحرفيين، فنستمع للمناقشات والطرائف، ونرى الكبار يتبادلون الأفكار والكتب، ونرى المجلات البيروتية والقاهرية ومجلة (هنا لندن)، والصحف تتناقلها الأيادي، والكتب ودواوين الشعر والروايات، وكان حظ صاحبنا الإسكافي (ع) أنه يبدي فرحاً بوجود هؤلاء المثقفين في محله، ويستمتع بنقاشهم دون أن يخوض فيه كثيراً فزاده منه قليل، لكن ما أن يخرجوا تجده قد حفظ من نقاشهم الكثير، فيتباهى به، وينسب الآراء النيرة التي تلقفها إلى نفسه، ويدعي وصلاً بليلى الآداب والفكر والمعرفة، وكان ظريفاً ولطيفاً وصاحب نكتة، وله تعليقات ساخرة ونكات صارت مثلاً وسارت بين أصدقائه وأترابه، وكنا نحن نحسب بعض مواقفه الطريفة عندما يغيب أولي الشأن الأدبي تاركين له ساحة المحل خالية، فيصبح مثل قبرة طرفة بن العبد
فيا لك من قبرة بمقبر خلا لك الجو فبيضي واصفري

(ج)
ذات خريف منهمر، الرعد يزمجر في سماء نيالا ومطر الظهيرة عنيف في تلك الأيام في النصف الثاني من الثمانينيات، كان الجو مثيراً لعطاس الأدب عند صاحبنا (ع)، جلس أمام محله متباهياً بقدوم أحد أصدقائه من مثقفي المدينة الكبار من سفر طويل امتد لسنة ونصف السنة، قال لنا صاحبنا (ع):
– أمس زرت صديقي العائد من عواصم الأدب والشعر والكتب والمطابع، إنتوا أولاد ساكت رصيدكم قليل، وكل زوار دكاني دا مثقفين.

سألناه: كيف ذلك …؟
قال: انتظروا.

جاء صديقه بعد أقل من ساعة وكان على موعد معه، كأن هذا الإسكافي العنيد أراد أن يقدم صديقه الأثير على (فترينة) معروضاته الإبداعية ويستعرض به أمام الناس، جاء بعض موظفي المديرية من رواد المحل ومعلم وشاعر معروف، وبدأت الجلسة بتلقائيتها.. وعدم ترتيبها.

بهرنا القادم الجديد .. تحدث عن الشعر في عصوره المختلفة وذكر أسماء الفقهاء شعراء ونحويين ولغويين في التراث العربي لم نسمع بهم كثيراً في منتدانا الصغير مثل (الإمام السبكي والزجاجي وابن أبي وفاء والقاضي عياض والشاطبي والزمخشري)، ثم ذكر: ابن ميمون والرقيق القيرواني الذي ألف كتاباً سماه (قطب السرور في وصف الخمور)، وابن أبي الحديد الذي شرح نهج البلاغة، وداوود الأنطاكي الضرير صاحب تزيين الأسواق، وأبو عمر الشيباني والحازمي وابن القطاع وابن منظور وابن الحنبلي صاحب كتاب (سهم الألحاظ)، وأبو علاء النيسابوري صاحب كتاب (عقلاء المجانين)، وتطرق للأدب المعاصر والفلسفة والفكر الحديث ذاكراً أسماء كتب ومقالات للعقاد والرافعي وزكي مبارك والمازني وطه حسين ومحمد حسين هيكل ومحمود شاكر وأمين الخولي وسلامة موسى والزيات وجورجي زيدان وعبد الوهاب عزام ونجيب الحداد وجبران خليل جبران، ثم طاف بالأدب العالمي والفلسفة والشعر الشعراء.
وكان كل منا فاغراً فاه يستمع ولا يتنفس حتى، وصديقنا الإسكافي الذي لم يفهم عشر ما يقال ولا يستوعب شيئاً، خلف رجلاً على رجل مبتسماً كقائد منتصر، حتى دنت ساعة الافتراق فتفرقنا كل في طريق إلى بيوتنا وأحيائنا والمدينة ضاجة ولاهثة .. ونحن مبتسمون مبتهجون.

وفي اليوم التالي التقينا بصديقنا الإسكافي في أفضل هندامه في وسط السوق الكبير أمام أحد البنوك، فنادانا بصوته الجهير متعمداً أن يسمع كل من في السوق
(يا أولاد قلتوا لي الشاعر السوري الإسمو (الواواء الدمشقي) عنده ليلة شعرية في السودان قريب)!!
ضحكنا وافترقنا …
لن ولم يدر صاحبنا المسكين الذي يلتقط الكلام كحاطب ليل أن الشاعر أبو الفرج محمد الغساني المعروف بأبي الواواء الدمشقي عاش ومات قبل ألف سنة!!
ثمة سؤال: (في كل مدن السودان أين ذهب كل هؤلاء من الجيل المثقف ومن توابعهم …؟) !!

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة